على أطراف شارع محمد الخامس، باتجاه مخرج مدينة تطوان، تطالعك بناية عريضة ناصعة البياض، تزين شرفات طابقها الأول أقواس مصفوفة ومتراصة، تستحضر لمسات العمارة التطوانية التقليدية، تحفها حديقة خضراء من كل الجوانب، يتخيل للناظر إليها أنها متحف فني مفتوح، لكثرة ما تضمه من منحوتات فنية تسر الأعين. وتحيط بهذا الفضاء، الذي يمثل مصنع الفن التشكيلي بالمغرب، أسوار حديدية كأنها حدود تفصل ما بين حاملي هموم الإبداع الفني وغيرهم من فاقدي الذوق. يصادف الداخل إلى هذا المبنى، الذي اجتمعت في فضائه مختلف أشكال الفنون، قبو يخترق أديم الحديقة، يمثل متنفسا لأهل النغم وعشاق الوتر، حيث يعانقون فنون الموسيقى بمختلف ألوانها، فيما يقابلك المبنى العريض بالجزء العلوي بطابقيه، فاتحا أبوابه لهواة الفنون الجميلة من كل المدن والأقاليم، ضاربا لهم موعدا لسبر أغوار عوالم الرسم والصباغة، وأسرار النحت والحفر، وتقنيات التصميم الإشهاري، ودهاليز الأشرطة المرسومة. هذا المبنى الذي تفوح من أركانه نسائم الإبداع، منذ وضع أساسه الفنان الغرناطي ماريانو بيرتوشي في منتصف أربعينيات القرن الماضي، تبوأ مكانة بارزة بين نظرائه في بلدان البحر الأبيض المتوسط، لما راكمه من تجارب أسهمت في تكوين أجيال من الفنانين، جلهم بزغ نجمهم على المستوى الوطني، بل حتى على الصعيد الدولي، مما جعل معاهد مماثلة تعمل على ربط علاقات تعاون وشراكة معه، خاصة بإسبانيا وفرنساوبلجيكا. تاريخ المعهد.. التأسيس والمسيرة يقول المهدي الزواق، مدير المعهد الوطني للفنون الجميلة بتطوان، إن "اللبنة الأولى للمعهد تأسست على يد الرسام الإسباني ماريانو بيرتوشي سنة 1945، تحت اسم "المدرسة الإعدادية للفنون الجميلة"، كأول مدرسة مختصة في تدريس الفنون التشكيلية بالمغرب، وقد كانت آنذاك تكون الإسبان بشكل خاص، بالإضافة إلى عدد قليل من المغاربة"، مضيفا أنه بعد استقلال المغرب "تمت مغربة المدرسة، بعدما دشن الملك محمد الخامس بنايتها الجديدة سنة 1957، إثر زيارة قام بها لمدينة تطوان، وأصبحت تحمل اسم "المدرسة الوطنية للفنون الجميلة"، وصار يشرف على إدارتها الفنان محمد السرغيني الذي كان أول مدير لها". وأضاف الزواق أن المدرسة الوطنية للفنون الجميلة كانت آنذاك ثانوية متخصصة في الفنون الجميلة، تسعى إلى تأهيل وتكوين الطلاب في مجال الفنون التشكيلية، في أفق استكمال دراستهم في الخارج، مشيرا إلى أن "مجموعة من هؤلاء الفنانين من الرعيل الأول، أمثال سعد بن سفاج، والمكي امغارة، وعبد الله الفخار، وأحمد العمراني...