تقديم يعد الغش من المواضيع الأكثر استقطابا للاهتمام والأكثر تداولا عشية دخول موسم الحصاد التربوي والدراسي، والامتحانات الإشهادية. تتعدد مداخل تشخيصه وتتنوع مقاربات تحليل وضعياته. لكن الغش يبقى غشا، وسؤال: ما الأثر؟ يبقى قائما، وسؤال: من المستفيد؟ يبقى عالقا. وضعية انطلاق: تشتغل الوزارة الوصية إبان انطلاق مراحل الإعداد للامتحانات الإشهادية، وعلى رأسها امتحانات البكالوريا، من أجل تطوير العدة الوقائية وإجراءات زجر الغش والغشاشين ومساعديهم وعينها على حال المردودية الداخلية والخارجية للمنظومة، ومنها نسب النجاح والتدابير اللازمة لإنعاشها؛ وعلى سيولة الخريطة المدرسية والإمكانات المتاحة لتغطية الخصاص متعدد الأوجه؛ وعلى تكلفة التلمذة في علاقة بالالتزامات والطلب المجتمعي؛ وعلى ما توفره المعاهد العليا ذات الاستقطاب المحدود والمحدود جدا من المقاعد النوعية، وعدد المقاعد النوعية التي توفرها، والمؤسسات ذات الاستقطاب المفتوح وآفاقها وأنظمة اشتغالها. أما المستفيدون الكبار من الغش فماضون من خلف الستار، يخططون، يواكبون، يشتغلون من أجل تحديد ثغرات منظومة التقييم وتطوير عدة الاختراق والآليات التنظيمية الملائمة لإصابة الأهداف بدقة وفعالية. ومستفيدو القرب، أصحاب أكشاك النسخ الميكروسكوبي، وأصحاب المهن الموسمية ذات الصلة بالامتحانات، وأصحاب شعار "مصائب قوم عند قوم فوائد"، مصاصو جيوب الأسر، بائعو المختصرات والخلاصات، بعضهم يعرض خدماته، وبعضهم يجهز آلاته وعدده، وعينات الورق المفيد ومتعدد الألوان والأحجام. أما الأمهات والآباء فكثير منهم بين المطرقة والسندان، الغاية تبرر الوسيلة عند البعض، فالنجاح، على كل حال، أفضل من التكرار. أما البعض الآخر فلا يخاف إلا قانون الزجر وما قد يخلفه من آثار وآلام وأحزان. والقليل منهم من يرى الغش لا فائدة منه. أما القلة القليلة فهي من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. مطمئنون لا يبا لون، لأن المعدلات مضمونة، والمقاعد محجوزة، وما المستقبل سوى مسألة وقت وسنوات أوجبها نظام الدراسة والتقويم. لكن، في كل هذا يبقى السؤال المر والأعمق: ما موقع التلميذة والتلميذ في هذه الوضعية؟ هل هما من المستفيدين أم من الضحايا؟ وإذا افترضنا أنهما من المستفيدين، وهذا ما لا أعتقده جازما، من هو التلميذ الذي يختار الغش وسيلة للنجاح؟ وما الاختيارات الأخرى المتاحة أمامه؟ وأكثر من ذلك، مادام الغش في الامتحانات ظاهرة، فمن المستفيد الحقيقي منها؟ أنتِ وأنتَ، وأنا ونحن، جميعنا نعرف الجواب، إن لم يكن كليا فهو جزئيا على الأقل. لكن، لا بأس لنستحضر في صمت الجواب في داخلنا عن هذه الوضعيات الاحتمالية المتخيلة. تصور أنك دخلت عيادة للطب العام فوجهك الطبيب إلى آخر مختص، فعلمت، بالصدفة، أنه زور شهادته أو أنه غشاش أو نجح بالغش؛ تصور نفسك أمام رجل سياسة محترف تعرف متيقنا أنه نجح بالتزوير في دائرته الانتخابية؛ تصور نفسك تركب حافلة للنقل العمومي فتجد سائقها من الذين تعرف أنهم اشتروا رخصة السياقة؛ تصور نفسك أنك في هذه اللحظة أستاذا وكنت غشاشا في مسارك الدراسي، فهل ستثق في نفسك وقدراتك؟ ......................... إذن، هل يمكن أن يكون هذا الطبيب كفئا مؤتمنا على صحتك وعافيتك وتسلمه جسدك؟ وهل يمكن لرجل السياسة، هذا، أن يكون مصدر ثقة وأمينا ومسؤولا عن مصير بلد أو جماعة ترابية حتى؟ وهل يمكنك أن تحس بالأمان وأنت تركب حافلة يقودها هذا السائق؟ وهل يمكن أن يكون هذا الأستاذ كفئا وقدوة؟ وفي النهاية هل يمكن أن يكون هؤلاء مواطنين مخلصين صالحين؟ الغش ظاهرة مجتمعية: في اعتقادي، نحن لا نحتاج إلى كلام كثير في موضوع الغش بالوسط المدرسي، لأنه لا يوجد أحد بيننا يعتبر الغش وسيلة مشروعة، بل الكل يقرّ بأنه سلوك انحرافي مرتبط بقيم مضادة لا تقبلها المعايير والمقاييس الاجتماعية مهما كانت مرجعياتنا، دينية أو إنسانية، ومهما كان المجال الذي يمارس فيه، اجتماعيا أو سياسيا أو اقتصاديا أو ثقافيا. ومن هذه القيم المضادة: الخيانة والكذب وشهادة الزور والتحايل والسرقة. الغش إذن ظاهرة اجتماعية مرتبطة بمنظومة قيم سائدة ومستشرية في كل تفاصيل المجتمع. فعندما تجد نفسك أمام تاجر غشاش ورجل سياسة غشاش ورجل اقتصاد غشاش ومهندس غشاش وبنّاء غشاش ومحام غشاش وطبيب غشاش وأستاذ غشاش ورجل صناعة غشاش ورجل قانون غشاش وطباخ غشاش، وآخرين، فأنت أيضا، بشكل أو بآخر، أمام زوج غشاش وزوجة غشاشة وأب غشاش وأم غشاشة ومربية غشاشة. أنت، إذن، أمام مجتمع موبوء، أمام حرب شرسة، فانية، بل إنها أم الحروب لأنها أداة تدمير لللإنسان ولإنسانية الإنسان. إنه (الغش) سلوك فردي وجماعي انحرافي مدمر لكيان المجتمع، وهو نتاج عوامل كثيرة تجد مرجعها الأساس والمشترك في منظومة قيم أصابها العقم أو أصابها الدمار، منظومة قيم تقودها الأنانية والذاتية والانتهازية وحب الملكية والسلطة وحب التفوق والرياء الاجتماعي والبقاء للأغنى والاحتكام إلى منطق التحايل والتدليس وغيرها. تعمل الدول والمجتمعات على خلق آليات للوقاية ومناهضة هذه السلوكات. لكنها سلوكات، بدورها، تتطور، لتصبح أكثر ملاءمة، بل يخلق المجتمع ذاته آليات مناسبة لجعلها سلوكات قابلة للتطبيع، مقبولة اجتماعيا، فيصبح الغش والتزوير والرشوة ذكاء، كما يصبح التدخين وتعاطي الخمر والدعارة متعة وإثباتا للذات. عندما يرغب المجتمع في وقاية نفسه ومناهضة الظواهر الاجتماعية الغير مرغوب فيها والسلوكات المنحرفة الغير مدنية يتوجه نحو المدرسة، لأنها المؤسسة الاجتماعية المتعالية التي أوجدها لصيانة نفسه. وتنشئة أجيال جديدة محصنة بجهاز مناعة متطور، ما دام الأمر يتعلق بوظيفة أساسية من وظائف المدرسة، حيث إن المدرسة، إلى جانب توفيرها المعرفة، فهي تخلق مناسبات لاشتغال القيم وإكسابها للمتعلمات والمتعلمين، وتسليحهم بمقومات كافية وإمكانات داعمة للخروج إلى المجتمع وهم محصنون ضد القيم المضادة، حتى يكونوا مواطنين صالحين، مؤهلين للدفاع عن القيم النبيلة، وممارستها ونقلها إلى الفضاءات العمومية وفضاءات المجتمع ككل، بما في ذلك فضاء الأسرة. لكن، عندما تصبح المدرسة، نفسها، بحيرة راكدة، مستنقعا آسنا، فضاء مشجعا لنمو وانتشار ظواهر اجتماعية سرطانية تفتك بكيان المدرسة أولا، وبكيان المجتمع ككل ومنها الغش، فهذا يجعلنا أمام ظاهرة مركبة، مدعومة بجهل مركب، ومن ثمة نكون أمام نوع آخر من الغش، إنه الغش المركب، الغش الذي يتواطؤ فيه الجميع ضد الجميع، يتواطؤ فيه الفرد ضد نفسه، ومنظومة التربية والتكوين ضد