اليوم بعد أن هدأت العاصفة الإعلامية حول الحريات الشخصية، وحتى لا أتلبس بلبوس العاطفة في تناول القضايا الجادة، فضلت تأجيل الحديث عن هذا الأمر إلى حين فتور التناول السُّعاري للموضوع. هذا، وقد تابعت عن كثب التصريحات والارتسامات والحوارات والمقالات حول قضية الحريات الفردية، قبل وبعد قضية هاجر الريسوني التي تكللت بالعفو الملكي الميمون. إلا أن ما قرأته وتابعته من طرف المناصرين للحريات الفردية والمناهضين لها من الشيوخ والدعاة إلا قليلا. إلا أنني للأسف لم ألمس فيه إنصافا كافيا من الجهتين؛ إذ لاحظنا أن الطرفين يتحفّظان من الوقوع في الاعتراف الجزئي للطرف الثاني بصواب جزء وقسط من كلامه وآرائه. فاختار كل منهما الذهاب إلى الأقصى بدلا من الوقوف في الوسط، بمسافات مناسبة بين الجهين، مع أن القضية تقتضي تفكيك قضية الحريات الفردية إلى عناصرها، والتفريق بين التجريم القانوني وبين التأثيم الديني، والتفريق بين ما كان من حق الله وبين ما كان من حق عباده. وحتى يطمئن مشائخي الكرام، ولا تذهب عقولهم كل مذهب، إن ما حرم الله فهو حرام إلى يوم القيامة ولا يملك أحد إحلاله. وأن ما أحله الله، فهو حلال إلى يوم القيامة، ولا يملك أحد تحريمه. إلا أنه ينبغي أن نفرق بين الآثام الموجبة للعقوبة في حال المجاهرة، وبالشكل الفاضح في الأماكن العامة، وبين تلك الآثام في حال الاستتار في الأماكن الخاصة، وكان ذا طابع انفرادي شخصي وما هو الحد الفارق الذي يستدعي التجريم القانوني والذي لا يستدعي التدخل القانوني - وهذا لا يخفى على السادة العلماء - فما كان من شأنه حقا لله وكان ذا طابع انفرادي شخصي، ولو كانت فيه عقوبة شرعية في الدنيا والآخرة فإن الشارع الحكيم يروم فيه إلى العفو والتجاوز والصفح في الدنيا، منه إلىى العقوبة والانتقام، وليس الشرع سيفا مخيفا مسلطا على رقاب العصاة حتى في حال الاستتار، بأن يقتحم عليهم خلواتهم ويتصيد عثراتهم ويتربص هفواتهم. وهذا ماشهدت به كثير من النصوص الشرعية: فقد روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل فقال: يا رسول الله، إني أصبت حدا فأقمه علي، قال: ولم يسأله عنه، قال: وحضرت الصلاة، فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة، قام إليه الرجل فقال: يا رسول الله، إني أصبت حدا، فأقم في كتاب الله، قال: (أليس قد صليت معنا؟) قال: نعم، قال: (إن الله قد غفر لك ذنبك، أو قال: حدك). نلاحظ أن رسول الله عليه وسلم لم يسأله عما اقترف من معصية، ولا مال إلى عقوبته ما دام قد ستره الله وجاء مقرا تائبا، بل بشره الحبيب بأن الله قد غفر له. وكذلك عندما اعترف ماعز لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، على نفسه بالزنا، - والاعتراف سيد الأدلة - قال له: (وَيْحَكَ، ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللهَ وَتُبْ إِلَيْهِ) ثلاث مرات وهو يحاول رده وتسريحه ويعرض عنه مرارا، ولكن ماعزا أكثر عليه، وأصر أربع مرات على أن يُطهَّر بالعقوبة. وقام صلى الله عليه وسلم بالشيء نفسه بالنسبة للغامدية، عندما جاءته حاملا معترفة على نفسها بالزنا، فقال لها صلى الله عليه وآله وسلم: (وَيْحَكِ، ارْجِعِي فَاسْتَغْفِرِي اللهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ). رواهما مسلم بهذا