، عادوا إلى أرض الوطن، وأصبحوا أساتذة بها، وأسهموا في تكوين الأجيال التي تلتهم". وزاد قائلا: "وعرفت المدرسة محطة مهمة أخرى، ساهمت في تطورها، ابتداء من سنة 1993، وهي السنة التي تحولت فيها إلى معهد وطني للفنون الجميلة، بعد إدراجها كمؤسسة للتعليم العالي في مستوى جامعي، تابعة لوزارة الثقافة، حيث أصبحت تستقبل الطلاب الحاصلين على شهادة الباكالوريا في إطار سياسة وطنية لتفعيل التعليم الفني الجامعي، وتخريج أفواج من الفنانين المغاربة بمستوى التعليم العالي". وبخصوص الشعب التي كان يضمها المعهد آنذاك، أوضح مدير المعهد الوطني للفنون الجميلة أنه "كان يتوفر على شعبتين، إحداهما تخص الفنون الجميلة، والأخرى التصميم الإشهاري أو ما كان يسمى آنذاك بالديكور". واسترسل في حديثه عن تطور مسار المعهد وشعبه قائلا: "في سنة 2000 تم إحداث شعبة الأشرطة المرسومة، حيث يعتبر المعهد الوطني للفنون الجميلة بتطوان مؤسسة التعليم الفني الوحيدة على الصعيدين الأفريقي والعربي، التي لديها شعبة متخصصة في هذا المجال"، مشيرا إلى أن "هناك مجموعة من المدارس التي تدرس الأشرطة المرسومة طبعا، لكنها لا تدرسها في إطار شعبة متخصصة، وهذا ما يميز المعهد". وزاد قائلا: "محطة أخرى مهمة عاشها المعهد، وساهمت في تطوره، إذ انخرط في برنامج الإصلاح الجامعي في إطار قانون 001، وتم سنة 2016 قبول ملفه العلمي والإداري من طرف لجنة وطنية مكلفة بالتعليم العالي، حيث استطعنا بهذا الإنجاز المهم أن نوفر لطلابنا أسلاك الماستر والدكتوراه". شعب المعهد.. تطوير يقود إلى الريادة وأكد الزواق أن المعهد الوطني للفنون الجميلة ما فتئ يطور شعبه كافة بالانفتاح على جميع المستجدات في مجال الفنون البصرية، "إذ انفتحنا على التكنولوجيا الجديدة بشكل كبير جدا، خاصة في إطار التعاون الدولي، الذي بفضله تمكنا من استقطاب عدد من الخبراء الأجانب، ساهموا معنا في تطوير أساليب التكوين بالمعهد"، يقول الزواق، مشيرا إلى أن هذا الخيار "هو الذي بصم على ريادة المعهد على الصعيد الوطني، نظرا لكونه مؤسسة التعليم العالي الوحيدة المعترف بها على الصعيد الجامعي على مستوى تدريس الفنون الجميلة". وفي معرض تعريفه بالشعب التي يتوفر المعهد الوطني للفنون الجميلة، قال الزواق إن "بالمعهد ثلاث شعب رئيسية، الأولى تهتم بالفن، وتتضمن تدريس مواد الرسم، والصباغة، والمناظر، والنحت والأبعاد، والتخطيط، والفوتوغرافيا، والحفر، إلى جانب تقنيات الطباعة. والشعبة الثانية تخص التصميم الإشهاري، وتدرس فيها مواد الرسم الفني والهندسي، والألوان، والأنفوغرافيا ثنائية الأبعاد (2D)، والأنفوغرافيا ثلاثية الأبعاد (3D)، إضافة إلى تقنيات الإنجاز والتخطيط والأبعاد، وتقنيات الطباعة والحفر. وآخر تلك الشعب تخص مجال الأشرطة المرسومة، حيث تدرس بها مواد الرسم والتلوين، والتركيب، والسيناريو، والأشرطة المتحركة". وأوضح الزواق أن المعهد يزاوج في برامج التكوين بين الدروس النظرية في مواد تاريخ الفن، والأساليب والسيميولوجيا، والفلسفة، والتواصل من جهة، وبين الأوراش العملية ومحترفات التكوين في المواد التطبيقية من جهة أخرى، مشيرا إلى أن طلاب المعهد يستفيدون في الوقت ذاته من عدة تكوينات موازية، وحلقات دراسية، وزيارات ميدانية. وأضاف أن المعهد يسعى بكل جهد إلى تطوير التكوينات داخله، عبر توفير آليات الاشتغال، "فنحن حاليا، نتوفر على محترف الحفر lithographie