نفسها، والمجتمع ضد نفسه ومستقبله. لنقف الآن مع مفهوم الغش لغويا: ورد في معجم المعاني الجامع في مادة غش: غشَّ صديقَه: خدعه، زيَّن له غير المصلحة مُظهِرًا خلافَ ما يضمر. وغَشَّ الطَّالِبُ فِي الامْتِحَانِ: تَحَايَلَ بِالاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِهِ أَو بِوَسائِلَ أُخْرَى لِيُجِيبَ عَنْ سُؤَالٍ يَجْهَلُهُ. وغَشَّ صَدْرُهُ: اِنْطَوَى عَلَى الْحِقْدِ وَالضَّغِينَةِ. وغشَّ الشّيءَ: خلَطه بغيره ممّا هو أرخص منه. وغشَّ اللَّبنَ : خلطه بالماء. وفي "لسان العرب" لابن منظور ورد في مادة غَشَشَ: الغش: نقيض النصح وهو مأخوذ من الغشش: المشرب الكدر. الغش، إذن، في معناه الاصطلاحي، تحايل، خيانة، إخفاء للحقيقة، اعتماد وسيلة غير مشروعة لتحقيق كسب ما. فإذا استعمِل في علاقة مع الآخر، سواء كان في أمر معنوي أو مادي، فهو تحايل عليه وكذب وخيانة للأمانة وإخفاء لحقيقة ما واستعمال لوسيلة غير مشروعة للكسب والحصول على ما لا يستحق وما ليس من حقه، ماديا كان أو معنويا. وإذا استعمل في علاقة الإنسان بدولته فهو تحايل على القانون، خيانة للأمانة، استغلال وكسب غير مشروع. وإذا استعمل في مقر العمل كان ضعفا وخيانة للواجب وعدم إخلاص. أما إذا استعمل في العلاقة مع الذات كالغش في الامتحان من طرف المترشحة أو المترشح، مثلا، فهو تحايل على الذات وعلى الآخرين، في الوقت ذاته، هو خيانة للذات وللآخرين، هو تزييف، وتسويق مزيف للقدرات واعتماد وسيلة غير مشروعة لتدمير الذات نتيجة ادعاء ما ليس بها وإخفاء لجهل بقصد التضليل. كثيرة هي الدراسات التي عالجت موضوع الغش في الامتحانات، وأجمعت أغلبها على أنه ظاهرة عالمية لا تخلو مؤسسات دولة ما منه. يختلف من حيث التواتر ومن حيث الأثر لكنه موجود. إنه نتاج تفاعل الأنظمة والعلاقات في بنية الدولة والمجتمع. ويعد النظام الاقتصادي المادة الأكثر تأثيرا في هذا التفاعل، والأكثر أثرا على أنماط التفاعلات القائمة في جميع المجتمعات، لكن بصفة أكثر تأثيرا في المجتمعات التي يعاني نظامها الاجتماعي الفوارق القوية، وتتعرض منظومتها القيمية للاختراق والتدمير الممنهج. ومن الإجراءات القانونية الصادرة في المغرب في مجال زجر الغش القانون 02.13 الصادر بالجريدة الرسمية عدد 6501 بتاريخ 17 ذو الحجة 1437) 19 سبتمبر 2016)، والذي اعتبر الغش ممارسة شكل من أشكال التحايل والخداع في الامتحانات المدرسية المتوجة بالحصول على إحدى الشهادات والدبلومات الوطنية. من بين حالاته: تبادل المعلومات كتابيا أو شفويا بين المترشحات والمترشحين داخل فضاء الامتحان؛ حيازة أو استعمال المترشحة أو المترشح لآلات أو وسائل إلكترونية كيفما كان شكلها أو نوعها أو وثائق أو مخطوطات غير مرخص بها داخل فضاء الامتحان؛ حالات الغش المستندة على قرائن، والتي يتم رصدها من طرف المصححين أثناء عملية تقييم إنجازات المترشحات والمترشحين؛ الإدلاء بوثائق مزورة واستعمالها قصد المشاركة في الامتحان؛ انتحال صفة مترشحة أو مترشح لاجتياز الامتحان؛ تسريب مواضيع الامتحان من طرف كل مسؤول أو متدخل أو مشارك في تحرير أو نقل أو حماية أوراق ومواضيع الامتحانات المدرسية؛ المساهمة من طرف غير المترشحات والمترشحين في الإجابة عن أسئلة الامتحان، سواء من داخل مركز الامتحان أو من خارجه، وتسهيل تداولها؛ الاتجار في مواضيع الامتحان والأجوبة من خلال استعمال وسائل تقليدية أو إلكترونية، وتسهيل تداولها بصفة فردية أو في إطار شبكات. الغش في الامتحانات.. الدواعي المفترضة: تقول الإحصائيات الرسمية إن نسب الغش في تنازل، بفعل تطبيق قانون زجر الغش واعتماد آليات تنظيمية وتقنية ناجعة. هل هذا صحيح؟ أو بمعنى أدق: أفعلا أن نسب الغش تقلصت بسبب قانون زجر الغش وهذه الآليات التنظيمية والتقنية المعتمدة، أم هناك أسباب أخرى؟ شرعت الوزارة الوصية على القطاع، في السنوات الأخيرة، من خلال المركز الوطني للتقويم والامتحانات والتوجيه، تعد، في أعقاب امتحانات البكالوريا من كل سنة، وثيقة تقييمية للنتائج المحصل عليها من طرف كل مؤسسة تعليمية، تنتهي بترتيب هذه المؤسسات حسب نسب النجاح المحصلة وفق معايير. لكن السؤال الذي يفرض نفسه، واقعيا، هل يتم الاستفادة من هذا العمل الممتاز وتوظيف نتائجه في إطار عدة لبناء استراتيجيات وطنية وجهوية وإقليمية ومحلية للتعبئة الجماعية والاستثمار البيداغوجي، أم أنه يوظف، بشكل آخر، لتحريك المساطر والإجراءات الإدارية والتأديبية في حق المؤسسات التي لم تصل فيها نسب النجاح العتبة المحددة؟ ومن ثمة ما الضمانات المتوفرة لحماية المصداقية من لجوء البعض إلى التشجيع على الغش من أجل رفع نسب النجاح لتفادي المتابعة والإجراءات التأديبية؟ على كل حال، الغش في الامتحانات ظاهرة كغيرها من الظواهر الاجتماعية، لها أسباب ودواع، في اعتقادنا، ترتبط بعضها بالنموذج المجتمعي القائم، وبعضها الآخر بالنموذج البيداغوجي المعتمد: فعلى مستوى النموذج المجتمعي نذكر: الهشاشة في التنشئة الاجتماعية؛ تفويت المهام الأسرية لآخرين جعلوها وسيلة للكسب والاسترزاق دون أدنى حد من الإنسانية؛ التعود على تحقيق المتطلبات بأقل تكلفة وبأقل جهد ممكن؛ الاتكالية المفرطة على الآخرين؛ التعود على تبرئة النفس من الخطأ وإلصاق التهم بالآخرين؛ الرغبة في إرضاء الأمهات والآباء والحفاظ على المكانة الاجتماعية؛ البحث عن آليات مناسبة لمواجهة الخوف من الفشل وفقدان المكانة والاجتماعية؛ البحث عن آليات تعويضية عن ضعف النضج والاكتمال؛ عدم القدرة على التمييز الفعلي بين الخير والشر، بين الحلال والحرام، بين الحق والواجب، بين المرض والصحة، بين النجاح والفشل، بين الأمانة والخيانة، بين الصدق والكذب؛ انتشار الظواهر الاجتماعية الفتاكة بجسم المجتمع مثل: الرشوة – الزبونية والمحسوبية – الخيانة – العنف – الرياء الاجتماعي – التفاخر – البقاء للأغنى -التناحر والانتحار الاجتماعي...). وعلى مستوى النموذج البيداغوجي نذكر: المناهج التربوية الخاضعة، وهي التي: تعتمدها الدول الراغبة في تيسير سبل النجاح لتقليص التكلفة وإفراغ شواهد المؤسسات التعليمية العمومية من قيمتها العلمية وضرب المصداقية لدعم التميز بالمؤسسات والمعاهد الخاصة؛ تعتمدها الدول التي تخضع لإملاءات خارجية بهدف التملص من الالتزامات الاجتماعية وخوصصة القطاعات الاجتماعية، ومنها قطاع التربية والتكوين؛ تعتمدها الدول المفتوحة، التي تغرق أسواقها باليد العاملة الرخيصة المعروضة للبيع بأقل تكلفة، في سياق اجتماعي هش تنخره البطالة والفقر والعوز والأمية الوظيفية، إرضاء لشهية الاستثمار المعولم العابر للقارات. المناهج التربوية التي تسير على قدم واحدة بغية تكريس الضعف والهشاشة النفسية والخنوع، وهي التي: تعتمد الأنشطة الفصلية قناة واحدة لتقديم المادة المعرفية، وتغييب مطلق للأنشطة التفاعلية والبنائية (أنا أقول وأنت تسمع – أنا أقدم وأنت تأخذ – أنا أعرف وأنت تجهل...)