نحو ألفي قتيل و30 ألف جريح إسرائيلي منذ أكتوبر 2023.. تقرير يرصد امتداد الخسائر إلى خمس جبهات    سائقو الطاكسيات الصغيرة بالجديدة يحسمون الموقف: ''لا أمين للحرفة.. والعداد لن يشتغل حالياً!    التصفيات الإفريقية المؤهلة لمونديال 2026.. "الأسود" ينهون استعداداتهم لمواجهة الكونغو    سابقة.. مؤسسة خاصة للمهن شبه الطبية بالجديدة تعلن عن إطلاق سنتها الدراسية الأولى بالمجان    ترامب وقادة عرب يوقعون على وثيقة شاملة بشأن اتفاق إنهاء الحرب في غزة    بميناء طنجة المتوسط: إحباط محاولة تهريب أدوية مخدّرة وحجز 9 آلاف قرص من "ريفوتريل"    تأخر التساقطات يقلق المزارعين ومربي الماشية من موسم فلاحي صعب    المغرب يتجه نحو نمو أكثر توازناً في النصف الثاني من 2025 مع تباطؤ طفيف بعد طفرة الربيع    "جيتكس غلوبال" يبرز مستجدات الحلول الذكية ومستقبل الأصول الرقمية    مشاكل تقنية تربك بيع "تذاكر الكان"    "المجلس الإقتصادي والإجتماعي": الدعم الحكومي للصحافة عام 2024 بلغ 325 مليون درهم وعلى الوزارة نشر لوائح المستفيدين    من فرنسا... شباب الاتحاد يطلقون "نداء" رفضًا للولاية الرابعة للشكر ول"مسرحية" المؤتمر الوطني    المغرب يطلق مشروعا جديدا لصناعة محركات الطائرات باستثمار يفوق 3.4 مليارات درهم    رئيس الحكومة يدعو إلى تعزيز التنسيق والتعاون بين المرافق العمومية ووسيط المملكة    المنتخب المغربي يصطدم بفرنسا في نصف نهائي مونديال أقل من 20 سنة    العثور على جثة بدون رأس بشاطئ الديزة بمرتيل    نتنياهو يعلن الغياب عن "قمة مصر"    هيئة حقوقية تطالب بمراجعة قوانين التظاهر ووقف متابعة المحتجين السلميين    بنسعيد: رهانات 2030 بالمغرب تتطلب تطوير المشهد الإعلامي الوطني    بورصة الدار البيضاء تغلق على ارتفاع    820 مليون درهم لتحويل ورزازات إلى وجهة مرجعية في السياحة الثقافية المستدامة    الكشف عن أثمنة تذاكر "كان" المغرب    المغرب يضرب موعدا مع فرنسا في قبل نهائي كأس العالم للشباب    صحيفة إسبانية: المغرب يفرض نفسه كأبرز المرشحين لكأس العالم بعد أداء "لا يمكن وقفه"    اليساري مصطفى البراهمة في ذمة الله    وهبي: يبدو أني الوحيد في جهة الأغلبية .. الجميع اختار صف المعارضة    "حماس" تسلم الدفعة الأخيرة من الرهائن    برادة: الجيل "زد" ينبّه لإكراهات قائمة.. وميزانية الملاعب لا تعطل الأولويات    توقعات أحوال الطقس غدا الثلاثاء    حملات أمنية تمشيطية واسعة بغابات طنجة وتطوان لتوقيف المهاجرين    فوز 3 علماء بجائزة نوبل في الاقتصاد    منعم السليماني يتألق مع نجوم عالميين    لافونتين المغربي والخطاب السياسي..    معايير منح جائزة نوبل بين التشريف السياسي والاستحقاق الأكاديمي    تمديد آجال الترشيح للجائزة الوطنية الكبرى للصحافة إلى غاية 20 أكتوبر    دراسة يابانية: الشاي الأخضر يقي من مرض الكبد الدهني    منظمة الصحة تحذر: البكتيريا المقاومة للمضادات تهدد الأرواح    علماء كنديون يكتشفون طريقة بسيطة عن طريق تحليل عينات من أظفار القدم للكشف المبكر عن سرطان الرئة    جائزة نوبل للأدب بيان ضدّ الشعبوية الأوروبية    «بين حبيبات الرذاذ، خلسة صفاء» .. ما بين المبتدأ وشبه الجملة، ينهمر شعر مينة الأزهر    إدغار موران: فيلسوف العصر