II- التخطيط الاستراتيجي القطاعي كسبيل للتنمية وغياب الوعي السياسي. كما سبق وقلنا في الجزء الأول من هذه الاسهامات، فإن مغرب الألفية الثالثة اعتمد على التخطيط الاستراتيجي القطاعي والترابي لتحقيق التنمية. هذه التجربة استطاعت في عشريتها الأولى تحقيق النمو وبعض جوانب التنمية قبل أن تصل مرحلة "العياء"، كما أسلفنا، لأسباب موضوعية مرتبطة بالتطور الاقتصادي العالمي والإقليمي، وأسباب أخرى ذاتية بالخصوص مرتبطة بالجوانب المؤسساتية، والفساد، وضعف الكفاءات، وغياب الرؤية، وتسييس الاقتصاد، والبيروقراطية، وغياب التحفيز، والتردد في اتخاذ نموذج بعينه، وتعارض المصالح، وانتهازية الطبقة السياسية الجديدة، الترابية منها والوطنية، وغيرها من الأسباب. شجاعة الحسن الثاني لتشخيص وضع البلاد والعباد من على منصة البرلمان وأمام ممثلي الأمة سيعلن المغفور له الحسن الثاني سنة 1995 عن حقيقة مرة لبلادنا مع الالحاح على ضرورة تآزر الجهود في شكل حوار وطني عميق وواسع لإيجاد الحل، الذي لن يكون إلا داخليا ووطنيا. سيعلنها صراحة وبكل شجاعة بأن بلادنا مهددة بالسكتة القلبية إن لم تتخذ التدابير اللازمة. على عكس ما ألفناه إذن في وسائل إعلامنا وعلى لسان القائمين على حال البلاد بأن المغرب جميل وفيه الجمال والخيرات والوحيش والعصافير والزرع والضرع، وهو بلد فلاحي مشهود له بذلك، وباديته مكان يصلح للعيش (فيه الماء والهواء)، وبيئته سليمة ومتنوعة وغنية، جاء التقرير الذي دعا إليه المغفور له بشكل رسمي من طرف البنك الدولي مخيبا للخطابات: - خلل كبير بين قدرة الاقتصاد الوطني على خلق فرص عمل وطلب العمل بفعل الديمغرافية والهجرة التي قدرت بأكثر من 650 ألف طالب جديد سنويا. - هشاشة بنيوية للمنظومة الاقتصادية الوطنية مما يجعلها خارج ركب النمو. - فقر في البوادي وهشاشة بالمدن وتزايد معدلات البطالة. البادية نسيت وأهملت في كل شيء: 12% فقط من الأراضي يتم حرثها، غياب التجهيزات الأساسية المحفزة على بقاء الساكنة باستثناء الهواء بعد أن شح المطر وقل الماء، ... هجرة قروية غير مسبوقة ساهمت فيها سنوات الجفاف وغياب آليات الدولة للتخفيف من وقعه. المدينة صارت تحوي أكثر من 55% من ساكنة البلاد وهي ليست في أحسن حال: تطور البناء غير المهيكل، غياب المرافق والتجهيزات الحضرية، نشاط السمسرة والمضاربة، أزمة السكن، ... ازمة بيئية غير مسبوقة من خلال استنزاف الخيرات غير المتجددة، تملح التربة بفعل السقي المكثف، استنزاف الفرشات المائية الباطنية وتلويث الفرشات السطحية، تدمير وتراجع المجال الغابوي، ... أزمة المؤسسات وتعثر الحكامة: تعارض في اختصاصات المؤسسات والإدارات، غياب التنسيق، غياب مرجعيات، غموض في دور مؤسسات الدولة والمؤسسات الترابية، ضعف المجالس الحضرية وتشرذم المدن، ... الكثير من المؤشرات كانت برتقالية اللون أو حمراء، ولكن غياب إرادة العلاج كاد أن تعصف بالمريض. غير أن توفر الإرادة سيجعل البلاد تدخل الإنعاش ثم مرحلة نقاهة. الحكامة ودمقرطة التوجيه الاستراتيجي مهدت الاصلاحات السياسية بالبلاد في زمن المغفور له الحسن الثاني لعودة نوع من الثقة التي افتقدها السياسي والاقتصادي على السواء ببلدنا. ويجب أن نعترف اليوم بأن ما قام به الحسن الثاني في آخر حياته من اعتراف وعفو وإصلاح كان له