ليت المرحوم حافظ إبراهيم كان يدري أيّ نبوءةٍ إعجازيةٍ كبرى قذف بها إلى مَسمع الدّهر يوم حكىَ لنا أنّ اللغة العربية قالت عن نفسها.. «أنا البّحر في أحشائه الدرّ كامنٌ/فهل سألوا الغوّاصَ عن صدفاتي..؟!». صدق شاعر النيل، وها هو ذا العالم أجمع احتفل في 18 من شهر دجنبر2019 باليوم العالمي للّغة العربية، يُحتفىَ بها في هذا التاريخ من كلّ عام، كلغة عالمية، رسميّة متداولة، ومُستعملة في جميع المحافل الدّولية والمنظمات العالمية، ولم يأتِ هذا التتويج عبثا أو اعتباطا، بل جاء بعد نضالٍ متواصل، وجهودٍ متوالية انطلقت منذ أواسط القرن الفارط، بعد أن أقرّت منظمة الأممالمتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) ذلك في الدورة 92 لمجلسها التنفيذي المنعقد عام 2012، حيث طفق هذا المنتظم الدّولي في الاحتفال لأوّل مرّة بهذا اليوم في ذلك العام، قبل أن تقرّر الملحقية الاستشارية للخطة الدّولية لتنمية الثقافة العربية المعروفة ب (أرابيا) المنبثقة عن اليونسكو كذلك هذا اليوم عنصرا أساسيّا في برنامج عملها المتواتر في هذا المجال. يوم "العربيّة" العالمي «يجب بذل المزيد من الجهود في المدارس، والجامعات لنشر اللغة العربية، وتعزيز تعلّمها من أجل النهوض بالبحث والابتكار العلمي والإبداع. ويعّد نشر اللغة العربية في جميع أرجاء العالم وسيلة رائعة للتعاون والعمل على نشر السلام». (إيرينا بوكوفا، مديرة اليونسكو السابقة). لم تأت خطوة اليونسكو هذه من فراغ، بل من خلال سلسلة من القرارات الدولية الأخرى للأمم المتحدة، ومنظماتها حول اللغة العربية، من بينها القرار(878) الصّادر عن الدّورة التاسعة للأمم المتحدة عام 1954، والذي كان قد أجاز الترجمة التحريرية لوثائقها إلى اللغة العربية، لتقرّر منظمة اليونسكو العالمية عام 1966 استخدامَها في المؤتمرات الإقليمية التي يتمّ تنظيمها في البلاد العربية، بالإضافة إلى إجازة المنظمة ترجمة الوثائق والمنشورات الصّادرة والمنبثقة عنها إلى اللغة العربية، ثم قرّرت اليونسكو كذلك في نفس هذه السّنة تقوية وتعزيز استعمال العربيّة في أعمالها من خلال إقرار خدمات التّرجمة الفورية من اللغة العربية إلى غيرها من اللغات الأخرى والعكس في جلساتها العامة، وعند مشارف عام 1968 تمّ اعتماد العربية لغة عملٍ في هذه المنظمة الدولية، مع ترجمة مختلف وثائق العمل، والمحاضر إليها فضلا عن توفير، وتأمين الترجمة الفورية بصفة نهائية، وهكذا حتى نصل إلى قرار الهيئة العامة للأمم المتحدة بجعل اللغة العربية لغة عمل بصفةٍ رسمية بين مختلف اللغات الحيّة الأخرى المعتمدة في الجمعية العامة وهيئاتها المختلفة، وأخيرا الإعلان عن اليوم العالمي لهذه اللغة في 18 دجنبر من كل عام كلغة رسمية متداولة في مختلف الهيئات والمنظمات، والمحافل الدّولية. العربية والعلوم الحديثة ما زالت تثرى الدّراسات، وتتعدّد النقاشات، وتُطرح التساؤلات، وتُثار التخوّفات في المدّة الأخيرة عن اللغة العربية، وعن مدى قدرتها على استيعاب علوم الحداثة، والعصرنة والابتكار والتجديد الذي لا تتوقّف عجلاته ولا تني، وتخوّف فريق من عدم إمكانها مسايرة هذا العصر المُتطوّر والمُذهل، كما تحمّس في المقابل فريق آخر فأبرز إمكانات هذه اللغة، وطاقاتها الكبرى مستشهدا بتجربة الماضي، حيث بلغت لغة الضاد في نقل العلوم وترجمتها شأوا بعيدا، فهل تعاني العربيّة حقا من هذا النقص؟ تؤكّد كلّ الدلائل، والقرائن قديما وحديثا أنّها كانت وما تزال لغة حيّة، اللهمّ ما يريد أن يلحق بها بعض المُتشكّكين من نعوت، وعيوب، كانت قد أثارتها في الأصل زمرة من المُستشرقين في منتصف القرن المنصرم، حيث اختلقوا موضوعات لم يكن لها وجود قبلهم، كان الغرض من منها إثارة البلبلة والشكوك بين أبناء هذه اللغة، الذين يعرفون جيّدا أنّها لغة تتوفّر على جميع مقوّمات اللغات الحيّة المتطوّرة الصّالحة لكل عصر، وجدير بنا في مناسبة الاحتفال بيومها العالمي أن نستقي من التاريخ شهادة حيّة قائمة عن الشأو البعيد الذي أدركته هذه اللغة حيث كان لها الغلبة، وبالتالي تأثيرات بليغة في عددٍ من اللغات العالميّة الحيّة، وفى طليعتها اللغة الإسبانية. اللغة الجميلة كان للغة الضّاد تأثير بليغ في اللغة الإسبانية، حيث استقرّت فيها العديد من الكلمات العربية الأصل على امتداد العصور، وهي الآن تعيش جنبا إلى جنب مع هذه اللغة، وتستعمل في مختلف مجالات الحياة وحقول المعرفة المتعدّدة، ممّا يقدّم الدليل القاطع على مدى غنى وثراء وجزالة لغة الضّاد، خاصة وأن اللغة الإسبانية تعيش في الوقت الحاضر تألقا وانتشارا واسعيْن في مختلف ربوع المعمور، ووعيا من الإسبان بما أدركته لغتهم من رِفعةٍ، و«أوج» يحلو لهم عند الحديث عن انتشارها، والإشعاع الذي أصبحت تعرفه استعمال هذه الكلمة العربية بالذات للتباهي بها وهي (الأوج)، والتي تُنطق عندهم ( Auge ) «أَوْخيِ» حيث تُقلب أو تُنطق الجيمُ خاء، كما هو الشأن في العديد من الكلمات العربية الأخرى المبثوثة في اللغة الإسبانية مثل: جبل طارق الذي يُنطق عندهم (خِبْرَلْطَارْ)، وكلمة جَبَليّ تُنطق (خَبليّ)، وهو «الخنزير البرّي الذي يعيش في الجبل»، وكلمة الجامع التي تحوّلت عندهم إلى (أَلْخَامَا)، والجرّة غدت (خَارّا)، وهو الدنّ أو إناء الفخار، ونهر أو مدينة «وادي الحِجارة»، التي تحوّلت إلى (غْوَادِيلاَخَارَا) …إلخ. نيبريخا يُعانق الدّؤلي والفراهيدي وبهدف التنسيق بين مختلف البلدان الناطقة باللغة الإسبانية في مجال المصطلحات اللغوية والكلمات والتعابير المتداولة والمستعملة في هذه البلدان، بغاية توحيدها ومحاربة الدّخيل لجعل حدّ «للغزو اللغوي» الأجنبي أعدّت أكاديمية اللغة الإسبانية بالتعاون مع جميع أكاديميات اللغة الإسبانية الأخرى الموجودة في مختلف بلدان أمريكا اللاتينية والتي يبلغ عددها 21 أكاديمية لهذه الغاية معجما إسبانيا فريدا في بابه وهو: «معجم الشكوك الموحّد» بمعنى أنّ أيّ متحدّث أو مستعمل أو مشتغل أو دارس للغة الإسبانية الذي قد يخامره شكّ أو تساوره ريبة حول أيّ استشارة صغيرة كانت أم كبيرة لها صلة بهذه اللغة سوف يجد ضالته في هذا المعجم، إضافة إلى إصدار أوّل معجم لتوحيد النّحو الإسباني. ويعتبر «أنطونيو دي نيبريخا» وهو واضع أوّل وأشهر كتاب في النحو الإسباني (1492)، وأوّل معجم في اللغة الإسبانية (1495) أيّ إنه يعتبر عندنا بمثابة أبي الأسود الدّؤلي واضع النحو العربي، والخليل بن أحمد الفراهيدي واضع أوّل معجم في لغة الضّاد وهو «العين»، يقول نيبريخا في مقدّمة معجمه مخاطبا الملكة الكاثوليكية إزابيلا: «اللغة القشتالية (الإسبانية نسبة إلى قشتالة) كانت باستمرار رفيقة الإمبراطورية الإسبانية»، يريد نيبريخا أن يقول بهذا المعنى «أنّ اللغة سلاح أو وسيلة أوّلية وأساسية لا يمكن أن يحلّ محلها شيء آخر لتأكيد الهويّة، والجذور، والحضور، ورفع صروح الحضارة لأيّ أمّة، وهي تعني كذلك مغزى الوجود الإسباني في أبعد الآفاق» (يقصد أمريكا اللاتينية والبلدان التي كانت خاضعة للتّاج الإسباني في ذلك الأوان). إسبانيا واللغة العربية يؤكّد الدّارسون أنه لا يمكن الحديث عن اللغة الإسبانية وتراثها وغناها وانتشارها دون التطرّق إلى الينابيع التي تستمدّ منها أصولها، فعلى الرّغم من جذرها وأثلها اللاتينيين، فإنه معروف لدى جميع جمهرة الباحثين وغير الباحثين مدى التأثير الذي أحدثته اللغة العربية فيها على امتداد القرون الثمانية التي كانت الغلبة فيها من دون منازع لها في شبه الجزيرة الإيبيرية منذ الفتح الإسلامي عام 711 م إلى سقوط آخر معاقل الدولة الإسلامية في الأندلس وهي غرناطة 1492م، بل لقد استمرّ الوجود العربي بالأندلس حتى القرن السادس عشر عندما تمّ طرد وإبعاد آخر الموريسكيين الذين ظلوا متستّرين في المدن والقرى والمداشر والمدائن الأندلسية، وقد بلغ عددهم عشرات الآلاف عام 1609. فجميع الباحثين والمثقفين إسبانا كانوا أم غير إسبان يؤكّدون هذا التأثير البليغ الذي أحدثته الحضارة الإسلامية في الأندلس، ليس في ميدان اللغة وحسب، بل في مختلف مناحي الحياة كما هو معروف بما لا يترك مجالا للشكّ، وقد سلّم العديد من هؤلاء بهذه الحقيقة، بل ذهب بعضُهم أبعد من ذلك حيث أكّد الرّوائيان الإسبانيان خوان غويتيسولو، وأنطونيوغالا وقبلهما شيخ المستشرقين الإسبان إميليوغارسيا غوميس وسواهم أنّه «يستحيل فهم واستيعاب تاريخ إسبانيا وثقافتها ولغتها على العموم فهما واستيعابا حقيقيين دون معرفة اللغة العربية». وهكذا يؤكّد «غالا» بالحرف: «أن اللغة الإسبانية في نظره هي لغتان أو فرعان اثنان، فرع يتحدر من اللغة اللاّتينية، وفرع آخر يتحدر من اللغة العربية، لدرجة تبعث القشعريرة في الجسم»، ويشير غويتيسولو إلى أنه «يستحيل فهم واستيعاب تاريخ إسبانيا وثقافتها دون معرفة اللغة العربية، إذ كلّ ما جاءنا حول هذا التاريخ وصلنا مُترَجما، والترجمة هي نوع من الخيانة كما يقول المثل الفرنسي». حتى «كاميلو خوسّيه سِيلا «الحائز على جائزة نوبل في الآداب، والذي فاتته - ذات مرّة- وهو يحاضر في مؤتمر عالمي حول الرّوافد التي أثّرت في اللغة الاسبانية الإشارة صراحة إلى هذه الحقيقة، وإبراز فضل اللغة العربية على الإسبانية، وهو الذي يستعمل في حديثه اليومي وكتاباته عشرات الكلمات العربية أو من أصل عربي، بل هو الذي