العاشق للحمراء    ولد الرشيد: حرية الصحافة وسيلة لمحاربة الفساد وشرط أساسي لبناء الثقة بين المواطن والدولة    الصين: ارتفاع الصادرات بنسبة 8,3 بالمائة في شتنبر رغم التوترات التجارية مع واشنطن    الرئيس الصيني يدعو إلى مسيرة جديدة لتحقيق المساواة وتمكين المرأة عالمياً    المغاربة متوجسون من تداعيات انتشار الأنفلونزا الموسمية خلال فصل الخريف    وهبي: نقاتل من أجل المغرب.. وحلمنا رفع كأس العالم    كيوسك الإثنين | تحذيرات من التواطؤ الثابت بين البوليساريو والجماعات الإرهابية    الملك يشرف اليوم على تدشين مصنع لصناعة أجزاء الطائرات بالدار البيضاء    إيطاليا.. العداء المغربي الحسين العزاوي يتوج بطلا للعالم في سباق "غولدن تريل ورلد سيريز"    الفلبين: زلزال بقوة 5,8 درجة يضرب جزيرة سيبو    نجيب أقصبي ل "لوموند": حركة "جيل زد" نتيجة مباشرة ل "رأسمالية التواطؤ" في المغرب التي سحقت الفقراء والطبقة الوسطى    نظام آلي جديد يراقب حدود أوروبا    العِبرة من مِحن خير أمة..    الإصابة بضعف المعصم .. الأسباب وسبل العلاج    حفظ الله غزة وأهلها    الأوقاف تعلن موضوع خطبة الجمعة    رواد مسجد أنس ابن مالك يستقبلون الامام الجديد، غير متناسين الامام السابق عبد الله المجريسي    الجالية المسلمة بمليلية تكرم الإمام عبد السلام أردوم تقديرا لمسيرته الدعوية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



باحث: اتهام العربية بإضعاف التعليم مغالطة.. والفرنسية ليست حلا
نشر في هسبريس يوم 25 - 08 - 2019

في ظل احتدام النقاش المجتمعي حول لغة التدريس التي تعتبر أهم ما جاء به القانون الإطار 51-17، أورد في هذا المقال وجهة نظري كمواطن مغربي. وقبل الغوص في هذا البحر اللجي أود أن أقدم نفسي للقارئ وكذا شرعيتي لِدَّلْوِ بدلوي في هذا الموضوع.
أنا ابن المدرستين العمومية والخاصة في المغرب، درست الابتدائي والعالي في مدارس خاصة، ودرست الإعدادي والثانوي والجامعي في المدرسة العمومية، ثم أكملت بعد ذلك دراستي في فرنسا.
شاء القدر أن أكون ضمن ثاني دفعة التعريب في الثمانينيات، حيث تلقيت كل المواد بالعربية. أتحدث في هذا الموضوع المفخخ كأستاذ جامعي منذ 17 سنة، وكشاهد على حقبة دقيقة من تاريخ التعليم في هذا البلد. سأحاول في هذه الورقة مناقشة صواب قرار فرنسة المواد العلمية بعيداً ما استطعت عن السجال الدستوري والهوياتي، علماً أنه لو لم تكن لي إلا هاتان الحجتان لكفتا ووفتا. وسأستشهد بآراء المختصين وأورد الأرقام والوقائع التي تدعم طرحي.
هل اللغة العربية لغة علوم؟
هناك فكرة يروج لها المدافعون عن الفرنسة مفادها أن اللغة العربية ليست لغة علوم، لأن هذه الأخيرة تُنتَج بلغات غير العربية، وإذا أردنا اللحاق بركب التقدم وجب التعلم باللغات التي تنتج المعرفة.
وهذا طرح يتيم يفتقد أدنى مقومات التحليل المنطقي. فليس من الضروري أن تنتج لُغةٌ العِلْمَ للتدريس بها، فالبلغارية لا تنتج علوماً أكثر من العربية، ومع ذلك يدرس بها، وكذلك الفارسية والتركية. مع العلم أن كل العلوم حتى الدقيقة منها تمت ترجمتها للغة العربية بما في ذلك الرياضيات الجبرية والفيزياء النظرية والتي أهدى فيها مؤخراً الدكتور محمد البغدادي للعرب موسوعة رائعة لم تلق للأسف العناية اللازمة.
اللغة العربية من أغنى اللغات في العالم (تحتوي على 12 مليون كلمة مقابل 100 ألف كلمة في الفرنسية) وأكثرها استقرارا (ما كُتب قبل أكثر من 1500 عام مازال مفهوماً إلى يوم الناس هذا، في حين أن معظم اللغات لا يكاد يفهم ما كتبت به منذ 200 أو 300 عام فقط). إضافة إلى أن اللغة العربية تعد من اللغات الست الرسمية المعتمدة لدى الأمم المتحدة باقتراح من المغرب. وهذا شرف لم تحظ به عشرات اللغات ومع ذلك يُدرَّس بها.
وفي هذا الصدد كتب الأستاذ محمد رميلات حول تدريس الطب بالعربية: "تأسست جامعة السوربون عام 1258م، وهي واحدة من أرقى الجامعات في العالم، وظلت تُدرس الطب باللغة العربية زهاء 400 عام. سوريا كانت تُدرِّس جميع العلوم الطبية باللغة العربية منذ عام 1919 م وإلى يوم الناس هذا قبل أن يحل الخراب بها على الرغم من أن الاحتلال الفرنسي هناك حاول أن يفرض التدريس باللغة الفرنسية، لكن الأساتذة السوريين أصرّوا على التدريس باللغة العربية، وكان لهم ما أرادوا.
كما عرف السودان تجارب ناجحة في تدريس مواد التشريح ووظائف الأعضاء والكيمياء الحيوية باللغة العربية في كلّيتي الطب بجامعتي الشرق ووادي النيل. وفي تونس درَّس الأستاذ الدكتور أحمد ذياب علم التشريح في كلية الطب بصفاقس باللغة العربية لمدة ثلاث سنوات (من سنة 1985- إلى سنة 1988م)، لكنه واجه ضغوطاً من إدارة الجامعة اضطرته إلى ترك التعليم؛ لكن ذلك لم يمنعه من تأليف معجم طبّي باللغة العربية غاية في الدقة والإتقان.
وفي ليبيا يُدَرَّس الطب العام باللغة العربية. كل الدول في العالم تُدرس العلوم الطبية بلغتها الأم، فالإسبان يُدرسون العلوم الطبية بالإسبانية والألمان بالألمانية واليابانيون باليابانية والصينيون بالصينية. ما عدا الدول العربية لازالت إما إنجليزية أو فرنسية، باستثناء الدول المذكورة آنفًا. وإلى يومنا هذا فاللغة العربية لغة حية ومن أغنى لغات العالم بالمفردات والكلمات وهي رابع لغة عالمية بعد الإنجليزية والصينية والهندية من حيث عدد المتكلمين بها في العالم، بينما اللغة الفرنسية لا يتحدث بها سوى 3.03% من سكان المعمورة، وتأتي في المرتبة التاسعة من بين أهم عشر لغات في العالم، بل إن الفرنسيين الذين يهيم الكثير عشقا في لغتهم يُدَرِّسون أكثر من 700 تخصص في جامعاتهم باللغة الإنجليزية".
وكتب الأستاذ سعيد يقطين في تفنيد هذا الادعاء: "إن دعوى اللغة العربية ليست لغة علم باطلة، ولا أساس لها من الصحة نهائيا. ولن أُذَكِّرَ بتاريخ الفلسفة والعلوم إبان ازدهار الحضارة العربية الإسلامية. والذين يدعون أن الإنجليزية هي لغة العلم يقعون في الخطأ نفسه. اللغة تتطور بتطور المجتمع الذي يستخدمها. اللغة الإنجليزية هي لغة النشر العلمي لأن التطور الذي عرفته نتاج تطور وهيمنة الولايات الأمريكية المتحدة على المستوى العالمي.