؛ لا تحضر فيها مناسبات اشتغال المعارف ومناسبات التدرب والتمهر وبناء المواقف والتربية على الاختيار إلا بشكل باهت، إن لم نقل ينعدم فيها هذا الحضور؛ لا تعترف سوى بالمعارف الكمية، ولا تعير أي اهتمام للكفايات العرضانية ذات العلاقة بالعمليات الذهنية المركبة (التحليل - الاستدلال – الاستقراء – الاستنباط ...)، ولا تعترف بالذكاءات المتعددة والحاجات المختلفة وفعالية الخبرات المباشرة؛ تعتمد أنظمة تقييم تركز على المعارف الصريحة وعلى "الاقتراض"، "بضاعتنا ردت إلينا"؛ تجعل المراقبة المستمرة غاية في حد ذاتها تلبس جلباب الامتحانات الإشهادية، كليا في الانتقال من مستوى دراسي إلى آخر، أو جزئيا في المستويات الإشهادية؛ لا تجعل دعم وتقوية القدرات (التكوين الأساس والتأهيلي والمستمر) مدخلا لجودة الممارسة التربوية والمهنية؛ لا تعتمد المصاحبة كآلية أساسية لدعم قدرات المتعلمات والمتعلمين في بناء وإنجاز وتقييم مشروعهم الشخصي؛ لا تعتمد مشروع المؤسسة المندمج إطارا منهجيا لتدبير التعلمات وتفعيل الخبرات وتقييم المكتسبات. المناهج التربوية التي تقوم على الإقصاء مثل: الإقصاء الكلي للمتعلمات والمتعلمين من فضاء بناء وإنتاج المعرفة؛ الإقصاء الكلي للمتعلمات والمتعلمين من التعدد في وجهات النظر؛ الإقصاء الكلي أو الجزئي للمتعلمات والمتعلمين من الحق في قيادة الأنشطة المدرسية؛ الإقصاء الكلي للمتعلمات والمتعلمين من الحق في المشاركة في تدبير الحياة العامة للمؤسسة وشؤونها الداخلية. الخلاصة، وتبعا لما سبق، أن الغش في الامتحان هو: عبارة عن قذائف مدمرة للفرد والمجتمع، بل هو إرهاب ضد الفرد والمجتمع والدولة؛ عملية تواطؤ كبرى ضد منظومة التربية والتكوين، وضد منظومة القيم؛ ظاهرة اجتماعية تضليلية تستهدف إتلاف منتوج المنظومة، وهي شبيهة بالمبيدات الكيماوية بالنسبة للأشجار المثمرة؛ سلوك يقود إلى إضعاف قدرات التلميذ والمنظومة والمجتمع والدولة (الكسب غير المشروع – الأنانية – الانتهازية – حب الذات – تدمير الآخر – التضليل – التضحية بالآخرين ...)؛ استعمال وسائل غير مشروعة لتحقيق مكاسب تبدو مشروعة لمساعدة الآخرين عن تدمير ذواتهم؛ إفساد ممنهج لعملية التقييم وقياس النتائج وتدمير مركّز للقدرات الفردية وتوجيه انحرافي لتنمية مهارات دون أخرى. مناهضة الغش بالوسط المدرسي: تقتضي الوقاية ومناهضة الغش بالوسط المدرسي استراتيجية مندمجة. تتكون، في اعتقادنا، من خمس رافعات أساسية: الرافعة الزجرية وتقتضي: تحيين المقتضيات القانونية لتشمل المساعدة على الغش، بما في ذلك القائمون بالمهن الموسمية ذات الصلة؛ تدقيق ومضاعفة آليات المراقبة على مختلف المستويات؛ توفير آليات الحماية الشاملة والمراقبة الدقيقة للمكلفين بالحراسة. الرافعة الأمنية: تطوير نظام الرصد والحماية الإلكترونية؛ إعادة النظر في طريقة نسخ المواضيع وتوزيعها وإيصالها إلى المترشحات والمترشحين في أفق اعتماد طرق تفاعلية مباشرة. الرافعة التدبيرية: اعتماد استقلالية المؤسسة التعليمية خيارا استراتيجيا لتدبير الشأن التربوي على الصعيد المحلي؛ تصفية تركة الخصاص في الأطر التربوية والإدارية وأطر المراقبة والتأطير؛ تفعيل الوحدات الوظيفية بما فيها المجالس والنوادي المدرسية والمجالس التلاميذية وخلايا الإنصات والوساطة التربوية والمراكز الإقليمية للوقاية ومناهضة العنف بالوسط المدرسي؛ اعتماد مشروع المؤسسة المندمج الذي يعتمد الخماسيات الثلاث، وهي: الخماسية الأولى: خماسية الرافعات: المدنية – اللغوية – العلمية – المهنية – الحكامة. الخماسية الثانية: خماسية الآليات: القيادة- التمويل - الإنجاز – الافتحاص – التقييم. الخماسية الثالثة: خماسية المؤشرات: نسبة النجاح – معدلات النجاح – نسبة الاحتفاظ – نسبة التدفق المهني (التوجيه المهني والتوجيه المدرسي في علاقة بالمتطلبات الحقيقية للتنمية – نسبة الانخراط؛ إحداث نظام تقييم المؤسسة بدل نظام تقييم الأداء المهني للموارد المعمول به حاليا؛ تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة. الرافعة البيداغوجية: اعتماد المنهاج التربوي المندمج القائم على تنمية الخبرات بدل تكديس المعارف الكمية؛ اعتماد بيداغوجية الوضعيات في بناء التعلمات والتقويم بالوضعيات المركبة التي تتطلب التحكم في الكفايات العرضانية؛ إعادة النظر في دور فروض المراقبة المستمرة بجعلها أداة رصد وقياس درجة نمو الكفاية (مكونا من مكونات استراتيجية التقويم الموضعي المرتبط بالوضعيات وتجريدها من صفتها التقييمية والإشهادية)؛ إرساء استراتيجية إجبارية لتقويم المستلزمات الدراسية بالنسبة للمستويات الإشهادية على الأقل؛ مأسسة جلسات المصاحبة النفسية للمتعلمات والمتعلمين وأنشطة الدعم البيداغوجي المؤسساتي والمندمج على امتداد الأسدس الثاني من كل موسم دراسي لفائدة تلميذات وتلاميذ المستويات الإشهادية على الأقل؛ الرافعة التعبوية: تفعيل المقاربة "الدعوية" التحسيسية القيمية المرتبطة بالأخلاق/ الانتماء/ المواطنة، لما تحدثه من كثافة حسية لدى المتعلمات والمتعلمين ومختلف المتدخلين؛ تفعيل المقاربة التشاركية القائمة على الاستقطاب الممأسس لمختلف الفاعلين وشركاء المدرسة؛ مأسسة التواصل الجماعي والفردي مع الأمهات والآباء وأولياء التلميذات والتلاميذ. خاتمة: إن مناهضة الغش بالوسط المدرسي، باعتباره غشا مركبا، مهمة مركبة تحتاج إلى استراتيجية متعددة المداخل والمستويات ما دام إصلاح المدرسة لا ينتهي عند إنتاج وثائق ورؤى واستراتيجيات، وإنما يتطلب إرساء آليات دقيقة لمواكبة هذا الإصلاح من جهة، ووضع عدة بيداغوجية علمية لتقييم مخرجاته من جهة ثانية، حتى تصبح المدرسة فضاء للحياة، يلبي فيه المتعلمات والمتعلمون حاجاتهم النفسية والمعرفية والاجتماعية والثقافية والفنية والإبداعية. ويعيشون فيها تعلماتهم وحياتهم. ويبنون مستقبلهم باختيارهم ووفق قناعاتهم وسياقات عصرهم. لا تكون فيها الامتحانات غاية، وإنما وسيلة للتشخيص والتفريق وفق الحاجات والاهتمامات والقدرات، ومناسبة لاشتغال وتفعيل مبدأ الإنصاف البيداغوجي وتكافؤ فرص النجاح أمام الجميع، كل حسب قدراته وخبراته، وما يستطيعه فعلا.