وضع رواية تحمل عنوانا عربيا واضحا وهي روايته المعروفة «رحلة إلى القارية»، والقاريّة من السّنام أعلاه وأسفله، أو القرية، إلاّ أنّ هذا الكاتب سرعان ما عاد واعترف خلال ندوة دولية أخرى أنّ لغتنا العربية ستصبح في قريب الأعوام من أولى لغات العالم أهمية وانتشارا حيث قال: «نحن الإسبان وسكان أمريكا اللاتينية نعرف جيّدا أننا أصحاب لغة سوف تصبح في المستقبل القريب من أعظم اللغات الحيّة في العالم، وأنتم تعرفون اللغات الثلاث الباقية وهي الإنجليزية والعربية والصينية. الأندلسيّون أساتذة الغرب يؤكد الباحث المكسيكي «أنطونيو ألاتورّي» في كتابه «ألف سنة وسنة من تاريخ اللغة الإسبانية: «أنه عندما عمد إلى كتابة الفصل المتعلق بتأثير الحضارة واللغة العربيتين في اللغة الإسبانية وجد نفسه يربط التاريخ باللغة العربية، فيقول «بهرني العهد المتعلق بالوجود العربي والأمازيغي في إسبانيا، وشعرت بانجذاب كبير نحو هذا العهد، وإنّ أبرز ما استرعى انتباهي فيه هو التسامح، ولا أنسى الفيض الهائل من الكلمات العربية التي استقرّت في اللغة الإسبانية وتقبّلها الناس طواعية واختيارا، لقد كان المسلمون الذين عاشوا في إسبانيا (الأندلس) بحقّ أساتذة الغرب». كولومبوس والعربية ومن أطرف ما يمكن أن يحكىَ في مجال التأثير (اللغوي) العربي في المجتمع الإسباني، هو أنّه حتى كريستوفر كولومبوس نفسه استعمل كلمات عربية وأمازيغية في يومياته ليس فقط تلك التي لها علاقة بميدانه أيّ علوم البحر، ومعارف الإبحار بل في المسمّيات اليومية العادية، ويكفي أن نستدلّ في هذا الشأن بالفقرة الأخيرة من يومياته بعد وصوله إلى اليابسة، وهي الفقرة التي تحمل تاريخ السبت 13 أكتوبر 1492 حيث يقول: «وعند الصّباح حضر إلى الشاطئ عدد غفير من هؤلاء القوم، ثمّ قدموا في اتّجاه المركب بواسطة (المعدّيات) في الأصل الإسباني كما نطقها كولومبوس (ألميدياس) مفردها المعديّة وهي زورق صغير يعبر عليه من شاطئ إلى آخر، ومنها عدوة الأندلس، أو عدوة مدينتي سلا والرّباط على نهر أبي رقراق)، ثم يقول: «واستقدموا معهم لفائف من (القطن)، (وهي كلمة عربية كذلك ونطقها كولومبوس «ألغُوضُون» كما تنطق اليوم في الإسبانية)، وكانوا يحملون (الزغّايات)، وجاءت هذه الكلمة في يوميات كولومبوس باسم «أزاغاياس» وهي (من الزغّاية وهي الرّمح، وحسب معجم دوزي هي كلمة من أصل أمازيغي تعني الآن عند الإسبان الحربة القاطعة التي تثبت في الطرف الأعلى للبندقية التي كان يحملها رجال الحرس المدني، ويضيف: كما استقدموا معهم طيور (الباباغايوس) «جمع الببّغاء وهو طائر يُطلق على الذّكر والأنثى، من خصائصه أنّه يُحاكي كلامَ الناس»، وهكذا نجد في فقرة قصيرة جدّا من هذه اليوميات الكلمات العربية والأمازيغية التالية: (المعديّة، القطن، الزغّاية، الببّغاء)، بل إنّ كولومبوس نفسه كان يحمل لقبا عربيا وهو «أمير البحر» وينطق في الإسبانية مُحرّفا بعض الشيء (ألميرانتي)، وما زال هذا اللقب يُستعمل في الإسبانية إلى اليوم. * عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم –كولومبيا-