اللفظ، والقصة في الصحيحين معا. وفي رواية أحمد، قال لها رسول الله صلى اله عليه وآله وسلم: (اسْتَتِرِي بِسِتْرِ اللهِ). فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يردهما ويعرض عنهما، ويتجنب معاقبتهما. وهذا هو عينه ما فعله أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنه بماعز الأسلمي عندما جاءهما قبل مجيئه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى مالك في الموطإ وغيره، "أن رجلا من أسلم جاء إلى أبي بكر الصديق، فقال له: إن الآخر زنى فقال له أبو بكر: هل ذكرت هذا لأحد غيري؟ فقال: لا. فقال له أبو بكر: (فتب إلى الله واستتر بستر الله، فإن الله يقبل التوبة عن عباده). فلم تقرره نفسه، حتى أتى عمر بن الخطاب، فقال له مثل ما قال لأبي بكر، فقال له عمر مثل ما قال له أبو بكر. فلم تقرره نفسه، حتى جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم). وجاء في بعض روايات قصة ماعز الأسلمي، التي رواها مالك في الموطأ وأحمد في المسند وأبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهزّال: (يا هَزَّال، لو سترته بردائك لكان خيرا لك). نلاحظ في النصوص السابقة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخليفتيه الراشدَيْن أبا بكر وعمر، فوق كونهم يميلون إلى الستر على العصاة، فإنهم حتى عند إقامة الحد عليهم بعد إصرارهم أنفسهم على أن يتطهروا= لم يطلبوا منهم المجيء بمن وقعوا عليهم من النساء لينلن العقوبة نفسها. وهذه قرينة إضافية على أن الشارع الحكيم لا يتشوف إلى العقوبة وإنما إلى العفو والستر. وعن ابن عباس، قال: ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الخمر إلا أخيرا، لقد غزا غزوة تبوك فغشي حجرته من الليل أبو علقمة بن الأعور السلمي وهو سكران، حتى قطع بعض عرى الحجرة، فقال: (من هذا؟) فقيل: أبو علقمة، سكران، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليقم إليه رجل منكم، فليأخذ بيده حتى يرده إلى رحله). رواه البيهقي في السنن الكبرى. وعن دُخَيْن أبي الهيثم مولى عقبة بن عامر ، قال: أتيت عقبة بن عامر، فأخبرته أن لنا جيرانا يشربون الخمر، قال: دعهم. ثم جاءه فقال: ألا أدعو عليهم الشُّرَط؟ فقال عقبة: ويحك دعهم، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى عورة فسترها، كان كمن أحيا موءودة من قبرها). رواه أحمد وأبو داود بسند حسن لغيره. وروى عبد الرزاق الصنعاني في مصنفه والحاكم في مستدركه، والبيهقي في السنن الكبرى، والطبراني في مسند الشاميين، عن المِسْور بن مخرمة عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: (حرست مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه المدينة ليلة إذ تنبمت لنا سراج، فمشينا نحوه حتى انتهينا إلى باب مجاف على قوم قد علت أصواتهم وكَثُر لغطهم، فقال: أتدري بيت من هذا؟ قلت: لا أدري، قال: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف، وهم الآن شرْبٌ، فَمَا ترى؟، قلت: أرانا، قد أتينا ما نهانا الله عنه، قال الله عز وجل وَلاَ تَجَسَّسُوا وقد تجسسنا، قال فرجع وتركهم). فقد سئل يحيى بن عمر الكناني (ت 289ه)، -وهو من علماء القرن الثالث- عن "الرجل يدعى إلى العرس، وهي الوليمة أو الختان أو إلى صنيع، فيسمع فيه صوت بوق أو ضرب كَبَر أو ضرب مزهر أو ضرب عود أو طنبور، أو يعلم أن فيه شراباً مسكراً، هل ترى له أن يجيب إذا دعي؟ قال يحيى: لا يجيب إذا علم فيه مُسكرا..". والشاهد عندي أن ما ننكره في هذا الزمان، أمر يقع فيه بعض الناس منذ القدم، ولم يزِد يحيى بن عمر أن أفتاه بعدم التلبية إن علم أن فيها خمرا، ولم يأمر بنداء الشرطة وإيقاف العرس والدخول على الناس وإدخالهم السجن، وهذا في القرن الثالث الهجري أيام العهد الأموي الإسلامي في الأندلس. هذه مواقف ومشاهد أوردناها تبين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتجنب إيقاع العقوبة بالعصاة، ولا يتربص بهم أو يتعرض لهم، بل إنه كان صلى الله عليه وآله وصحبه، ذلك الأبَ الحانيَ الحريص على العفو والستر والمغفرة، وكذلك صحابته الكرام كما مر معنا من قصة عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف، وقصة أبي علقة بن الأعور السلمي، وقصة جيران دُخَيْن أبي الهيثم مولى عقبة بن عامر، وفتوى يحيى بن عمر الكناني. ومن هنا يتضح أن الشارع لا يروم إلى عقوبة الناس فيما يتعلق بحق الله، بل يروم إلى ستر أمرهم، وعذر نقصهم، وتفهم ضعفهم، وإعطائهم فرصا للتوبة، ولا يدعو إلى فضح أمرهم، وتتبع عوراتهم،ةواصطياد زلاتهم، والارتزاق من التشنيع عليهم. فكل هذا ليس من شيم المتخلقين ولا من أطباع الشرفاء، ولا من عادات الكرماء. وتأسيسا على ذلك فلا ينبغي أن يكون هناك قانون يقتحم على الناس خلواتهم، ويفتش في علاقاتهم، ويتصيد عثراتهم، إلا ما كان من عقوبات زجرية لمن يشهر أفعاله الشنيعة في الأماكن العامة ويخدش الذوق العام ويكسر حياء الناس، وليس من يتحرى الستر ويروم إلى التخلي. بل بالعكس ينبغي للقانون أن يكون صارما في حفظ حقوق الناس واحترام حيواتهم الخاصة، ومعاقبة أولائك المتربصين بالعصاة المشهِّرين بكل من وقع في ذنب، أو جلس خاليا فوقع في محرّم. هذا وحتى في القصاص الذي عَده العلماء من الحدود، ويتعلق بحق من حقوق العبد، نجد أن الشارع الحكيم يحبب ويرغب في العفو والصفح، ويحث على ترك القصاص. فقد جاء رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم أحدٌ يقتاد قاتلَ أخيه ويريد القصاص منه، فقال له: [إنْ قَتَلَهُ فهو مِثلُه] مع أنه مطالب بالقصاص كحق شرعي، فوجّهه نحو قبول العفو بدلا من اختيار العقوبة: روى مسلم عن علقمة بن وائل حدثه أن أباه حدثه فقال: "إني لقاعد مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل يقود آخر بنِسْعَةٍ، فقال: يا رسول الله، هذا قتل أخي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقتلته؟) - فقال: إنه لو لم يعترف أقمت عليه البينة - قال: نعم قتلته، قال: (كيف قتلته؟) قال: كنت أنا وهو نختبط من شجرة، فسبني، فأغضبني، فضربته بالفأس على قرنه، فقتلته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (هل لك من شيء تؤديه عن نفسك؟)، قال: ما لي مال إلا كسائي وفأسي، قال: (فترى قومك يشترونك؟) قال: أنا أهون على قومي من ذاك، فرمى إليه بنسعته، وقال: (دونك صاحبك)، فانطلق به الرجل، فلما ولى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن قتله فهو مثله)، فرجع، فقال: يا رسول الله، إنه بلغني أنك قلت: (إن قتله فهو مثله)، وأخذته بأمرك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما تريد أن يبوء بإثمك، وإثم صاحبك؟) قال: يا نبي الله - لعله قال - بلى، قال: (فإن ذاك كذاك)، قال: فرمى بنِسعته وخلى سبيله". وفي رواية أبي بكر البزار: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لولي المقتول: (أتعفو؟ قال: لا، قال: أتأخذ الدية؟، قال: لا، قال فتقتله قال: نعم، قال: فاذهب. قال: فذهب به فلما كان غير بعيد دعاه فقال: أتعفو؟ قال: لا، قال: أتأخذ الدية؟ قال: لا، قال: تقتله قال: نعم، وذهب به، حتى فعل ذلك مرارا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن قتله فهو مثله). فانجلى واضحا ساطعا مشرقا مشعًّا، أن الشارع الحكيم ينحو نحو العفو والصفح؛ ويُرشِد أولياء الدم إلى ذلك ويقنعهم به، ويدربهم على العفو باعتباره أفضل الاختيارات وأرقى البدائل ومنهج الأنبياء وسبيل العظماء. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم رغم طرد قومه له وضربهم له ومحاولتهم قتله ومحاربته بالوسائل القولية والعملية بكل ما أوتوا من جهد..= ترك علي بن أبي طالب رضي الله عنه في مكة يرد الأمانات لأهلها، لأنه يعاملهم بأخلاقه لا بأخلاقهم. وكذلك سيدنا يوسف عليه السلام، وهو في السجن مظلوما من قبل العزيز وامرأته، حل أكبر مشكلة اقتصادية واجهت مملكة مصر آنئذ، بدون تردد ولا تراجع. لأن المواطن الصالح يكون صالحا بخلق ذاتي وقوة دفع داخلية ابتداءً، وليس ردا لجميل، أو انتظارا لأجر من مخلوق. وهذا هو عينه ما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يعلمه لولي الدم في القصة السابقة، ويدربه وأمثاله على الصفح والعفو والاحتساب والصبر، لعل عددا أكير من الأجيال القادمة بعد ذلك الجيل تكون أقدر على الاستجابة لهذا النداء النبوي الشريف، بحيث لا تعُدّ العفو ضعفا ولا استكانة ولا خوَرا ولا ذلا، وإنما فعلا راقيا، وعملا شريفا، وتصرفا نبيلا. وكذلك، فإننا نجد الأمر نفسه لدى مجموع أفراد المجتمعات بعد ذلك، من أعلى الهرم، من فلاسفة ومفكرين وعلماء إلى أسفله من بسطاء الناس وعامتهم، والساسة من الدرجات المتدنية، في تطورهم مع تقدم الزمان وسيرورة التاريخ= كُلما تجدَّدَ الزمان وتراكمَتْ الخبرات وعِيشَ الدمار،= وجدتهم متجهين إلى احترام كرامة الإنسان، وصيانة شرفه، ظالما كان أو مظلوما، لكون الجميع مشتركين في الإنسانية، ولو كان البعض أشرف أخلاقا من الآخر في حقيقة الأمر. ولا تلازم بين الوقوع في الإثم وبين العقوبة، فهذا شيء وهذا شيء ثان. فيكون قولنا بترك المعاقبة ليس منعا لما أوجب الله، وقولنا بالحرية الفردية ليس إباحة لما حرم الله. فهناك فرق بين الإثم عند الله عند الوقوع في الذنب، - وهذا لا يشك مؤمن في كونه ذنبا -، وبين المعاقبة عليه، وإنما وضع الشارع العقوبة في حال المجاهرة وإيذاء الناس في الأماكن العامة، فلا يمكن أن يتمكن الشهود الأربعة من رؤية الزاني أثناء فعلته إلا إذا فعلها في مكان عام أمام الناس وليس في حال استتاره، ولقد رأينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجتهد في رد ماعز بعد إقراره ويلقنه الرجوع عن الإرقار، مرة ومرتين وثلاث مرار، وعاتب هزالا على التبليغ عنه وفضح أمره. فالعالم الملائكي الطهراني لا يوجد إلا في الأذهان وليس في الواقع، لا الآن ولا قبل الآن، والله تعالى ترك للناس منطقة