إن كل العلوم الجديدة والمعاصرة التي تشكلت في العالم بعد الحرب الثانية موئلها أمريكا. لقد استقطبت أمريكا أنجب العلماء من مختلف الجنسيات واللغات، ووفرت لهم كل شروط وبنيات البحث العلمي في كل الاختصاصات بدون تمييز أو مفاضلة، كما هو الشأن عندنا، وجعلتهم ينتجون العلوم والمعارف باللغة الواحدة والموحدة التي هي لغة أمريكا، وليس بلغاتهم الأصلية. وكان من بين أهم نتائج هذا الاختيار تطوير تدريس الإنجليزية نفسها، وبذلك صارت لغة قابلة لتعلمها بأبسط الطرق لدى الجميع. إن الإنجليزية هي لغة النشر العلمي، وليست لغة العلم.
إن علماء كل العالم الذين يشاركون في تطوير العلوم ينتجونها بلغتهم الوطنية، وفي الوقت نفسه ينشرون أعمالهم لتكون متداولة باللغة الإنجليزية أيضا، وحين لا يقدمون على ذلك تضطلع المؤسسات العلمية المختلفة الأمريكية بترجمتها إلى الإنجليزية. لا بد من التمييز من لغة النشر العلمي واللغة العلمية".
ويأتي جاهل أو مهزوم نفسياً ويدعي أن اللغة العربية لا تصلح للعلوم الحديثة. وصدق شاعر النيل حافظ إبراهيم حين قال:
ووسعت كتاب الله لفظاً وغاية *** وما ضقت عن آيٍ به وعظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة *** وتنسيق أسماءٍ لمخترعات
أنا البحر في أحشائه الدر كامن *** فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
هل التعريب هو سبب تردي التعليم؟
مغالطة أن التعريب سبب تردي التعليم من الأطروحات التي يروج لها بشدة دعاة الفرنسة، كما لو أن المغرب كان يُفَرِّخُ علماء لا يشق لهم غبار وأدباء عالميين وحاصلين على جوائز نوبل وميداليات فيلدز أو كان يضاهي اليابان في تقدمها الاقتصادي والتكنولوجي، ثم توقفت كل هذه الإنجازات العملاقة مع التعريب. والحال أنه من أصل 12 مخططاً لإنقاذ التعليم في هذا البلد السعيد 8 مخططات تم طرحها إبان فترة الفرنسة.
كما أن تردي التعليم بدأ، حسب دراسة قام بها الأستاذ المكي الزواوي، مباشرة بعد الاستقلال، عازياً ذلك إلى ضعف مستوى الأطر التربوية الذين كان يجد أغلبهم نفسه معلماً مباشرة بعد حصوله على الشهادة الابتدائية. كما أن سياسة تعميم التعليم وتكثيفه لم تواكبها مجهودات موازية في مجال تكوين أستاذة ومعلمين قادرين على رفع هذا الرهان، ما أدى إلى هبوط في المستوى بدأت تظهر حدته مع بداية السبعينيات حسب هذه الدراسة، أي في أوج فرنسة التعليم. وأذكر حين كنا ندرس العلوم باللغة العربية في الثمانينيات، لم يكن هناك فرق بيننا وبين من سبقونا ويدرسون العلوم بالفرنسية، فقد كان يشتكي الأساتذة من تدني مستوى الجميع.
وإذا كان للفرنسة ما يفسرها بعد الاستقلال، إذ لم يكن المغرب يتوفر على أطر تدرس بالعربية، وكان عليه أن يُبقيَ على المناهج الموروثة عن المستعمر ريثما يهيأ هذه الأطر، فالأمر اليوم يبدو سرياليا باعتبار أنه بعد أن كونت هذه الأطر، والتي بإمكانها أن تعرب حتى الدراسات الجامعية، إذا به يعود إلى حيث تركه المستعمر، "كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً".
وقد كتب الأستاذ سعيد يقطين في هذا الباب: "إن المشكل الحقيقي ليس في لغة التدريس أيا كان الاختيار: عربية، أو فرنسية، أو إنجليزية، أو أمازيغية. إن المشكل الجوهري يتعلق بكيفية تدريس هذه اللغات. إنه سؤال التربية. ومشكل التربية منذ الاستقلال إلى الآن ظلت تطبعه الارتجالية والتجريب والتسرع والفساد وغياب المحاسبة. سؤال التربية يجر إلى طرح مشكلات عويصة تتصل بالبنيات التحتية، وتكوين الأطر، والتسيير والتدبير، وانسجام الرؤية إلى التعليم من الروض إلى العالي وفق خطط مدروسة ولغايات محددة. مشكل التربية يتحدد في الجواب عن سؤال ماذا نريد منها: هل خلق الموظف؟ أم العالم؟ أم المواطن؟ وحين لا تكون عندنا دقة في الاختيار لا نكون سوى أمام التخبط والمتاهة".