وsérigraphie الأحسن على الصعيد الوطني، وربما على الصعيدين الأفريقي والعربي"، يقول الزواق. وأضاف مسؤول المعهد "نحن نعمل كذلك على تطوير شعبة الفن، إذ نشتغل مؤخرا على إحداث ماستر الفنون الرقمية، وهو مشروع نسعى بكل جهد إلى تحقيقه لأنه سيكون متميزا، ليس فقط على الصعيد المغربي، بل على الصعيد المتوسطي كذلك، إذ من شأن ذلك استقطاب طلاب من الخارج أيضا"، مؤكدا أن تطور المعهد "رهين بأن تكون جميع هياكله مكتملة، إلى جانب توفره على أساتذة تعليم عال من ذوي التجربة الكبيرة، إضافة إلى فنانين من ذوي الكفاءات المهارات العالية، لتكتمل جوانب التكوينات". أنشطة وملتقيات إشعاعية وأوضح الزواق أن تنظيم الملتقيات والتظاهرات الكبرى يفتح لطلاب المعهد آفاقا واسعة للاشتغال مع المؤسسات، خاصة الأجنبية، مشيرا إلى أن ذلك يعد مناسبة لتقييم جودة المنتوج الذي يعرضونه، "والذي ينال اعترافا من الخبراء الذين يشاركوننا تلك الفعاليات"، يقول المتحدث ذاته. وأضاف أن "من أبرز التظاهرات التي ينظمها المعهد المنتدى الدولي للأشرطة المرسومة، التي تعتبر أرضية حقيقية لهذا المجال الفني على الصعيدين الأفريقي والعربي"، مشيرا إلى أن التظاهرة "تستقبل أعدادا كبيرة من الفنانين المتخصصين في مجال الأشرطة المرسومة من أفريقيا والعالم العربي، بحضور خبراء وفنانين من فرنسا وإسبانيا وبلجيكا وإيطاليا ودول أخرى". موعد إشعاعي آخر تحدث عنه مسؤول المعهد الوطني للفنون الجميلة بتطوان، يتعلق بتظاهرة ينظمها تحت اسم "Tetouan Design Event"، "وهي تظاهرة أساسية بالنسبة إلى المعهد، رغم أنها ما زالت في دورتها الثانية، لكونها تستقبل أحسن الفنانين في مجال التصميم على الصعيد الوطني"، يقول الزواق، مشيرا إلى أنه خلال هذه السنة "استضفنا "سانتيتيان"، وكان ذلك مناسبة لتوقيع اتفاقية شراكة رسمية معها، من شأنها أن تفتح الآفاق أمام طلابنا". وزاد قائلا: "كما أن المعهد يسهر على تنظيم ملتقى أكاديميات البحر الأبيض المتوسط، الذي وصل إلى دورته الرابعة عشرة، مرة كل سنتين، وهو فرصة للتعريف بفنوننا وثقافتنا المغربية. كما أنه يمثل إشعاعا للمعهد وطلابه". وتابع "بالإضافة إلى أن المعهد ينظم عددا من المعارض الفنية، سواء بمركز تطوان للفن الحديث، أو برواق مكي امغارة. كما يستقبل معارض دولية في إطار اتفاقيات التعاون الموقعة مع عدد من المؤسسات". وحسب الزواق، فإن هذه الأنشطة الإشعاعية أثمرت توقيع عدد من الشراكات واتفاقيات التعاون. وقال في هذا الصدد: "لدينا اتفاقية شراكة مع "إكس مارسيل"، الغاية منها تطوير شعبة الفن، إلى جانب شراكة مع "سانتيتيان" بخصوص شعبة التصميم، وعبرها نحن بصدد إعداد مشروع مع "إراسموس بلوس"، بتمويل أوربي، سيعنى بالتصميم في مجال الفخار"، مؤكدا أن هذا المشروع سيساهم في تطوير الفخار مع المحافظة على أصالته. "ويأتي هذا المشروع في إطار رد الاعتبار للنساء العاملات في مجال الفخار، خاصة بواد لاو ونواحي الريف"، حسب قوله. وفي إطار