لقد أحدثت الثورة التكنولوجية تحولا كبيرا في مجال الصورة، إلى درجة جعلت البعض يقارنها باكتشاف الكتابة. فقد غزت الصورة مجالات ثقافية وغير ثقافية، وأصبحت حاضرة في أغلب مناحي الحياة كالتعليم والإعلام والفضاءات العامة وقاعات العرض وشاشات التلفزة ومواقع الإنترنيت والهواتف المحمولة والمختبرات العلمية... بل تجاوز الأمر الحضور الكمي إلى الحضور الكيفي؛ إذ لم تعد الصورة وسيطا محايدا لنقل الواقع ومحاكاته، بل أصبحت تعيد صياغة هذا الواقع، تجميلا أو تقبيحا أو أرشفة أو تركيبا أو خلقا جديدا. ولا شك في أن لهذا الحضور الطاغي للصورة انعكاسات كثيرة على الإنسان، جسديا ونفسيا وفكريا واجتماعيا وروحيا... وقد أثارت هذه الآثار مجموعة من ردود الفعل والمواقف المتباينة في مجالات وتخصصات علمية مختلفة، طبية وسيكولوجية وسوسيولوجية. ولم تكن الفلسفة بعيدة عن هذا الموضوع الذي يمس جوانب مختلفة من الإنسان، حيث انبرى الكثير من الفلاسفة لتحليل الظاهرة وبيان آثارها. ومن بين هؤلاء، الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمان من خلال الجزء الثاني من كتابه "دين الحياء من الفقه الائتماري إلى الفقه الائتماني"، المعنون ب"التحديات الأخلاقية لثورة الإعلام والاتصال"، منشورات المؤسسة العربية للفكر والإبداع؛ حيث حاول فيه اختبار فلسفته الائتمانية في الإجابة على التحديات الأخلاقية لحضارة الصورة، مستندا إلى خلفية فلسفية أخلاقية، ومنفتحا على نتائج الفيزيولوجيا والتحليل النفسي وعلم الاجتماع... وقد شيد معمار الكتاب على نسق يبدأ بتقديم كل آفة من آفات الصورة التي قسمها إلى ثلاث هي: آفة التفرج، وآفة التجسس، وآفة التكشف، ثم أتبعها بموقف الفقه التقليدي الائتماري وطريق تعامله مع هذه الآفة، ثم بموقف الفقه الائتماني. ينطلق الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمان من التمييز بين الحضارة الإسلامية التي هي حضارة فقه، مميزا فيه بين الفقه الائتماري (الفقه المسموع) والفقه الائتماني (فقه الأمانات) الذي يقوم على مبدأ الشاهدية التي تجمع بين السمع والبصر، ومن ثم فهذه الحضارة هي حضارة نظر، وبين الحضارة الغربية التي وإن بنيت على النظر في الأشياء، فإن مستندها النظر إلى الأشياء. وعليه، فان النظر العقلي في هذه الحضارة تابع لنظرها الحسي. فعقلها من حسها كما يقول طه عبد الرحمان. وقد نتج عن ذلك طغيان الصيغة المادية على هذه الحضارة إلى درجة أن ما يعتبر روحيا فيها هو مجرد مشخص بعيد التشخيص. وقد ساهمت في إبراز هذه الحقيقة تقانات الإعلام والتواصل التي جعلت الكل يتحدث عن حضارة الصورة وحضارة الفرجة، وكأن هذه التقانة أصولية جديدة أعادت الحضارة الغربية إلى جوهرها الذي غطته العقلانية الفلسفية التي سادت أوروبا منذ عصر النهضة إلى الآن. لقد حاول طه عبد الرحمان في كتابه هذا الوقوف على الآفات التي خلفتها حضارة الصورة، لاسيما في الجزء الثاني الخاص بالتحديات الأخلاقية لثورة الإعلام والاتصال، حيث قصر هذه التحديات التي أفرزتها ثورة الإعلام على ثلاث آفات هي: "آفة التفرج" و"آفة التجسس" و"آفة التكشف". كما قدم مجموعة من الصيغ لدرء هذه الآفات، منها الصيغة الآمرية التي يقدمها الفقه التقليدي، والصيغة الائتمانية التي تقدمها فلسفته الأخلاقية الائتمانية. سنحاول في هذه