الوقع الكبير في ما عاشه المغرب من استقرار ونمو في العشرية الأولى من القرن الحالي: اعتراف بالخطأ أولا في حق البرجوازية الوطنية وما لحقها من أذى في إطار ما عرف بسياسة التطهير التي قادها البصري بيد من حديد وبلا هوادة (فيما عرف بحرب العروبية على الفواسا والسواسا). هذه الحملة أدت إلى إفلاس العديد من المقاولات الوطنية فيما هاجرت أخرى في اتجاه بلدان الملجأ. حملة التطهير جعلت المغرب يدخل العولة الاقتصادية من دون الأبطال الوطنين الذين أصبحوا يلعبون للبلدان التي آوتهم. وقد كان لهذا الاعتراف بنبرة الاعتذار عودة عدة مستثمرين مغاربة من الخارج للمساهمة في بناء المغرب الجديد، وعلى رأسهم الملياردير السوسي "الشعبي" والعديد من العائلات الفاسية. أما العفو على المنفيين وتسريح المعتقلين السياسيين فقد عمل بدوره على إغناء ورقي الوعي السياسي الوطني في سبيل وضع مشروع مجتمعي في مستوى التطلعات، وكانت له مكاسب كبيرة كذلك على الصعيد الدولي لما كان لهؤلاء المعتقلين والمنفيين من صدى ومن احترام في المنابر العالمية التي تصنع الرأي العالمي. أما الإصلاحات السياسية فقد جعلت البلاد في تناسق مع التحولات الديمقراطية والحكامتية التي جعلت من قمة الأرض ب "ريو ديجانيرو" بالبرازيل في 1991 قمة الديمقراطية والحكامة واحترام الحقوق والأقليات من دون منازع. وصول الكتلة إلى تسيير البلاد في الفترة التي عرفت بفترة التناوب، والتي عرفت أيضا بقيادة الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي للحكومة المغربية، كانت بذلك نتيجة طبيعية لتفاعلات كانت تؤدي إلى رقي المشهد السياسي والاقتصادي والوعي المجتمعي. ما يهمنا هنا في هذه التجربة هو انتقال مسألة البرمجة الاقتصادية من مرحلة التخطيط الاستراتيجي المركزي (المعروف في بلادنا بالمخططات الخماسية) إلى مرحلة التدبير الاستراتيجي القطاعي مع مطلع الألفية الجديدة الذي أسس له الحوار الوطني لإعداد التراب الذي تزامن مع اعتلاء عرش البلاد الملك محمد السادس. يقوم هذا التدبير على أسس الحكامة والتفويض والاستشراف والشراكة والاشراك في اتخاذ القرارات التنموية بين مختلف الفاعلين الإداريين والجمعويين والاقتصاديين من أسفل إلى أعلى بعدما كانت حكرا على تقنيي وزارات مركز الرباط فقط. مخرجات الحوار الوطني لإعداد التراب وضعت فلسفة مغرب 2025 وأرست بذلك ورقة طريق قطاعية وترابية وحددت الجهات الاقتصادية للمملكة في إطار التكامل، على أساس تشخيص استراتيجي ورؤية استباقية مبنية على أسس علمية تجعل بلدنا يستفيد من موقعه الجغرافي وعلاقاته الخارجية وخيراته الوطنية ويؤسس لمبدأ الاستدامة. في السياق نفسه، عمل تقرير الخمسينية على إرساء لبنات ثقافة التقييم والمحاسبة لوضع البلاد على سكة التنمية الوحيدة القادرة على ربح رهانات المستقبل. أما المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وهي الترجمة المغربية "لأهداف الألفية" التي أطلقتها الأممالمتحدة، فكانت تهدف كذلك، ودائما في إطار الحكامة كسبيل للتنمية، إلى خلق آليات ترابية وقطاعية لتصل ثمرات التنمية إلى كل الشرائح الاجتماعية، وكل المجالات الجغرافية المكونة للبلد. كل الطرق إذن كانت ستؤدي الى روما لولا قطاع الطرق العديدين الذين كانوا يتربصون بالقافلة، والذين سميناهم في