الأشرطة المرسومة وسينما التحريك، قال الزواق إن "المعهد الوطني للفنون الجميلة بتطوان وقع اتفاقية شراكة مع "سانليك"، صاحبة الريادة في بلجيكا في مجال الأشرطة المرسومة وسينما التحريك". وأضاف "نحن بصدد تطوير هذه الشعبة نحو ما يسمى بالفنون السردية، نزولا عند رغبة الطلاب، وحتى نساهم في توفير مبدعين وتطوير تكوينهم استجابة لمتطلبات سوق الشغل". وتابع قائلا: "كما أقمنا مشروع الإقامة الفنية مع كندا، حيث تستقبل فنانا مغربيا، ونستقبل نحن فنانا كنديا، ولدينا حاليا إقامتان فنيتان، نستضيف فيهما الفنانين الأجانب الذين يشتغلون في محترفاتنا الفنية". وأوضح أن "هذه العلمية تفتح آفاقا لفنانينا، كما أنها تساهم في التبادل الثقافي بين البلدين، وفهم ومعرفة الآخر، فضلا عن تمكيننا من التعريف بموروثنا الثقافي والفني، وكذا استقطاب فنانين من ثقافات مختلفة"، مشيرا إلى أنه خلال السنة الجارية "تمكنا من الاستفادة من أستاذة أمريكية جاءت ضمن برنامج "فولبرايت" لتدريس طلابنا مادة اللغة الإنجليزية مجانا، وتحسين مستواهم في هذه اللغة المهمة". التحديات والآفاق يتابع المعهد الوطني للفنون الجميلة بتطوان تحدياته في تكوين وتخريج دفعات من الفنانين المغاربة في مختلف الفنون الجميلة، بدعم من عدد من المؤسسات والهيئات العمومية والخاصة، على رأسها وزارة الثقافة، ووكالة تنمية الأقاليم الشمالية، وميناء طنجة المتوسطي، غير أنه يواجه تحديات جمة في مساره المهني. وبخصوص هذه المسألة يقول الزواق: "هناك ضغط كبير على المعهد لكونه الوحيد بالمغرب، ولا بد من إيجاد حل لهذا الإشكال، إذ يأتينا أحيانا ما بين 400 و500 طلب لاجتياز مباراة ولوجه، فلا ينجح منها إلا 40 طالبا سنويا"، مشيرا إلى أن هذا الرقم رغم أنه يبدو قليلا، "فقد بذلنا مجهودات كبيرة جدا لنصل إليه، باعتباره يمثل الطاقة الاستيعابية القصوى بالمعهد"، يضيف الزواق، مبرزا أن وزارة الثقافة تبذل مجهودات محمودة لخلق معاهد أخرى، "إذ أن هناك تصورا لإحداث معهد بفاس من أجل تخفيف الضغط علينا، كما أن هناك مطالب بفتح ملحقات بالصويرة وأكادير، نتمنى أن تتحقق مستقبلا لتتيح الفرص أمام المواهب الراغبة في الالتحاق بالمعهد"، يضيف الزواق. وحول آفاق الدراسة بالمعهد، يوضح الزواق أن "دبلوم السلك الثاني، فنون جميلة، يعادل الإجازة (الليسانس)، مما يؤهل الطلاب الحاصلين على هذا الدبلوم للعمل في الوظيفة العمومية بالسلم العاشر. كما يتيح لهم متابعة الماستر والدكتوراه. أما الحاصلون على السلك الأول فيمكنهم العمل في الوظيفة العمومية بالسلم التاسع، كما يؤهلهم لاجتياز CPR". وزاد الزواق قائلا إن "المعهد يؤهل خريجيه ليمارسوا عملهم كفنانين محترفين في مجال الفنون التشكيلية والبصرية، كما يمكنهم العمل في مقاولات القطاعين العام والخاص، لاسيما في مجالات وكالات الإشهار وعلب التواصل، ووكالات التصميم والديكور، ومقاولات المهن الفنية والمكاتب المعمارية، إلى جانب المقاولات الصحافية والإعلامية".