الحلقة الأولى الوقوف عند أهم ملامح آفة التفرج، على أن نخصص الحلقات القادمة لآفتي التجسس والتكشف. يحدد الفيلسوف طه عبد الرحمان آفة التفرج في ست خصائص هي: "التوسط بالصور"، و"تملك المصورات"، و"الإضرار بالقدرات"، و"استبدال الوهم مكان الحقيقة"، و"الإيقاع في التلصص"، و"التعرض للعنف". ويقصد بالتفرج لغة "النظر إلى الأشياء عن قرب للاستمتاع"، وهذا التعريف لا يبتعد عن التعريف الاصطلاحي الذي قدمه طه، حيث يقول عن التفرج إنه "الاستمتاع بالنظر إلى الصور عن قرب". وتتميز الصورة عن غيرها بملازمتها لحاسة البصر وكثرة تواردها واختلافها عن الشيء المصور، كما تتميز بصناعيتها وتجزيئيتها وسطحيتها ومكانيتها وسكونيتها، بالإضافة إلى تكاثرها ونسبيتها. لكنها وبحكم الكثرة والتنوع أصبح لها سلطان غير مسبوق على النفوس، جعل البعض يفضلها على المصور. وكان من نتائج ذلك، آفة التوسط بالصور. فلئن كانت علاقة الحواس بالعالم علاقة غير مباشرة؛ لأنها علاقة محكومة من جهة ببنية العضو (تركيبة العين مثلا)، ومن جهة أخرى بالعادات المكتسبة والمعلومات المختزنة والتصرفات المقررة والاعتبارات المقدرة، أو قل الثقافة، فإن الحضارة المعاصرة قد أولت للصورة أهمية خاصة بموجب أصولها اليونانية والرومانية ومعتقداتهما الدينية التي عُرفت بكثرة التماثيل والرسوم والأيقونات وبعقيدة التجسيد (الآلهة عند اليونان والثالوث المسيحي عند الرومان). وعليه، تعد الصور الحديثة متوسطة بالصور القديمة، "فأصالة صور المتفرج ترجع إلى كونها غير مردودة إلى غير الصور"، كما يقول طه عبد الرحمان. كما أن هذه الوساطة تعدت الأصلية إلى الكلية؛ إذ أصبحت الصورة هي الواسطة إلى الادراكات الحسية الأخرى كالصوت واللمس والشم والذوق؛ بحيث أصبح المشاهد يستمتع بأن يرى المدركات الأخرى على اختلافاتها مردودة إلى الصورة. ونتج عن ذلك تحولها إلى واسطة يتعامل بها المتفرج مع كل شيء في هذا العالم. كما أصبحت هذه الوساطة ندية، بحيث تصبح الصورة نسخة من الواقع الذي تمثله فتزيد قيمته بزيادة قيمتها وتنقص بنقصانها، وينتج عن هذه الندية حب المظاهر وحب الجاه ولفت الأنظار والتظاهر بما لا يرقى إليه، واتخاذ طقوس مظهرية ومسلكية خاصة. ومن آفات التفرج "تملك المصورات"؛ إذ تقوم بين المتفرج والصورة علاقة تقرب؛ حيث قربت إليه كل شيء، فيتوهم أنه لو ازداد منها قربا لكانت هي عين ما تصوره، ولأصبح بإمكانه أن يلمس الصورة بعينه، وأن يخلع على نفسه صفات اللمس. وقد انعكس ذلك على بنيات اللغة من قبيل "مد بصره" و"ألقى بصره" و"رمى ببصره" و"رشقه ببصره"... كما أن اللغة المعاصرة لا تحيد عن هذا التشاكل بين البصر واللمس من قبيل "أخذ له صورة" و"التقط صورة" و"أمسك به وضبطه..."، ولكن الأخطر، في نظر طه عبد الرحمان، هو تحول رغبة الإمساك إلى رغبة المتفرج في التملك، فكأنه وهو ينظر إلى الصورة يلمس المصور. فإذا ملك الصورة فكأنه ملك المصور. وهذا راجع إلى أن الرغبة في التملك تكون بحسب مدى الإدراك الحسي، وليس هناك حاسة أوسع مدى ولا أبعد من النظر. كما أنه ليس هناك حاسة أدعى لإيقاظ غريزة التملك منه، لأن النظر يورث المعرفة. وكلما عرف الناظر شيئا، توهم أن بالإمكان التسلط عليه، كما أنه ليس هناك حاسة أكثر لإيقاظ الشهوة من النظر، لأن هذه الإثارة تحصل عن بعد لا عن قرب، كما