للعفو والاختلاء بالنفس لمراجعتها بالتوبة والإنابة كلما ضعفت ووقعت في المعصية. لذا ينبغي أن نستقي ذلك من رحمانيته، ونقتبس ذلك من لطفه وعفوه، ونرحم ضعف الناس ونجتهد في التغافل عما لا يعنينا. روى أحمد عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما رجل كشف سترا فأدخل بصره من قبل أن يؤذن له، فقد أتى حدا لا يحل له أن يأتيه). أمر الإجهاض الإجهاض في أصله مرتبط بخمس جهات حقوقية، فهو أولا مرتبط بحق الله الذي خلق الجنين وأذن بالحمل به، ومرتبطٌ ثانيا بحق المرأة وحريتها في جسدها، ومرتبط ثالثا بالجنين نفسه وحقه في الحياة والعيش، ومرتبط خامسا بحق الأب وتمسكه بإبقاء الجنين من عدم تمسكه، ومرتبط خامسا بحق المجتمع فيه كلبنة ورافعة أساس للتنمية والإنتاج أو بزهد المجتمع فيه إذا كان سيكون عبءا عليه أو خطرا يتهدد الناس. ومن هنا لا يمكن التعميم بحكم واحد بإجازة الإجهاض ولا بمنعه بالكلية، وأظن أنه من رحمة الله بنا اختلاف العلماء في حكمه قبل نفخ الروح في الجنين بعد مائة وعشرين يوما، لحديث ابن مسعود الذي في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح)، فأربعون ضرب ثلاثة تساوي مائة وعشرين يوما، أما بعد ذلك فالإجماع منعقد على عدم الإذن الشرعي فيه. أما قبل تلك المدة، فمن العلماء من قال بالتحريم وهو المعتمد عند المالكية والأوجه عند الشافعية، ومنهم من قال بالإباحة مطلقا وهو قول في مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة؛ ومنهم من قال بالجواز لعذر وهو مذهب الحنفية، ومنهم من قال بالكراهة مطلقا وهو رأيٌ عند المالكية، وبعض الحنفية. ومنهم من أجاز قبل الأربعين يوما ،كاللخمي من المالكية وأبي إسحاق المروزي من الشافعية. وعليه فكما اجتهدنا في بعض قضايا المرأة وخرجنا عن مذهب السادة المالكية في عدد من المسائل، فيمكن رفع كثير من المسائل إلى "الحوار العالي" بين العلماء باعتبارهم أصحاب الشأن الديني، وبين السادة القضاة باعتبارهم المتوفرين على الإحصاءات اللازمة، وبين المفكرين وعلماء الاجتماع باعتبارهم المراقبين لتحركات المجتمع وتحولاته، وبين كبار الحقوقيين باعتبارهم مِسْمَاع ومجسّ جزء كبير من المجتمع؛ ليتقدموا جميعا بمشروع قانون يقدم إلى الوزارات الوصية، للبت فيه تحت قبة البرلمان، للمصادقة عليه وإقراره. وإن كانت مسألة الإجهاض ليست بمسألة جديدة، إلا أن الملابسات والظروف المحيطة بها، تحتاج إلى نظر فقهي وفقها ومع استحضارها. وهذا لا يلزم منه تغييرٌ، ولا عدم تغييرٍ لقانون الإجهاض، وإنما تجديد النظر والتباحث وفق المعطيات الجديدة، ولننظر بِمَ يرجعون. وبعد كل ما مضى، وعلى كل حال، نقول: إن الزمان قد دار وإن القوانين تتجه إلى بسط الحريات واحترام الخصوصيات وترك الناس إلى ربهم فيما بينهم وبينه تعالى، وعدم لعب دور الوصي على حركاتهم وسكناتهم وتتبع عوراتهم وتقييد حرياتهم. ولعب دور القاضي الحاكم بأمر الله، في ملك الله، على عباد الله، فما خلق الله الجنة والنار وأعدهما ليوم القيامة إلا لاختصاصه بالثواب والعقاب، إذ هو من يعلم حالات الاختيار والاضطرار، والتأوُّل والقصد، والعلم والجهل، والعقل والجنون، والقوة والانكسار. المهم أن الله تعالى هو صاحب الأمر من قبل ومن بعد، وليس ذلك إلا له تعالى. *باحث في الفكر الإسلامي