نتطرق من خلال هذه السلسلة (28 مقالا) لاستعراض محطات فكرية وأطروحات فلسفية أنارت طريق الحضارة الغربية في تعاملها مع مسألة حقوق الإنسان التي برزت بشكل يزداد ثقلا وعمقا منذ الربع الأخير من القرن العشرين، والتي تحمل في ثناياها إيديولوجية القرن الواحد والعشرين المفتوحة على كل الاحتمالات. إن الاعتبارات النقدية الواردة في هذه المقالات ليست من باب التسرع في إصدار أحكام القيمة، ولا من باب التحامل المبني على الآراء الجاهزة والاندفاعات العشوائية المتطرفة، وإنما هي قراءة موضوعية في بعض مرجعيات الفكر الفلسفي الغربي الذي تتغذى عليه منظومة حقوق الإنسان المعاصرة. 28/18- مبادئ الثورة الفرنسية أعفى نظام الامتيازات طبقة الأشراف ورجال الدين وذوي الصلة بالبلاط من جزء كبير من الضرائب، لقد استفحل الاستبداد، وتمردت طبقة البورجوازية الصاعدة، وتراجع نضام الإقطاع، وتهلهل الاقتصاد، وانتشرت أفكار فلسفية تدعو إلى الإصلاح، واتسعت هوة الفوارق الاجتماعية... ومع هذا كله كيف لا تحدث ثروة في البلاد؟ لكن هناك ثورة وثورة، وما العناصر المشار إليها أعلاه إلا نظرة خاطفة على الجزء العائم من الجبل الثلجي، لقد كتب البير ماتيي، وهو من المؤرخين للثورة الفرنسية، ملاحظات وجيهة بهذا الصدد:" إن الثورات الحقيقية، وأعني بها تلك التي لا تقتصر على تغيير أشكال الحكم والمسؤولين الحكوميين بل تتعداها إلى تحويل المؤسسات وإعادة توزيع الملكية هي ثورات تزحف ببطء تحت غطاء الزمان قبل أن تنفجر في واضحة النهار بتأثير من ظروف طارئة. والثورة الفرنسية التي باغتت المستفيدين منها وضحاياها على حد السواء، بشكل استحالت مقاومته، ظهرت إلى الوجود بعد قرن ونيف من الزمان وكان اختمارها بتأن. لقد كانت نتيجة لقطيعة تدريجية بين الوقائع والقوانين، بين المؤسسات والتقاليد، بين المنطوق ومدلوله". وهكذا تتميز الثورة الفرنسية التي اندلعت سنة 1789 عن غيرها من الثورات بأنها كانت تعبيرا صارخا عن إرادة الشعب في مواجهة نظام المؤسسات القائمة بأكمله، فهي لم تكن انقلابا عسكريا أو تغييرا للسلطة التنفيذية وبنيات نظام الحكم، بل تغييرا طال كافة أشكال الكيان الداخلي لمؤسسة الدولة، وأرسى الأسس لثقافة ثورية مبنية على جيل لم يسبق له مثيل من الحقوق والحريات، ترتب عنه مفهوم جديد للإنسان وانقلبت على إثره مفاهيم السيادة والسلطة السياسة رأسا على عقب. فإذا كان الملك لويس الرابع عشر يردد زمانه في عجرفة وغرور: الدولة هي أنا، فإن الشعب الفرنسي -وانطلاقا من سنة 1789 بالتحديد-أصبح يردد في نشوة عارمة: السيادة هي أنا! الحرية، المساواة، الإخاء لم تكن مبادئ الحرية والمساواة والإخاء إلا تجسيدا لمفهوم سيادة الشعب، ولم يكن هذا شعارا أجوف وأسلوبا دعائيا تعبويا، بل كان عنوانا للوفاء لروح الثروة، وضمانة إرادية للحفاظ على مكتسباتها، وعزما أكيدا على مواصلة بناء المجتمع وفقا لمرتكزات الثورة ودعاماتها. لقد أثمرت آراء فلسفة الأنوار وتحقق ما تنبأ به فولتير بسنوات قبل اشتعال فتيل الثورة حين قال: "كل شيء أراه ينبئ عن بذور ثورة لا مفر من وقوعها في يوم من الأيام، والتي لن أسعد برؤيتها. إن الفرنسيين يأتون دائما متأخرين جدا، ولكنهم يأتون في النهاية، إن الضوء يمتد من الجيران إلى الجيران، وسيحدث انفجار ثوري عظيم في أول فرصة، وعقبه هياج نادر، يا لسعادة الشباب لأنهم سيشاهدون أشياء بديعية وجميلة". وأشار كوندورسي إلى أن التقدم قد يسير بخطى بطيئة أو حثيثة، لكنه في الحالتين حقيقة أكيدة. وكان يعني بذلك حتمية تراجع عدم المساواة بين الناس، وأضاف بنبرة تفاؤلية أن إفريقيا ستدخل طور حضارة تعتمد على الزراعة المستقرة، وأن الشرق سيشهد تشريعات حرة، ومن ثم فإن شمس الحرية ما تلبث أن تشرق على الناس في كل مكان، إلا أن لافاييت كان أكثر واقعية عندما ربط الحرية بالإرادة، موضحا أن الأمة إذا كانت تتطلع إلى الحرية فعليها أن تريدها وتصمم على نيلها. وتراجع نفوذ سفاسطة السلطة في مواجهة فلاسفة التجديد، لقد أوجز جاك روسو احتجاجه على الاستبداد بقوله في مقدمة "العقد الاجتماعي": ولد الإنسان حرا ومع ذلك فهو مقيد بالأغلال من كل جانب. لقد كانت الأفكار تزخر بالنار، وهذا طوماسبين يصيح مجاهدا في سبيل الحق: "حيث لا حرية فذاك وطني"، وهو شعار كان يعني به الدفاع عن استقلال الشعوب ضد القهر والطغيان. وفي رده على إدمون بيرك الذي هاجم الثورة الفرنسية وانتقص من شأنها، دافع طوماسبين بقوة عن حرية إرادة الشعب حتى ولو ارتضى هذا الشعب لنفسه أن يبقى سجينا للعبودية. وقال في معرض تطرقه لنتائج الثورة الإنجليزية لسنة 1688، إن الذين ارتضوا أن ينزلقوا عن حقوقهم خضوعا للملك وليام وورثته كان من حقهم وهم أحياء أن يختاروا حتى أن يكونوا عبيدا، لكن هذا لا ينقص من حق أبنائهم مثقال ذرة في أن يكونوا أحرارا، معبرا عن ذلك بقوله البليغ: "ليس للخطأ سلالة شرعية"... ارتقت مبادئ الحرية والمساواة والإخاء إلى أهداف حقيقية، لكن تحقيق مثل هذه الأهداف يصعب على العقل إنجازه، وهي أهداف يستعصي تحديدها على وجه الدقة. لقد أراد توركو وكوندروسي وميرابو وغيرهم من أتباع فولتير القيام بثورة سلمية، لكنها لم تحظ بقبول المقهورين الذين كانوا يطالبون بالمساواة أكثر من مطالبتهم بالحرية، وهو شيء صعب المنال: " أولئك الذين ينادون بالمساواة بين الناس يقولون صدقا لوعنوا بقولهم مساواة الناس في الحرية والفرصة وامتلاك الأشياء وحماية القانون، ولكن المساواة أكثر الأشياء طبيعية وأكثرها خيالا ووهما في الوقت ذاته، فهي طبيعية إذا اقتصرت على الحقوق وغير طبيعية إذا حاولت مساواة الناس في الحكم والسلطة والأملاك والمتاع، لأن المواطنين ليسوا جميعهم على قدم المساواة في القوة، ولكن يمكن مساواتهم في الحرية، هذه المساواة هي التي فاز بها الشعب الإنجليزي. وكونك حرا يعني ألا تكون خاضعا لشيء سوى القانون". وهكذا اتسع وتشعب نطاق هذه المفاهيم مع تطور مراحل الثورة نفسها، ففي البداية مثلا كانت الحرية تعني تحقيق أمن الفرد في وجه سلطات الدولة، وكان معنى المساواة هو المساواة بين أفراد المجتمع أمام القانون وإلغاء الامتيازات، وأما الأخوة فقد كانت تعني تآخي أفراد الأمة بهدف إعادة توحيد العناصر الاجتماعية التي بعثرتها الاضطرابات. والسبب في عدم استقرار هذه المفاهيم والانزلاقات الخطيرة التي أدت إليها، بما في ذلك اللجوء المفرط إلى المقصلة، يكمن على ما يبدو في تضارب القوة المحركة للثورة وما ينتج عن ديناميتها من مد وجزر. وفي ذلك يقول المؤرخ جورج لفيفر: "إن الثورة الفرنسية تمثل أربع حركات ثورية متمايزة: ثورة أرستقراطية وثورة بورجوازية وثورة الفلاحين وثورة أهل المدن من موظفين وغيرهم من أصحاب المهن الحرة. وقد كان تلاقي هذه القوى الأربع هو الذي خلق الثورة الكبرى، كما أن افتراق هذه القوى أو حلولها في أوقات مختلفة هو الذي كان يعرقل سير الثورة أو يطيل أمدها". ويبقى من المؤكد أن هذه المبادئ بالرغم من ضبابية مفاهيمها والإشكاليات التي تطرحها، قد وضعت الأسس الصلبة لدولة الحق والقانون، وليس من قبيل الصدفة أن يقول مورا: "أساس كل حكومة حرة هو عدم خضوع أي شعب لأي شعب آخر قانونا، ولا لأي قانون عدا القانون الذي اختاره هو لنفسه، والتمتع بالسيادة التامة في بلاده والاستقلال التام من أية سلطة بشرية مفروضة عليه". حقوق الإنسان والمواطن في صباح 27 غشت 1789 وبعد ليلة من النقاشات الحادة في الجمعية الوطنية، أعلن الماركيز لافاييت البيان العام لحقوق الإنسان والمواطن الذي يجب أن يتخذ كقاعدة للدستور، وجاء في مقدمته الاعتبارات التالية: " إن ممثلي الشعب الفرنسي المكونين للجمعية الوطنية يعتبرون جهل حقوق الإنسان أو نسيانها أو ازدراءها هي الأسباب الوحيدة للمصائب العامة ولفساد الحكومات، لذا فإنهم عقدوا العزم على عرض حقوق الإنسان الطبيعية المقدسة التي لا يمكن التنازل عنها، ضمن إعلان رسمي حتى يبقى هذا الإعلان حاضرا وبصورة دائمة أمام أفراد المجتمع مذكرا إياهم باستمرار حقوقهم وواجباتهم، ولكي تكون أعمال السلطتين التشريعية والتنفيذية، وبمقارنتها في كل لحظة مع هدف كل مؤسسة سياسية، أكثر احتراما لها، وذلك من أجل أن ترتكز مطالب المواطنين، من الآن فصاعدا، على مبادئ بسيطة وغير متنازع بشأنها، تتمحور دائما حول الحفاظ على الدستور وسعادة الجميع". وبالمقارنة مع الثورة الإنجليزية فإن إعلان الحقوق في البرلمان الإنجليزي كان مقتصرا على التعبير عن حقوق الإنسان الإنجليزي القانونية والتاريخية ضد العرش، وكأنه عبارة عن جملة من المطالب النقابية، بينما الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان كان قائما على مبادئ عامة من السهل تعميمها على سائر شعوب العالم. ومهما يكن من أمر، فإن الثورة الفرنسية أضحت نقطة تحول عميق في التاريخ السياسي للعالم الحديث، ولم تؤثر على شكل ومحتوى الأنظمة السياسية المعاصرة فحسب، بل أحدثت تغييرا جوهريا في تشكيل ثقافة الإنسان الغربي، وكان لها الفضل في إعطاء الدفعة الحاسمة لظهور سلطة من نوع جديد: إنها سلطة الرأي العام. لقد سجلت الثورة الفرنسية بحق منعطفا من الأهمية بمكان في مسيرة الفكر الإنساني قاطبة. *أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة [email protected]