الإسهام الأول من هذه الاسهامات https://www.hespress.com/writers/444929.html)). التخطيط الاستراتيجي القطاعي وغياب المواكبة السياسية اختار المغرب إذن سبيل التخطيط الاستراتيجي القطاعي لتثبيت تموقعه في عالم القرن 21. "مشروع المغرب" هذا، يتكون من عدة مشاريع فرعية عمودية (قطاعية) وأفقية (ترابية) رصدت لنفسها أهدافا كمية ونوعية وعدة محطات (تقييم ومراقبة وترشيد لتلحق البلاد والعباد بقطار التنمية الذي تأخرنا عنه في مناسبات عدة، قبل أن تدخل في الخط اللعبة السياسوية "والوطنيون الجدد" وغياب القناعات الوطنية والفساد الإداري والسياسي وجهل متخذي القرار على المستويين الوطني والترابي بأهداف "مشروع مغرب الألفية الثالثة". وقد بني هذا المشروع من "بوزل Puzzle" مشاريعي يمتد من: مخطط "إقلاع الصناعي" (الذي تعثر جزء منه بسب الاختيارات السياسية)، وترك مكانه "للتسريع الصناعي" (2014-2020) الذي يعرف بدوره تعثرا كبيرا في تنزيل المنظومات الصناعية الجهوية. إلى رواج التجاري، الذي لم يعمل سوى على فتح السوق المغربية أمام التجارة العالمية على حساب التجارة الوسطى والمتوسطة وتجارة وسط المدينة (والتي سأعود إليها لاحقا في هذه الاسهامات)، إلى المغرب الأخضر وهليوتيس اللذين ورغم ما حققاه على الجانب الكمي والإنتاج لم يستطيعا إدخال هذين القطاعين عالم الاقتصاد الشفاف في تشكيل تكلفة الإنتاج ودفع الضرائب والرقي بعلاقات الإنتاج. أما استراتيجية التنمية الاقتصادية فقط أخطأت السبيل حين اعتبرت السياحة هدفا يتلخص في أرقام للسياح والليالي السياحية، في الوقت الذي تؤكد فيه كل الدراسات أن السياحة واستقطاب السياح هي نتيجة أتوماتيكية ولا مباشرة ومشتقة للأمن، والسلام، والرفاهية، والحرية، وغير ذلك،إلى المغرب الرقمي، وغير ذلك من المخططات الاستراتيجية التي بني عليها النموذج المغربي للتنمية. كان من المنتظر إذن أن تعمل هذه المخططات على تأهيل البلاد والعباد، غير أن غياب الوعي من طرف السياسيين، خاصة بحساسية المرحلة ومسؤوليتهم التاريخية لإنجاح التجربة، أدى إلى تسجيل تأخيرات في أكثر من قطاع وفي أكثر من مجال. ونظرا لترابط المشاريع فيما بينها، فقد ساهم الكل في تسريع النتيجة التي آل إليها النموذج سالف الذكر. ولأدل على ذلك احتجاز مجموعة من المدن المغربية الكبيرة، التي كان يعول عليها لأن تلعب دورا طلائعيا في إنجاح النموذج، نتيجة تجاذبات سياسوية همها الأول والأخير هو كرسي الرئاسة، نذكر طنجة والدار البيضاء وغيرها من المدن التي عرفت "بلوكاجات" جعلت الكثير من المستثمرين يحولون وجهتهم وجعل الكثير من المشاريع المهيكلة تسجل تأخيرات درامية. قطاعات بعينها ونتيجة للاختيارات الديمقراطية جعلت على رأس بعض الوزارات أناسا ربما لم يكونوا أو ليسوا مؤهلين لقيادتها، مما استدعى تدخل الجهات العليا كل مرة كما هو الحال الآن لتسريع التعديل في سبيل انقاذ ما تبقى من الأجندة. هل يكون خطاب صاحب الجلالة الأخير الذي وضع اليد على الجرح في مسألة غياب الكفاءات في الأماكن المناسبة ودعوته رئيس الحكومة في نفس أهمية خطاب والده قبل 24 سنة؟ وهل سيكون لتداعيات خطابه نفس الوقع على مغرب 2030؟ يتبع ... *رئيس مجموعة البحث في الحكامة الترابية والتنمية المستدامة GT2D - كلية الحقوق – طنجة [email protected]