أنها تحرك باقي الحواس التي لا تتصل بالمنظور إليه إلا بالتملك المباشر، فيكون ذلك سببا لإثارة الاشتهاء في جميع جوارحه. بل ينعكس ذلك على علاقته مع الآخرين؛ إذ يتوهم أنه يمتلك المنظور إليه أكثر مما يتملكه الآخرون، فيقع في آفة التسلط على الآخر أثناء التعامل معه. ومن آفات التفرج تضرر القدرات؛ إذ يسلمه التعود على التفرج إلى الإدمان على الصور، فيؤثر ذلك على نشاطه الجسمي والفكري والنفسي كضمور العضلات وتصلب المفاصل، وضعف البصر والحد من إمكاناته. كما أن نشاطه الفكري يتضرر وتتوقف قدراته على التجريد والتأمل والمقارنة والتعليل والتحليل والتأويل والتقويم، بسبب التدفق السريع للصور. بالإضافة إلى نقل الكثير من الصور لمناظر انفعالية ومشاهد مثيرة تؤثر على العمليات الفكرية السالفة. كما أن التدفق مع سابق اعتقاده بصدق النبأ ينتهي بشل عمله العقلي. وقد يلحق الضرر الجانب النفسي للمتفرج؛ حيث يبلد تدفق الصور إحساسه، فلا يعود يتأثر برؤيتها مهما اشتد عنفها أو إثارتها، كما أن ذاكرته لا تحفظ إلا ظلالا باهتة منها فيؤثر ذلك على تعامله مع الواقع الحي، فيموت شعوره الإنساني أو يكاد. كما يعقُم خياله بسبب التخمة التي يصاب بها، فلا يكاد يجد الوقت لكي يطلق العنان لخياله سارحا في عالم الممكنات. ومن الآفات أيضا "إبدال الوهم بالحقيقة"؛ إذ الأصل أن الصور محاكاة وتمثيل للواقع، لكن التطور التقني غير هذا الأصل، حيث تم تقديم الصورة على الخبر، ويتجلى ذلك في نقل صور لا تناسب الخبر كأن تكون مؤرشفة أو مركبة أو معزولة عن سياقاتها. ومع ذلك يظل المتفرج مأخوذا بالصورة، بل يتوهم أن فيها غناء عن الخبر. كما أن الصورة فقدت طبيعتها الإعلانية وأصبحت قادرة على مضاهاة المصور في كشفه وحفظه وإظهاره وتحريكه، فأضحى المتفرج شغوفا بالصورة أكثر من المصور؛ إذ إنها تضيف إليه ما لا يوجد أو تسقط منه ما يوجد فيزداد توهما وبعدا. وإلى جانب هذه الأمور، يؤدي إدمان المتفرج على الصور إلى إسقاط كيفيات تعامله الافتراضي معها على تعامله مع المصورات الواقعية، فتغلب على تصرفاته معهم أوصاف الانفعال والإهمال والتشهي والتحكم والتقلب، بل قد يصل به الأمر إلى قطع أسباب الاستئناس بالناس والاجتماع إليهم، فلا يعتبر وجودهم أو يحترم حقوقهم كما لا يأنس بكلامهم. ومن آفات التفرج "تلفزة الواقع"، وهو ما يقوم به تلفزيون الواقع، لكنه على ادعاءاته الواقعية فهو يزيف الواقع بانتقاء الصور والأصوات التي تناسب الأهداف المرسومة، كما تخضع لعمليات الإنتاج والإخراج، كما أن الشخصيات منتقاة بعناية، وموضوعة في أماكن مخصوصة، مما يبعد عنها التمثيل الحقيقي لحياتهم اليومية. وعليه، فإن الواقع الذي تقدمه هذه البرامج هو واقع مبني موسوط. أما خامس الآفات التي يؤدي إليها التفرج فهي آفة التلصص. والمقصود به النظر إلى سوءات الغير من وراء ستار. وقد أشار طه إلى أن هذه الآفة ناتجة عن طغيان النظر على باقي الحواس بسبب هيمنة الصورة وتحول متعة النظر من نطاق الأثر الحاصل باتصال عين بالعالم إلى نطاق اشتهاء هذا الاتصال لذاته؛ حيث يشتهي المتفرج أن ينظر إلى الصورة لا بشهوة النظر فحسب، بل أيضا بشهوة الجنس، أي بشهوة النظر المفضي إلى المتعة الجنسية، ويستبدل بالنظر شهوة النظر التي تفضي بدورها إلى تعقب صور السوءات، مستبدلا بشهوة النظر