إن مشاكل قطاع التعليم بنوية لها علاقة أساساً بحكامة هذا القطاع وطريقة اختيار وتكوين الأطر التربوية والبرامج البيداغوجية، وجودة المؤسسات التعليمية من حيث البنى التحتية وطاقات الاستيعاب؛ كما أن الصعوبات التي يتخبط فيها مرتبطة بالطفيليات التي تقتات على ضعف مردوديته واستشراء الفساد فيه، وما مثال المخطط الاستعجالي عنا ببعيد. ومغفل من يظن أن الفرنسة هي العصا السحرية التي ستحل كل هذه المشاكل، بل لن تزيدها إلا تفاقماً وحدةً كما سنفصل لاحقاً.
ثم هب، على سبيل الجدال ليس إلا، أن اللغة العربية أصبحت متجاوزة. أليست مسؤولية النخب بَذلَ النفس والنفيس لترقيتها كضرورة وجودية لا يتأتى النهوض إلا بها؟ فلا نكاد نجد حضارة قامت لها قائمة إلا بمقوماتها الذاتية، والتي تشكل اللغة إحدى ركائزها القوية كأداة إنتاج للمعايير والمعرفة ووسيلة للتواصل بين مكونات المجتمع. هل كُتب علينا أن نبقى عالة على الأمم نستهلك ما ينتجون؟ هل بلغ بنا العجز ألا نستطيع حتى الحفاظ على لغتنا ونعطي عوض ذلك قبلة الحياة للفرنسية في خريف عمرها؟.
فلا تَكِلُوني للزّمانِ فإنّني *** أخافُ عليكم أن تَحينَ وَفاتي
أرى لرِجالِ الغَربِ عِزّاً ومَنعَة ً *** وكم عَزَّ أقوامٌ بعِزِّ لُغاتِ
أتَوْا أهلَهُم بالمُعجِزاتِ تَفَنُّناً *** فيا ليتَكُمْ تأتونَ بالكلِمَاتِ
كيف لنا أن نبني مجتمعاً متينا ومتجانساً في ظل هذا التشتت اللغوي؟ مجتمع تعيش مكوناته في عوالم مختلفة لا تجمعهم إلا رقعة جغرافية كحيوانات في غابة وليست أمة في وطن. فما معنى أن تكون مغربيا إن لم تعش وتدرس وتشتغل وتتاجر وتتداوى وتتقاضى بلغة هي جزء من كيانك؟ وتضطر أن تعيش فصاماً نكداً راقصاً على حبال لغات عدة في اليوم والليلة ألف مرة.
هل الفرنسة هي الحل؟
يظن بعض البسطاء، أو هكذا يروج لهذه الأطروحة، أن تدريس العلوم باللغة الفرنسية سيرفع جودة التعليم ويقلص الفوارق الاجتماعية ويسهل الولوج لسوق الشغل. ولم يكلف هؤلاء العباقرة أنفسهم ولو لحظة عناء الإجابة عن الأسئلة البسيطة التالية:
- كيف يدرس الطفل المغربي اللغة الفرنسية لمدة تصل إلى 1800 ساعة من الابتدائي حتى البكالوريا ويكاد يكون أميا فيها، في حين تكفي 300 إلى 500 ساعة لتعلم معقولٍ لأي لغة؟ وما إن تطأ قدماه ألمانيا أو روسيا حتى يتعلم لغتهما بطلاقة في أقل من سنة. فأين الخلل؟.
هل سويعات إضافية في المواد العلمية بالفرنسية ستجعل منه مولييراً وتنجح في ما فشلت فيه كل حصص اللغة الفرنسية؟.
كيف سيتمكن من درَس العلوم بالعربية ولا يفقه أبجديات الفرنسية أن يُدرِّس بها، إذا كان مدرسو هذه اللغة أصلاً لا يتقنونها؟ ألن يكون ذلك على حساب التحصيل المعرفي وجودة تلقين هذه المواد؟.
لمحو الفوارق التعليمية، لماذا لم يُقترح تعريب التعليم العالي عوض فرنسة جميع أسلاك التعليم، مع العلم أن الخيار الأول أقل كلفة وأكثر نجاعة ومنطقية وتناسقاً مع دستور المملكة وهويتها؟.
أين التضاد بين التدريس باللغة الأم (وهو أيسر على المعلم والمتعلم) والانفتاح على لغات أخرى، والذي يمكن أن يتم منذ مراحل التعليم الأولى؟.
اعطوني اسم مستعمرة واحدة تقدمت باستعمال الفرنسية في التدريس والإدارة والأعمال؟..
والأجوبة بسيطة لمن أراد رؤية الأمور بموضوعية. فلولا التعريب لما كان ولوج أبناء الفقراء إلى التعليم العالي والمناصب الرفيعة بهذه الكثافة ولما تمكن المغرب من الوصول إلى نسبة تمدرس تكاد تصل إلى 100٪ وذلك لسهولة تكوين مدرسين بالعربية. راجعوا أسماء عائلات الأطباء والمهندسين والمحامين والقضاة ومدراء الشركات في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات وستفهمون الفخ الذي يتم إعداده ببراعة.
لماذا يُدَرِّسُ من يدافع عن التعريب أبناءهم في البعثات الأجنبية؟
الذين يُدَرِّسُون أبناءهم في البعثات الأجنبية قلة قليلة لا تكاد تذكر (22 ألف تلميذ مسجل في هذه البعثات من أصل 4.3 ملايين تلميذ في مختلف أسلاك التعليم الابتدائي والثانوي، أي حوالي 5%). وهؤلاء لم يختاروا هذه البعثات حباً في اللغات الأجنبية الذي يُدَرَّسُ بها، بل لجودة التعليم فيها ولسيطرة اللغة الفرنسية على عالم التجارة والأعمال والإدارة في المغرب؛ فلو كانت لغة التعامل في هذا البلد هي العربية لما تحملت الأسر المغربية العبء المادي والإذلال المعنوي لتسجيل أبنائها في هذه البعثات.
لكن يبدو أن كره البعض لمن يدافع عن التعريب (حزب العدالة والتنمية بالخصوص) حجب عنهم رؤية الأمور بتجرد، والدليل شخصنتهم للقضية عوض نقاشها بحيادية. فقد تلاقت، في محاولةِ وأد اللغة العربية، مصلحةُ من تطفلوا على التيار الأمازيغي وهو منهم براءٌ، مع يسارٍ يريد تصفية حسابات سياسية مع الإسلاميين، والاثنان مدعومان من نخبة تجارية جعلت من اللغة الفرنسية ريعاً لم يزاحمها عليه سوى تفوق أبناء الفقراء في المواد العلمية، فأرادت أن تقبر آخر مصعد اجتماعي لهذه الفئة.
فالفرنكوفونية كما كتب الأستاذ زكرياء كارتي "مشروع مجتمعي له نخبه في الإعلام وفي مكاتب الاستشارات، وفي ميدان المال والأعمال، مشروع له من يموله ويشجعه. اللغات الوطنية لا نخب ولا لوبيات تدافع عنها، لا رأسمال ولا مدراء بنوك ولا رجال أعمال، فقط مبادرات فردية وبعض المثقفين والعاطفيين الذين يحنون إلى زمن ولّى. هذه هي الحقيقة، وما عدا ذلك من قانون إطار وأشياء أخرى يبقى هامشياً. قوى التأثير توجد خارج دواليب البرلمان والحكومة، وذلك حتى في الديمقراطيات العتيدة، فما بالك بالمغرب؟". خلاصة القول أن منطق القوة أنفذ من قوة المنطق، مصداقاً لقول أبي تمام:
السَّيْفُ أَصْدَقُ إِنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ***في حدهِ الحدُّ بينَ الجدِّ واللَّعبِ
ولو نفعت المخططات 12 السابقة في إنقاذ التعليم لما احتاجنا لرؤية جديدة، مآلها الفشل كسابقاتها لأنها بنيت على الأسس نفسها. هذا المخطط 13 هدفه واحد، هو تمرير فرنسة التعليم. وما تثمين الرئيس الفرنسي لهذا القرار إلا إشارة واضحة إلى حيث تجري رياح سفن الواقفين خلفه. "قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ".
*أستاذ باحث


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.