تثير خطب الملك محمد السادس تفاعل ثلاث دوائر اجتماعية على الأرجح: الوسطاء من الأيديولوجيين وملتقطي الإشارات؛ العموم من المكترثين وغير المكترثين؛ الرافضون للهيمنة الصامتون والمتكلون. وجميعهم تحت سلطة المفاهيم السياسية التي تعتمل لإعادة بناء المشكلات الاجتماعية، كما تبَيَّن منذ ستينيات القرن العشرين، عندما جرى الحديث عن "المنعطف اللغوي" لدراسة دور اللغة في السياسة. إن اللغة ممارسة اجتماعية تجري داخل مجموعة من الأطر الثقافية والاجتماعية والنفسية، بوصفها صورة من صور القوة التواصلية، أي شكل من أشكال السلطة، ووسيلة لممارستها على الناس بطريقة أكثر عمومية. وخطاب الملك، كأي خطاب، بما هو نص وممارسة، يسعى إلى إعادة صياغة المشاكل وتأطير الحلول، وهي مهمة إيديولوجية بالأساس، وفقًا ل "نورمان فاركلوف" الذي طور التحليل النقدي للخطاب. فالخطاب ليس مجرد فعل تواصلي إجرائي بل ممارسة اجتماعية تضفي الطابع المؤسسي على الممارسات الخطابية، وتُحولها من ممارسات لغوية إلى شروط لعلاقات اجتماعية مستقرة. 1 يكشف التحليل الجزئي لخطاب 20 غشت 2019 عن تقسيم داخلي من خمسة أجزاء: التجديد: "نموذج تنموي جديد"، "مرحلة جديدة"، "عقد اجتماعي جديد"؛ تصور المشاكل الاجتماعية لدى "الفئات التي تعاني أكثر، من صعوبة ظروف العيش... في المجال القروي، وبضواحي المدن"؛ الحلول الاقتصادية: الاستثمار الفلاحي، الحرف التقليدية، التكوين المهني والعمل اليدوي؛ أهمية توسيع قاعدة "الطبقة الوسطى" في الاستقرار والتماسك الاجتماعي؛ مشاكل النمو الاقتصادي ومسؤولية الحكومة والإدارات المركزية. وفي بناء نص الخطاب، الذي يتضمن 1027 كلمة، نلفي 38 كلمة استعملت الضمير "نحن"، الذي يمكن تفسيره على أنه خطاب مؤسسة أو جهة مبجلة، كما يحيل على المسؤولية المشتركة مع الحكومة وحتى المجتمع على حصيلة الخيارات "الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية". في المقابل 3 كلمات عبرت عن الضمير "أنا"، مشيرة إلى الرأي الخاص في "الأمور المصيرية". أما الكلمات المفاتيح الأكثر حضورًا فتبرز التركيز على الوطنية والمشاكل الاجتماعية و"التجديد"، والحلول وحدودها الاقتصادية، كما يلي: وطن، مغرب: % 0,97 شعب، اجتماعي: % 0,77 تجديد: % 0,68 نموذج تنموي، عالم قروي، تكوين مهني، قطاع خاص، فلاحي، مرحلة: % 0,58 ظروف، اقتصاد، مواطن، تنمية، مشاريع: % 0,38 2 إن الممارسة الخطابية هي مساهمة في عملية الإنتاج السياسي للنفوذ. إذ تفرض علاقة القوة التواصلية التفاعل مع النص كمورد وحيد في عملية التفسير يزيح أي قراءة خارجية. فنجد المتلقي الإيديولوجي (السياسي، المحلل، الصحفي...) جاهز لإعادة تدوير القاموس الدلالي للسلطة، لتكريس الكليشيهات التي يُعِّدها الخطاب "للتداول العمومي". وهي آليات ومداخل لحل المشاكل الاجتماعية، من المتوقع أن يُعْلَنَ عن فشل الحكومة والأحزاب في تنزيلها. ويمكن استخراج العبارات الجاهزة التالية: "المرحلة الجديدة"، "عقد اجتماعي جديد"، "النموذج التنموي"، "نموذج مغربي- مغربي"، "مقاربة تشاركية وإدماجية، "مرحلة المسؤولية والإقلاع الشامل"، "النهوض بالعالم القروي"، "البرنامج الوطني الطموح"، "الاستثمار الفلاحي"، "المبادرة الخاصة"، "التشغيل الذاتي"، " التكوين المهني"، "العمل اليدوي"، "الجهوية المتقدمة"، "ميثاق اللاتمركز الإداري"، "الاستثمار الترابي"، "العدالة المجالية"، الاختلالات الإدارية"، "الكفاءات المؤهلة"، "تصحيح المسار". 3 تحدث الخطاب عن "مرحلة جديدة" "لا تقبل التردد أو الأخطاء" متفاديًا "النقاش حول مستويات وأرقام النمو"، ومركزًا على "العمل على تجاوز المعيقات، التي تحول دون تحقيق نمو اقتصادي عال ومستدام، ومنتج للرخاء الاجتماعي.". وقد استخدم حقائق معينة تقول إن "المغرب ولله الحمد، بدأ خلال السنوات الأخيرة، يتوفر على طبقة وسطى تشكل قوة إنتاج، وعامل تماسك واستقرار.". ومن مفارقات الخطاب في إيجاد العلاقات السببية بين الأشياء، أن يحث على "العمل على صيانة مقومات" "الطبقة الوسطى" مع الدعوة للإقبال على التكوين المهني والعمل اليدوي. أن يعتبر "ولوج الجامعة ليس امتيازا ولا يشكل سوى مرحلة في التعليم. وإنما الأهم هو الحصول على تكوين، يفتح آفاق الاندماج المهني، والاستقرار الاجتماعي."، وحقيقة الأمر أن ولوج الجامعة قد يساعد في كشف الأيديولوجيات التي تسهم في إنتاج وإعادة إنتاج السلطة، وفي كيفية تقييد الخطابات لفهمنا للعالم. فالإيديولوجيا جزء لا يتجزأ من الممارسة الخطابية، والخطابات الإيديولوجية تسهم في إنشاء علاقة القوة أو الحفاظ عليها. والملاحظ أن هذا البناء الخطابي للمشاكل الاجتماعية استدعى كلمة "فئة" للتعبير عن قطاعات من المجتمع تعاني أكثر من الظروف القاسية، للتدليل على أنها مفتتة باعتبارها "فئات". في المقابل فأحد عوامل الاستقرار يتمثل في كتلة أكثر تماسكًا هي "الطبقة الوسطى"، بيد أن الظروف الاقتصادية والسياسية المعروفة لتقوية هذه الطبقة بقيت خارج الحلول الممكنة التي رسمها الخطاب. فإذا كان كل خطاب ينطوي على دلالات غامضة ونقاط خلافية، ك"الديمقراطية" و"المساواة" و"الحرية"، فالممارسة الخطابية للسلطة، تميل إلى الإبقاء على الغموض الذي يكتنف علاقة اللغة بالواقع، الذي يبدو دائمًا معقدًا بسبب وجوده المستقل عن معرفتنا وتفسيرنا. وفي حين يتكون الخطاب كبنية ونسق دلالي إيديولوجي، يعيش على المعاني التي يخلقها والتي يُخْلَقُ من خلالها، تبقى ممارسات السلطة في حاجة أبدية إلى ممارسات خطابية.