وحدها جماعة العدل والإحسان من بين الأطياف السياسية المختلفة، العاملة في ظل الشرعية أو التي تشتغل خارج المؤسسات، معارضة كانت أم مؤيدة، لم تتقدم إلى حزب العدالة والتنمية وحليفها الاستراتيجي بالتهاني والتبريكات بمناسبة انتصارهم السياسي الملحوظ، غير أنها وبعد مرور أكثر من شهر على ذلك تقدمت إلى الهيئتين برسالة سياسية تدخل في إطار أدب النصيحة وليس التهاني أو التبريكات، فما هي خلفيات وأبعاد هذه الرسالة في ظل انحسار المشهد الثوري بالمغرب، وخروج الجماعة من حركة 20 فبراير، وفي ظل ظروف داخلية للجماعة ترتبط بانشغال الحركة بمن سيخلف عبد السلام ياسين؟ نحن أمام رسالتين يمتلكان من المقومات ومن الجودة ما يجعلهما يصنفان ضمن فن الرسائل السياسية التي يمكن تدريسها للأجيال مقدمتين معبرتين : لقد دأب العلماء على اختيار أجمل المقدمات التي تتناسب مع مضمون الخطاب المراد توجيهه، وقد اختار مكتب إرشاد جماعة العدل والإحسان أن يبدأ خطابه بسؤال الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، في مقابل ذلك وكرد من حركة التوحيد والإصلاح، اختارت التأكيد في بداية الرسالة على مفهومي الإتباع والإحسان، ودعوة الله التوفيق للرشد والصواب. خاتمتين متناسقتين : تضمنت رسالة الجماعة في خاتمتها الدعاء بالستر والعافية، في حين ختمت رسالة الحركة بدعوة الله معرفة الحق وحسن الإتباع ومعرفة الباطل وأن يرزقها اجتنابه، وهما نفس الكلمات الواردة في المقدمتين معا، وبذلك يتضح التناسق الموجود بينهما، من خلال ما سبق يتبين أن اختيار العدل والإحسان لكلمات العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، والستر في الأقدار، وخير العاقبة، فيه دلالة لمن يوجه لهم الخطاب أنهم قد يكونوا فتنوا في دينهم ودنياهم وآخرتهم مجتمعين، الشيء الذي يتطلب الدعاء والتضرع لله أن يبعدهم عن هذا المصير، وأن يجنب مخاطبيهم من حركة التوحيد والإصلاح، وحزب العدالة والتنمية ما وقعوا فيه من فتنة، وأن يجعل عاقبتهم خيرا. أما رد حركة التوحيد والإصلاح فقد تضمن كلمات الإتباع بالإحسان، والرشد والصواب، ومعرفة الحق و الباطل وحسن الإتباع، وهي رسالة تقتضي أيضا حسن التأسي بالرسول عليه الصلاة والسلام، وحسن إتباع الصحابة الكرام، في الاعتقاد والعمل، وأيضا في أدب النصيحة وقبول الاختلاف، وهو ما أكدت عليه الرسالة بمصطلحي الرشد والصواب، أي أن الممارسة الدعوية لا تخرج أن يكون صاحبها إما مخطئا وله أجر أو مصيبا وله أجران، وأن الحركة تسعى دائما لترشيد عملها، والبحث عن الصواب فيه والتحري في ذلك، وقد نلمس من ذلك أن حركة التوحيد والاصلاح تذكر الجماعة أن أفضل ما في العمل الدعوي هو صفاء العقيدة وحسن الإتباع لا الابتداع، وهي رسالة لطيفة للجماعة, المصطلح في الرسالتين: من خلال جردنا للمصطلحات الطاغية في رسالة جماعة العدل والإحسان نجد أنها تمتح من أدب المحنة والابتلاء، حيث سيادة مصطلحات : الابتلاء الاستبداد الاعتقال السلطة الذل والخنوع المستضعفين القهر...، الشيء الذي يستوجب مصطلحات أخرى مبثوثة في الرسالة مثل: الصبر والمصابرة المرابطة الاستشهاد الكرامة العزة والقوة التآزر البدل والعطاء ... إذا كانت رسالة العدل والإحسان ذات منحى حزين بمصطلحاتها وتعبيراتها حيث الألم والصبر والمرابطة فإن رسالة حركة التوحيد والإصلاح ذات نفس إيجابي وارتياح لما حققته من نتائج، حيث نجد مصطلحات مثل : الود السعة والرحمة الاختلاف في المنهج إقامة الدين المجتمع الاجتهاد التحولات الجارية الحراك الشعبي.. ، وهي مصطلحات تدل على نزوع الحركة نحو التعامل بإيجابية مع الوضع القائم وتطلعها للمستقبل. طبيعة الخطاب المتضمن في الرسالتين : هل يمكن اعتبار رسالة العدل والإحسان تدخل في إطار أدب النصيحة المتعارف عليه بين العاملين في الحقل الدعوي ؟ في قرائتنا لرد حركة التوحيد والإصلاح نجد كلمة التواصي بالحق بين معقوفتين، وكأن الحركة تستكثر على رسالة العدل والإحسان أن تكون جزءا من التواصي بالحق أو أن تكون جزءا من أدب النصيحة المتعارف عليه، خاصة أن الحركة تتحدث على أنها تدارست مضمون الرسالة وإشاراتها وكذلك الجهات المقصودة بها.. فماهي هذه الإشارات؟ ومن هي الجهات التي تقصدها ؟ لمعرفة ذلك سوف نركز أولا على مضمون خطاب رسالة العدل والإحسان من خلال التعابير والقضايا المطروحة فيها. رسالة جماعة العدل والاحسان : القضية المكزية للرسالة: تتضمن الرسالة قضية محورية أساسية من أجلها ثم مراسلة حركة التوحيد والإصلاح وحزب العدالة والتنمية، وهي تخطيء المسار السياسي لهما، كل ذلك من خلال نقد لاذع ومباشر وصريح، حيث نجد في الرسالة اتهاما مباشرا للحركة والحزب معا: بالمناورة والخداع والمكر. تزكية الظلم والدفاع عنه. خدمة الاستبداد من خلال المشاركة السياسية والعمل من خلال المؤسسات غير الشرعية. المشاركة السياسية انتحار حقيقي للحركة والحزب معا. اتهام الحركة بالخلط في تقييم المرحلة. وأن عمل الحركة والحزب مضيعة للوقت والجهد. عمل الحركة والحزب تمكين للاستبداد. الحركة والحزب يبدلان في الاتجاه الخطأ. اتهام الحركة والحزب بالتلبيس. اتهامها للحركة وأفرادها بإتباعهم لشخص واحد أو شخصين هم من بنوا توجه الحركة، وكأنها بذلك تتهم أفراد الحركة بامتلاكهم لعقلية القطيع. غالبا ما كانت هذه اللغة الاتهامية ميزة شباب الجماعة داخل الجامعة، ولم يتبنى مجلس إرشاد الجماعة قبل ذلك وبشكل رسمي مثل هذا الخطاب، لذلك يمكن اعتبار هذه الرسالة نقلة نوعية في طبيعة التعامل المرتقب بين الجماعة والحركة وحليفها الاستراتيجي حزب العدالة والتنمية. الرسالة الهامشية : تتضمن الرسالة أيضا خطابا ثانويا وتابعا، ومتناقضا مع سابقه، حيث نجد كلمات مثل: الاحترام الواجب للحركة والحزب. وأنهم أهل عمل. عدم تمني الفشل. وصف نساء ورجال الحركة والحزب بأنهم من خيرة أبناء هذا الوطن. وصف الحركة والحزب بأنها ستبدل جهودا كبيرة. يضاف إلى ذلك أن الرسالة تضمنت تكرارا كبيرا مقارنة مع حجم الرسالة لكلمة الأخوة والمحبة أكثر من سبع مرات... بذلك يتضح أننا أمام ازدواجية في الخطاب، بل نحن أمام رسالتين داخل نفس الرسالة، رسالة مركزية تتضمن قدرا كبيرا من الهجوم والنقد اللاذع، ورسالة أخرى عبارة عن حشو مضاف للتخفيف من حدة الخطاب وقوته على المتلقي. خطاب استعلائي : يمكن اعتبار خطاب الجماعة في هذه الرسالة خطابا استعلائيا بامتياز على الرغم من تضمنه لعدد لا يستهان به من مصطلحات الأخوة والمحبة، لأن طبيعة الموضوع تقتضي الانتصار لمنهج تجاه منهج واختيار تجاه اختيار، ولو تطلب الأمر إعطاء دروس في التضحية والنضال !! والتعابير الدالة على ذلك كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر قول الجماعة للحركة: لما كنا نجهر لكم به ... الخوف الشديد عليكم ... ولقد خبرتم مع الأسف ... إنكم ... ولكننا ... الحديث عن "النجاح" و "الوصول" وجعلهم بين معقوفتين ... خطاب داخلي : يبدو أن رسالة العدل والإحسان موجهة إلى أبناء الجماعة أنفسهم مخافة أن يفتتنوا بشهوة الانتصار الذي حققه حزب العدالة والتنمية، بحيث يمكن اعتبار هذا الخطاب خطاب الصدمة للتأقلم مع الأوضاع المستجدة واستباق للأحداث، في ظل حالة