يعتقد الكثير من الطلبة أن إنهاء الدراسة الجامعية، والحصول على شهادة عليا، سيعبد الطريق نحو الالتحاق المباشر بسوق الشغل، لكن مفاجأتهم تكون كبيرة بعد التخرج، بعد أن يتواتر رفض طلبات التوظيف من قبل المؤسسات والمقاولات. تدريجيا يعي هؤلاء الطلبة جوهر المعضلة، هم خريجو جامعات يحملون في صدورهم مقررات دراسية متعلقة بتخصصاتهم، غير مدركين أنها أطروحات أكاديمية لا غير، لا علاقة لها بالواقع المهني الذي أضحى يتطلب اليوم مهارات من نوع آخر، يتعارف عليها باسم "المهارات الناعمة" (Soft Skills). رغم أن المهارات الصلبة أو التقليدية (Hard skills)، التي تكتسب من خلال المناهج والمقررات الدراسية؛ تظل مهمة في الجانب الوظيفي، كالكتابة واللغات والعلوم، وستحتفظ على الدوام بمكانتها بين الأكاديميين والمهنيين، إلا أن هناك طلبا متزايدا بين أرباب العمل على الخريجين ذوي المهارات الناعمة، والتي تعكس سلوك الأشخاص، وتساعد في خلق جو من التفاعل داخل الوسط المهني، كالذكاء الاجتماعي، ومهارات التواصل والتفاوض، والتي لا تكتسب عبر المناهج التعليمية التقليدية. طالب اليوم يحتاج إلى العديد من المهارات التي تؤمن له حظوظا وفيرة في الحصول على وظيفة، والبصم على مسار مهني ناجح، وهي مهارات تتجاوز التكوين الأكاديمي والاختصاص إلى مجالات أوسع. لكن للأسف، ففي وقت مازالت السياسات التعليمية بالعالم العربي تعتمد إستراتيجيات للرفع من جودة تكوين الطالب وتمكينه من مهارات، ترتبط بالمعرفة والخبرة والقدرة على تنفيذ المهمات المحددة وفق التخصص، تتجه الجامعات الرائدة في العالم إلى التركيز، أكثر فأكثر، على تشغيلية شهاداتها العلمية، وهو ما يجتذب الطلاب لها أكثر من غيرها. واتجهت هذه الجامعات نحو التركيز على التجاوب مع متطلبات أرباب العمل وأصحاب المؤسسات، إذ شرعت في تسطير برامج ودورات تكوينية تنمي المهارات الناعمة لدى طلابها؛ بل إن بعض الدول فطنت لهذا الأمر وانخرطت في بناء هذه القدرات لدى الطلاب طيلة مسيرتهم الدراسية، وفق برامج محددة تشتغل على التكوين النفسي والاجتماعي وتنمية القدرات التواصلية. وترتبط المهارات الناعمة بقدرة الشخص على التعامل مع الآخر، واستعراض أفكاره بشكل مقنع وأنيق، وقدرته على التواصل وروح المبادرة، والتفاعل مع الزبائن أثناء خدمتهم أو توجيههم. وهذه المهارات أصبحت مكملة للمهارات الصلبة، بل أضحت على نفس المستوى من الأهمية، لاسيما وأن هناك قناعة في عالم الاقتصاد والأعمال بأن هذه المهارات محورية في تأمين نجاح الأعمال. وكشفت العديد من الدراسات أن عدم توافر المهارات الناعمة لدى فرق العمل يؤدي إلى نتائج سلبية، وضعف في المردودية. فالمهارات الناعمة كمفهوم جديد يربط بين التكوين والتعليم وبين حاجات سوق العمل، تعتبر مجالا واسعا وحديثا يتسم بالشمولية لكل ما له علاقة بالجوانب النفسية والاجتماعية عند الطالب، من أجل جعله قادرا على التعاطي مع العالم الواقعي خارج أسوار الجامعة. والتمكن من مهارات الإلقاء والتواصل أصبح أمرا مطلوبا، لأن العالم اليوم لا يريد المهندس المتمكن من أدواته فقط، ولكن يريده أن يكون قادرا على عرض أفكاره والتواصل بخصوصها مع فريق عمله ورؤسائه، وبالتالي التأثير في وسطه المهني. مغربيا، انتبهت وزارة التربية الوطنية إلى أهمية هذه المهارات ودورها الحاسم في مساعدة الشباب خريجي الجامعات على الانتقال من مرحلة التكوين إلى مرحلة التشغيل. وقد استفاد أكثر من مائة ألف شابة وشاب مغربي من طلبة الجامعات ومتدربي معاهد التكوين المهني، من خدمات مراكز التوجيه الوظيفي (Career Centers) والمركز الافتراضي للتوجيه الوظيفي، التي تم تصميمها وإحداثها من قبل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ووزارة التربية الوطنية كتجربة نموذجية في ثلاث مدن، وهي الدارالبيضاء وطنجة ومراكش. وتوفر مراكز التوجيه الوظيفي مجموعة من الخدمات، تتلخص في تقديم أدوات تشخيصية لمساعدة الشباب على اكتشاف قدراتهم ودروس وورشات المواكبة والإعداد للتشغيل والتكوينات في الكفاءات غير التقنية (المهارات الناعمة)، والتزود بالمعطيات حول القطاعات الواعدة، وكذا المسارات المهنية، بالإضافة إلى ربط الاتصال مع المشغلين من خلال برامج متعددة تتضمن تنظيم ندوات وزيارات وتداريب وتكوينات داخل المقاولة. وقد استفاد أزيد من 33 ألف شاب وشابة من مختلف الخدمات المقدمة في فضاءات مراكز التوجيه الوظيفي النموذجية الستة التي فتحت أبوابها ما بين شهر مايو 2016 وبداية 2018؛ كما يمنح المركز الافتراضي للتوجيه الوظيفي لعدد كبير من المستفيدين نفس الخدمات الأساسية التي تقدمها المراكز المتواجدة بالجامعات ومراكز التكوين المهني. ومنذ انطلاق هذا المركز الافتراضي، خلال شهر ماي 2016، تم تلقي ما يزيد عن 810 آلاف زيارة، وتسجيل أكثر من 45 ألف مسجلة ومسجل، استفادوا من خدماته في ميادين التوجيه والمواكبة والإعداد لعالم الشغل. ويعتبر هذا الموقع الإلكتروني الأول من نوعه في المغرب، إذ يجمع في موقع واحد مجمل عروض الوظائف والتدريب المقدمة على شبكة الإنترنت في المملكة. وثمة حضور قوي لمراكز التوجيه الوظيفي على الشبكات الاجتماعية، ولاسيما لدى فئة الشباب، من خلال أكثر من 49 ألف منخرطة ومنخرط على الفيسبوك ولينكدين. وقد أبانت هذه التجربة عن فاعليتها في شتى أنحاء العالم، لاسيما في أوروبا وأمريكا الشمالية، حيث يمنح هذا النوع من المراكز فضاء للحوار والتفاعل بين الشباب وكافة الفاعلين في سوق الشغل، من مقاولات ومؤسسات التكوين ووكالات التشغيل والمرافق العمومية والجمعيات وفدراليات المقاولات. فكل طالب باحث يحتاج إلى تطوير ذكائه الاجتماعي والعاطفي خلال مساره الأكاديمي، بحيث يصبح قادرا على التواصل مع الآخرين والتأثير فيهم، وتبرز هنا اللغة الإنجليزية من بين المهارات التي تمهد الطريق لتطوير هذه الذكاءات، بالنظر إلى أن تعلمها يمكن من التشبع بقيم وأخلاقيات وطرق تواصل تساعد على تطوير المهارات الناعمة، ليس فقط على مستوى المعارف الأساسية، ولكن كذلك على المستوى العاطفي والاجتماعي. وفي هذا الصدد يشير المهتمون بهذا المجال إلى القدرة على تسيير نقاش أو التعاون مع الآخرين لتنظيم نشاط أو إعداد بحث في إطار فريق، أو القدرة على التعامل الناجح مع الصعوبات، والتخطيط والتحكم في الزمن والآجال، وتدبير الأزمات، في سياق يستوجب ذكاء مخالفا لذكاء الأرقام والمعارف الصلبة. وهكذا، يمكن القول إن المهارات الصلبة تظل المدخل الأساس لأي عمل أو وظيفة، لكنها ليست مطلقا المفتاح نحو النجاح، إذ لا بد من مواكبتها بالمهارات الناعمة، التي أثبتت نجاعتها وفاعليتها في تطوير وإنجاح كافة المبادرات والأعمال داخل مقاولات عالم اليوم. *و.م.ع