شهوة الفرج، فينقلب نظره إلى سوأة مستترة لكنها تطلب الشهوة في كل شيء. وقد دعم هذا التحول الثورة الجنسية في السبعينات وظهور الفن الإباحي الذي قام على تعدي كل القيم الأخلاقية والأعراف الاجتماعية والسنن الخلقية التي تضبط أعمال الاتصال الجنسي، وتحويل المتفرج إلى متلصص كله وسوأة كله، بالإضافة إلى استخدام مؤسسات الإشهار لشتى مظاهر الجنس في إعلاناتها لترويج البضائع وإغراء المستهلكين، فزاد الطلب على الصور الجنسية سعيا لإخماد نيران الشهوة، لكنهم لم يزيدوها إلا طلبا لمزيد منها، أما إخمادها وتنظيمها فلم يعد يشغل بالهم. أما الآفة الأخيرة للتفرج فهي "التعرض لعنف الصور"، ويتجلى ذلك من خلال اتصاف تدفق الصور بالهجوم، واتصاف مضامينها بالقسوة، وإثارة شهوة البطش في المتفرج؛ إذ تقوم العلاقة بين وسائط الإعلام والمتفرج على الاتصال بدل التواصل؛ حيث تسير في اتجاه واحد تجبره على قبول قرارات وتحمل تصرفات لم يرغب فيها، فهي علاقة مبنية أصلا على العنف. ومن مظاهره المفاجأة والمباغتة، بحيث يتلقى صورا لا يستشار في فوائدها ولا في نتائجها ولا في عائداتها ولا في مواعيد بثها، كما أنها لا تراعي طاقته الاستيعابية، ولا مشاعره التي تهزها هزا، ولا قدراته الفكرية، كما تجعله يساوي بين الصورة والواقع والحقيقة. وبالرغم من ذلك، يتحول هذا العنف مع الألفة والاعتياد إلى نوع من المازوخية أو التلذذ بالتعنيف، أو قد يتحول إلى عنف متعد بحيث لا يلبث المتفرج أن ينقل علاقته العنيفة بالشاشة إلى علاقته بالناس تهجما وإيذاء واندفاعا وامتلاكا للحقيقة، مع حرصه على المحافظة على علاقته بهم. وإلى جانب هذا، تطفح مضامين الصور بالقسوة البالغة كمشاهد القتل والتعذيب والقصف والتدمير، منزلة بالمتفرجين ما أنزله الأشرار بضحاياهم. كما أنها تتلاعب بعقول المتفرجين بحيث توهمهم بأن الحرب الخاطفة بالأسلحة المتطورة أرحم بالإنسان من الحرب الطويلة بالأسلحة التقليدية. وقد تعدى هذا الأمر القنوات الإخبارية إلى صناعة السينما التي تحول فيها العنف إلى ضرب من ضروب التسلية واللعب. ولا شك أن التعود على هذه المشاهد يشرب قلب المتفرج القسوة، فيتبلد حسه وتموت مشاعره الإنسانية، فلا يبالي بأفعال العنف الحقيقية التي تحدث حوله، كما يتحول سلوكه إلى سلوك عنيف، فيرى أن إرادته هي التي ينبغي أن تكون، وأن علاقته بالآخرين هي علاقة ازدحام لا علاقة تماكن، مقتنعا بأن الحياة لا تتسع لهما معا. كما لا يعير اهتماما للقوانين والأعراف كما تحصل في العالم الافتراضي، فلا يتردد في انتهاك كل الضوابط في تعامل مع محيطه. بالإضافة إلى ذلك، تساق عين المتفرج بموجب تعرضها لهجوم الصور وقسوة مضامينها إلى أن تبطش بالمنظور عن بعد كما تبطش اليد بالملموس عن قرب؛ ذلك أنه لا يسعى إلى الإمساك بالمنظور فقط، بل يسعى إلى أن يستقل بمنظوره بحيث لا ينازعه فيه آخر، كما يتحول إمساكه إلى إمساك معانفة؛ لأن صور العنف التي تلقاها تجعله يعتقد أن كل ممسوك مأخوذ بالعنف؛ أي إنه "بطش". ويميز طه عبد الرحمان بين نوعين من البطش؛ بطش زالق وهو ممارسة العنف من أجل الإيذاء، و"بطش ماحق" وهو العنف من أجل البقاء. كما يتحول بطشه إلى شهوة "شهوة البطش"؛ إذ تورثه مشاهدة الصور العنيفة لا اشتهاء النظر فحسب، بل شهوة البطش، أي شهوة النظر الحاملة على إيقاع البطش.