من التيه تعيشها الجماعة بعد خروجها المفاجئ من حركة 20 فبراير، خاصة أن بعض شباب الجماعة ما فتئ يذكر بأنه على استعداد لتنظيم حزب سياسي يعمل في ظل المشروعية القائمة، لذلك فهي رسالة تحصين للبيت الداخلي، أكثر منها تصويبا لأخطاء طرف آخر. مضمون رد حركة التوحيد والاصلاح : رد منهجي : يبدو من خلال الرد أن حركة التوحيد والإصلاح كانت حريصة أن لا تنجر للرد على مختلف الاتهامات التي وردت في رسالة الجماعة، وكأن ما جاء في الرسالة لا يمثل إضافة جديدة ونوعية بالنسبة للحركة لما هو معروف من اختلافات بين الحركتين، وكأنها تقول أن هذه الرسالة غير موجهة لها ولا تعنيها إلا من باب سماع الشكوى، لذلك اكتفت فقط بتوضيح الفرق المنهجي بين مدرستين فكريتين، لكل منها رؤيتها واجتهاداتها وطريقة اشتغالها. رد شكلي: يبدو الرد الوحيد الظاهر في رسالة حركة التوحيد والإصلاح، هو رفضها لموقف الجماعة الذي يعتبر اجتهاداتها المرتبطة بخيار العمل المؤسساتي وخيار التدافع من خلال المشاركة والانخراط في الواقع مجرد قناعة لأفراد معدودين، مذكرة الجماعة بفضيلة الاجتهاد داخل الحركة وأنهم يتوجهون إلى الله بأن يريهم الحق حقا ويرزقهم إتباعه وليس إتباع الأشخاص. من خلال ما سبق يمكننا التساؤل الآن عن مستقبل العلاقة بين جماعة العدل والإحسان وحركة التوحيد والإصلاح؟ استراتيجية جماعة العدل والاحسان على ضوء الرسالة : نستشف من خلال الرسالة أن الجماعة تسعى إلى التمييز بين حزب العدالة والتنمية وحركة التوحيد والإصلاح، بحيث أنها عازمة على تصعيد خطابها تجاه حزب العدالة والتنمية خاصة، لكن مع نوع من التردد والتخوف من حليفها الاستراتيجي وجناحها الدعوي حركة التوحيد والإصلاح، الذي يمتلك قدرة أكبر على المواجهة والتصدي ولعل ذلك ما نستشفه من طغيان كلمات الأخوة والود تجاه الحركة مع قسوة في انتقاد الحزب، وقد بدأت إرهاصات هذا التوجه تظهر من خلال بروفات تدريبية، قام بها قيادات من الدرجة الثانية داخل الجماعة حيث صرح رشيد غلام بقوله أن "مزبلة التاريخ تتسع للمخزن ومن يساعده في إطالة عمره، سواء بسُبحته أو لحيته ... وجه المخزن أقبح من أن تستره لحية العدالة والتنمية...لذلك جاء المخزن بإخواننا في العدالة والتنمية غفر الله لهم، لستر عورته"، فما هي إستراتيجية حركة التوحيد والإصلاح في مواجهة العدل والإحسان؟ وهل ستتمكن من المحافظة على هدوئها المعتاد أمام الضربات المتتالية لجماعة العدل والإحسان؟ استراتيجية حركة التوحيد والاصلاح : يبدو من خلال طبيعة الرد الذي بلورته الحركة من خلال هذه الرسالة، أن الحركة لا تود الدخول في مواجهات مباشرة مع الجماعة بشكل رسمي ومفتوح، ويبدوا أنها ستتحول إلى ذلك الإطفائي الذي يعمل على التخفيف من أجواء الصراع التي يمكن أن تنشب بين حزب العدالة والتنمية وجماعة العدل والإحسان، غير أن هذا لا يعني أن الحركة ستقف مكتوفة الأيدي حينما ترى حليفها الاستراتيجي يتعرض للضربات دون أن تحرك ساكنا، فهي تمتلك أدوات من الردع والرد قد تستخدمها إذا تجاوز الأمر حده، ولا بأس بالتذكير هنا إلى المواجهات الطلابية بين فصيلي العدل والاحسان وطلبة التوحيد والاصلاح، حيث كان أبناء حركة التوحيد والإصلاح كلما اشتد عليهم ضغط الجماعة اتهاما بالعمالة أو موالاة للاستبداد يلجئون إلى مناقشة التصوف داخل الجماعة وما يرتبط به من خرافات ورؤى داخل الساحة الجامعية، وقد يكون هذا أيضا سلاحا مفضلا للتيار التربوي داخل الحركة. *باحث في علم الاجتماع جامعة محمد الخامس عضو المركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة