الدولي المغربي أشرف حكيمي يظفر بجائزة الأسد الذهبي لعام 2025    أسبوع دام على الطرقات .. مصرع 28 شخصا وإصابة الآلاف في حوادث السير الحضرية    سلمى رشيد تحيي حفلا خيريا لإعادة النور لأعين المحتاجين بالرباط    الأمم المتحدة لن تتمكن من مساعدة سوى ثلث المحتاجين غذائيا العام المقبل    التامني: التزود بالماء حق وليس منة من أحد.. والعطش في المدن الكبرى دليل على فشل التدبير    تشكيلة "أشبال U17" أمام منتخب مالي        سعيد التدلاوي يندد بغياب التشاور بين وزارة الفلاحة والغرف الفلاحية    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    مصر تلغي نتائج التصويت في 19 دائرة    الوصايا العشر في سورة الأنعام: قراءة فقهيّة تأمليّة في ضوء منهج القرآن التحويلي    ارتفاع معدلات الإصابة بارتفاع ضغط الدم لدى الأطفال والمراهقين بواقع الضعف خلال العقدين الماضيين    يوسف وقسو من خريبكة.. حصيلة الحكومة لايمكن أن تغطيها مناورات المعارضة    اتحاد طنجة يعلن عن فك الارتباط بالمدرب هلال الطير    ملعب طنجة يحتضن ودية المغرب وأوغندا وسط ترقّب لتجاوز مشكلة "فراغات السقف"    اختيار المغرب مجددا لاحتضان حفل جوائز "الكاف" 2025 وترشيحات وطنية تتألق في المنافسة        سبتة تترقّب زيارة سانشيز هذا الأسبوع بعد إلغاء الزيارة السابقة    جنوب أفريقيا ترفض استقبال رحلات تُقل فلسطينيين خوفاً من استخدامها ضمن "أجندة تهجير"..    وائل الدحدوح يوضح الجدل حول صورة "علم البوليساريو"    "دينوس ألايف".. المعرض التفاعلي المخصص لعالم ما قبل التاريخ يصل الدار البيضاء    التساقطات المطرية تُنعش آمال الفلاحين بجهة طنجة    الحرس المدني الإسباني يضبط 750 كلغ من التونة المصطادة بشكل غير قانوني بين طنجة وطريفة    الصناعة التقليدية المغربية تتألق في إشبيلية... انطلاق فعاليات الأسبوع الثقافي «We Love Morocco»    قتيل وثلاثة جرحى في "هجوم بالدهس والطعن" جنوب الضفة الغربية المحتلة    دراسة: المغرب من الدول الأكثر تأثرا بانبعاثات غازات الاحتباس الحراري الصادرة من مكبات النفايات    عطل مفاجئ يربك خدمات الإنترنت في العالم والمغرب    الملك يتوصل بتهنئة رئيس الإمارات    المعارضة النيابية تنسق من أجل تشكيل لجنة تقصي الحقائق في اقتناء الأدوية    الناظور .. ندوة دولية تصدر "إعلان الناظور للسلام والعدالة الانتقالية"    غوتيريش .. قرار مجلس الأمن بشأن غزة خطوة هامة نحو تعزيز وقف إطلاق النار    طرح 20% من أسهم "الشركة العامة للأشغال بالمغرب" في البورصة بهدف جمع 5.04 مليار درهم    أطباء يوصون بتقليل "شد الجلد" بعد الجراحة    الإعلان عن الفائزين بالجائزة الوطنية الكبرى للصحافة في دورتها ال23 بالرباط    الشعب المغربي يحتفل غدا الأربعاء بذكرى ميلاد الأميرة للا حسناء    القصر الكبير.. مصرع شخص في حادث سير والسائق في حالة فرار    الماء والبنية التحتية..محور مباحثات بين وزير التجهيز والماء وسفيرة الصين    ترويج مخدرات يوقف ثلاثينيا بالناظور    "لبؤات الفوتسال" يتدربن في الفلبين    "بي دي إس" تدعو المغرب إلى الانسحاب فورا من ندوة لجيش الاحتلال وترى في مشاركته خرقا للالتزامات الدولية    مروحيات جديدة تعزز قدرات البحث والإنقاذ القتالي لدى القوات المغربية    كيوسك الثلاثاء | البنك الدولي يؤكد إمكانات المغرب كقوة رائدة في الاقتصاد الأزرق    الذهب يواصل انخفاضه متأثرا بصعود الدولار    توقعات أحوال الطقس لليوم الثلاثاء    فيدرالية اليسار بمكناس تُحمّل المجلس الجماعي المسؤولية في تفاقم أزمة النقل الحضري    حجيرة: طاقات تصديرية "غير مستغلة"    جمارك ميناء طنجة المتوسط تحبط محاولة تهريب الذهب    بحضور الوزير بنسعيد... تتويج الفائزين بالجائزة الوطنية الكبرى للصحافة وحجب جائزة الكاريكاتير    دار الشعر بمراكش .. الموسم التاسع لورشات الكتابة الشعرية للأطفال واليافعين    سجلماسة.. مدينة ذهبية تعود إلى الواجهة رغم لغز أطلالها الصحراوية    تشكيلنا المغربي..    باحث ياباني يطور تقنية تحول الصور الذهنية إلى نصوص بالاستعانة بالذكاء الاصطناعي    دراسة أمريكية: الشيخوخة قد توفر للجسم حماية غير متوقعة ضد السرطان    الإنعاش الميداني يجمع أطباء عسكريين‬    المسلم والإسلامي..    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أشركي يقرأ ديباجة دستور 2011 .. صدمة نفسية و"رموز غائبة"
نشر في هسبريس يوم 19 - 02 - 2019

معنى أن يتضمن الدستور ديباجة؟ وما دلالة التغييرات الكمية والكيفية التي أدخلها المشرع الدستوري المغربي على ديباجة الدستور الحالي؟ وإلى أي حد ظلت في الدستور المغربي وفية لتقاليد الصياغة المتبعة في التجارب المقارنة؟ وماذا عن مضمونها المعياري والقانوني؟ وهل يكفي نص الدستور المغربي على أنها جزأ لا يتجزأ منه لحسم النقاش القديم الجديد حول طبيعتها القانونية؟ وكيف تعامل القاضي الدستوري المغربي معها، سواء في المرحلة السابقة عن دستور 2011 أو في المرحلة اللاحقة عليه؟.
إنها بعض من الأسئلة التي كانت موضوع نقاش بتاريخ 6 فبراير الجاري، خلال عشاء مناقشة نظمته الجمعية المغربية للقانون الدستوري بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لتأسيسها، وتم خلاله تقديم "قراءات متقاطعة لديباجة دستور 2011"، ساهم فيها كل من عبد العزيز المغاري، رئيس الجمعية المغربية للقانون الدستوري، ومحمد أمين بنعبد الله وصبح الله الغازي، القاضيان الدستوريان السابقين، ونادية البرنوصي، عضو اللجنة الاستشارية لوضع دستور 2011، وحسن طارق، رئيس شعبة القانون العام بكلية الحقوق السويسي، فضلا عن محمد أشركي، الرئيس السابق للمجلس الدستوري، الذي قدم قراءة خاصة لديباجة الدستور المغربي، هي التي ارتأينا أن ننقل أغلب تفاصيلها في هذه المتابعة.
*****
كيف تطورت في الدساتير المغربية المتعاقبة؟ وما الذي يعنيه وجودها في الدستور المغربي؟ وما هي المضامين التي حملتها سواء في الدساتير السابقة أو الدستور الحالي؟ وأي أسلوب صيغت به؟ وما مصير النقاش حول طبيعتها القانونية؟ هي خمسة أسئلة مداخل حاول من خلالها الأستاذ محمد أشركي قراءة ديباجة الدستور المغربي لسنة 2011. وبالنسبة إليه فإن الحديث عن التطور الدستوري للديباجة، يطرح ملاحظتين، الأولى حددها في استقرار ديباجة دستور 1962 على حالها واستمرارها بدون تغيير إلى حدود سنة 2011، إذ باستثناء ما نص عليه دستور 1992 في ديباجته من إعلان "تشبث المملكة المغربية بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا"، لم يحدث أي تغيير على الديباجة سواء في حجمها، حيث ظلت متضمنة لصفحة واحدة وتحتوي على ثمانية أسطر وسبعون كلمة، أو في مضمونها، التي ظلت تضم ثلاثة مبادئ وخمسة التزامات كلها تتعلق بالسياسة الخارجية للمغرب. بينما حدد الملاحظة الثانية في ضعف إحالة القضاء الدستوري عليها في ظل المرحلة السابقة على دستور 2011، فهو لم يذكرها إلا مرة واحدة وكان ذلك سنة 1963 بمناسبة نظر الغرفة الدستورية بالمجلس الأعلى في دستورية النظام الداخلي لمجلس النواب، حين اعتبرت أحد مقتضياته مخالفة للمبدأ المنصوص عليه في "فاتحة الدستور" وهو "أن المملكة المغربية دولة إسلامية"، بل وحتى في هذه الإحالة الوحيدة، يستطرد الأستاذ أشركي، فإن القضاء الدستوري لم يحل على الديباجة لوحدها بل ربط ذلك بمقتضيات الفصل السادس من دستور 1962، التي تقول إن "الإسلام دين الدولة".
استعراض المنحى التاريخي الذي سلكته الديباجة في ظل الدساتير المغربية، كان مقدمة انتقل من خلالها صاحب كتاب "الظهير الشريف في القانون العام المغربي"، والتي سبق أن نال عنه في بداية الثمانينيات من القرن الماضي جائزة المغرب للعلوم الإنسانية والاجتماعية، للإجابة على سؤال مهم طرحه يتعلق ب "لماذا الديباجة؟" وما هي أهميتها بالنسبة للدستور ككل. وبعد أن أحال على دراسة تناولت حوالي خمسين دستورا وتوصلت إلى أن سبعة وثلاثين من بينها لا تتوفر على ديباجة، وأغلبيتها في دول أوروبا الغربية، أكد على أن الاتجاه العام السائد في الكثير من الدول الأخرى التي لم تشملها هذه الدراسة هو الحرص على تضمين الديباجة في الدستور، معتبرا أن هذه الأخيرة تكتسي أهميتها انطلاقا من كونها تهدف إلى إقناع المخاطبين بالقانون وبأهدافه الحسنة، كما قال أفلاطون في "القوانين" عند حديثه عن التصدير والتمهيد للقانون عموما، وانطلاقا من كونها تعتبر "بطاقة تعريف للدولة والمجتمع"، أو "ملخصا للقرارات السياسية في الدولة"، كما كان يصفها الفقيه الدستوري الألماني كارل شميت.
وهذه الأهمية التي يكتسيها وجود الديباجة في الدستور، يقول الأستاذ أشركي، إذا كانت قد جعلت العديد من الدساتير المقارنة تهتم بها، وتخصص لها حيزا مهما وحجما كبيرا، مثلما فعل الدستور الإيراني عندما أفرد لها حوالي أربعة عشرة صفحة، هي نفسها التي جعلت المشرع الدستوري المغربي يوليها أهمية خاصة في ظل دستور 2011. فالديباجة في ظل هذا الدستور، والكلام دائما للأستاذ أشركي، أصبحت مكتوبة في صفحتين بدل صفحة واحدة في الدساتير السابقة، كما أن عدد كلماتها انتقل من سبعة وسبعين إلى ثلاثمائة وإثنين وأربعين كلمة وعدد أسطرها من خمسة إلى ثلاثة وأربعين سطرا. والسبب يعود، في تقديره، إلى كون الديباجة هي أول ما يقرأ في الدستور وأن واضعي الدستور المغربي حاولوا، على ما يبدو، استغلالها لإحداث صدمة نفسية لدى قارئه والمخاطبين بأحكامه مفادها أن الأمر يتعلق بدستور جديد، وهو الشيء الذي نجحوا فيه إلى حد بعيد، يقول المتحدث.
لكن إلى أي حد انعكس هذا التغيير الكمي الذي عرفته الديباجة في ظل دستور 2011 على مستوى المضامين التي حملتها؟ بصيغة أخرى هل جاءت مضامين ديباجة الدستور المغربي مسايرة لما هو مألوف في دساتير الآخرين؟ إن الإجابة على هذا السؤال الذي حدده الرئيس السابق للمجلس الدستوري باعتباره المدخل الثالث من بين المداخل الخمسة التي طرحها في بداية مداخلته لقراءة ديباجة الدستور، احتاجت منه القيام بجولة في عدد من دساتير التجارب المقارنة، تلك الجولة التي أرست بالأستاذ أشركي عند تحديد خمسة مكونات أساسية عادة ما تتضمنها ديباجة الدساتير. فهذه الأخيرة، يقول الأستاذ المحاضر، تتضمن، أولا، النص على بعض الحقوق والحريات أو على الأصح بعض المبادئ المتصلة بها. وتعمد، ثانيا، إلى امتداح تاريخ البلد البعيد أو القريب، على نحو ما يبدو واضحا مثلا في ديباجة الدستور المصري الحالي، وفي بعض الحالات الإشادة بأشخاص محددين لهم وقع خاص في المخيال الجماعي لشعب الدولة، مثلما ما هو الأمر بالنسبة للدستور التركي الذي يمجد مصطفى كمال أتاتورك والدستوري الصيني الذي يبجل زعيم الثورة الثقافية ماو تسي تونغ. وتقوم، ثالثا، باستعراض الاختيارات الوطنية والإيديولوجية والسياسية للدولة وللنظام السياسي الذي يتولى السلطة فيها. كما تتناول، رابعا، موضوع الدين في المجتمع، حيث تتحدث دساتير بعض الدول المسيحية عن الله، مثل دستور كندا وبنما وسويسرا، أكثر من ذلك فإن دساتير أخرى في العالم المسيحي نفسه تتحدث عن الثالوث المقدس والمثال على ذلك الدستور اليوناني، كما أن دساتير بعض الدول الإسلامية، مثل الدستور المصري، تتحدث عن الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع. ثم إنها تحدد، خامسا وأخيرا، الاختيارات الاقتصادية للدولة، حيث يتحدث دستور البوسنة والهرسك مثلا عن اقتصاد السوق ودستور لبنان عن الاقتصاد الحر.
وباستحضار هذه المكونات الخمسة يصل الأستاذ أشركي إلى خلاصة أساسية، وهي أن ديباجة الدستور المغربي وإن تناولت هي كذلك هذه الجوانب بكيفية أو بأخرى، فإن ما يلاحظ عنها، والكلام دائما للأستاذ المحاضر، هو أنها جاءت خالية من الحديث عن التاريخ رغم أن المغرب له تاريخ طويل وضارب في القدم، وتجاهلت في نفس الوقت الحديث عن بعض الأشخاص الرموز، حيث كان محمد الخامس مثلا ورواد الحركة الوطنية جديرون بأن يجدوا لهم حيزا مكانيا في صفحاتها، كما أن حمولتها الإيديولوجية تبدو ضعيفة، فضلا عن ذلك فإن مضمونها الاقتصادي لا يبدو واضحا.
والحديث عن مضامين الديباجة كان فرصة استغلها الأستاذ أشركي لكي يدلي برأيه حول مسألة وردت في الديباجة لكنها ظلت تغدي النقاش في الأوساط الأكاديمية والحقوقية منذ دخول دستور 2011 حيز النفاذ، ويتعلق الأمر بمكانة الاتفاقيات الدولية بالنسبة للقوانين الداخلية للمملكة. ذلك أن إقرار الديباجة بسمو الاتفاقيات الدولية كما صادق عليها المغرب فور نشرها على التشريعات الوطنية، وربط ذلك ب"أحكام الدستور" و"قوانين المملكة"، و"هويتها الوطنية الراسخة"، يثير الالتباس حول كيف يمكن أن تكون الاتفاقيات الدولية تسمو على التشريعات الوطنية وتكون في نفس الوقت مطابقة ل "قوانين المملكة"؟ وهو الالتباس الذي يدعونا الأستاذ أشركي إلى تجاوزه من خلال العودة إلى الخطاب الملكي ل 17 يونيو 2011، الذي قدم من خلاله مشروع الدستور. ففي هذا الخطاب، يقول المحاضر، وردت الإشارة إلى "دسترة سمو المواثيق الدولية، كما صادق عليها المغرب، على التشريعات الوطنية، ومساواة الرجل والمرأة في الحقوق المدنية، وذلك في نطاق احترام الدستور، وقوانين المملكة، المستمدة من الدين الإسلامي...". لذلك، يقول الأستاذ أشركي، فإن المقصود ب "قوانين المملكة" الواردة في الديباجة هي "القوانين المستمدة من الدين الإسلامي" وليس كل "قوانين المملكة"، وبالتالي فهي، أي "القوانين المستمدة من الدين الإسلامي"، التي يجب أخذها وحدها بعين الاعتبار عند الحديث عن التعارض المفترض بين الاتفاقيات الدولية والتشريعات الوطنية لأن الحديث عن "قوانين المملكة" هكذا بإطلاق سيبدو عبثا، يضيف الأستاذ المحاضر.
ومن الحديث عن مضامين الديباجة انتقل الأستاذ أشركي إلى الحديث عن الأسلوب الذي كتبت به، الذي خصص له المدخل الرابع من قراءته للديباجة كما حددها في بداية محاضرته، لكي يقول إن ديباجة الدساتير كثيرا ما يغلب عليها الطابع العاطفي أو الشاعري، على نحو ما تحدث عن ذلك الفقه الألماني، لذلك هناك من لم يتردد في الحديث عن "الدستور والشعر"، بخلاف فصول الدستور التي يطغى عليها الأسلوب القانوني المتسم بالصارمة والحياد والاعتماد على فعل المضارع والمبني للمجهول واستعمال صيغ آمرة وناهية، لكن الأمر يختلف عندما يتعلق بديباجة الدستور المغربي، التي حاولت أن تمزج بين الأسلوبين، حيث صيغت بأسلوب قانوني وتضمنت في نفس الوقت شيء من الخطاب العاطفي.
هذه الخلاصة التي سجلها الأستاذ محمد أشركي بخصوص أسلوب كتابة ديباجة الدستور، وعلى وجه التحديد حول مدى حمولته القانونية، هي التي سينطلق منها لاستعادة النقاش القديم الجديد المتعلق بالطبيعة القانونية للديباجة، في المدخل الخامس والأخير الذي حدده لقراءته لدستور 2011. فإذا كان الاعتقاد السائد منذ اعتماد هذا الدستور بأن السطر الأخير من ديباجته، الذي يقول بأنه "يشكل هذا التصدير جزء لا يتجزأ من هذا الدستور"، قد حسم هذا النقاش، فقد كان الأستاذ محمد أشركي حذرا اتجاه هذا الاستنتاج. ولتبرير موقفه بخصوص هذه النقطة استعان الأستاذ أشركي مرة أخرى بالتجارب المقارنة، لكي يؤكد أن الدساتير التي تعتبر الديباجة جزء لا يتجزأ منها تبدو قليلة جدا، وأغلبها يوجد في إفريقيا، وأن الدساتير الأخرى في أغلبها لا تحدد القيمة القانونية للديباجة.
وإذا كان ذلك يجعل الحسم في موضوع الطبيعة القانونية للديباجة يعود إلى اجتهاد القضاء الدستوري، فإن هذا الأخير، والكلام دائما للأستاذ أشركي، فإن هذا الاجتهاد هو نفسه ليس مستقرا على موقف محدد، وإنما يتنازعه اتجاهين. الاتجاه الأول، بحسب المحاضر، لا يصبغ أية قيمة قانونية على الديباجة وإنما يستعين بها لتفسير بنود الدستور، وفقا لما سارت عليه مثلا المحكمة الدستورية العليا الإسبانية حينما اعتبرت إن الديباجة لا تكتسي أية قيمة معيارية ولكنها تعد عنصرا هاما في بيان مدلول ومدى القواعد الدستورية، وأكد عليه أيضا أحد محرري دستور هذا البلد لسنة 1978 عندما أشار إلى أن "الديباجة عبارة عن سجل نوايا". أما الاتجاه الثاني، فيضفي عليها الصبغة القانونية، ويبرز أكثر في اجتهاد القضاء الدستوري الفرنسي. فرغم أن الدستور الفرنسي، يقول المتحدث، لم ينص على أن الديباجة جزء لا يتجزأ منه فقد استند عليها القاضي الدستوري لكي يقرر حقوقا محددة، خاصة منذ قراره الشهير لسنة 1971 المتعلق بحرية تأسيس الجمعيات، والذي اعتبره أحد الفقهاء الفرنسي بأنه بمثابة "قضية ماربوري ضد ماديسون" الفرنسية.
وإذا كان اجتهاد القضاء الدستوري المغربي لم يتجاهل كليا قضية الديباجة، حيث سبق له أن أحال إليها مرة واحدة في ظل الدساتير السابقة، لدى نظر الغرفة الدستوري بالمجلس الأعلى في مدى دستورية مقتضيات النظام الداخلي لمجلس النواب، وتسعة مرات في ظل الدستور الحالي، فالملاحظ عليه، يشير الأستاذ محمد أشركي، هو أنه لم يكتف بالإشارة إليها وحدها بل ربطها بمقتضيات وأحكام دستورية، مفضلا بذلك تجنب "الاجتهاد التأويلي" والاعتماد أكثر على ما أسماه المحاضر "الاجتهاد التكاملي"، الذي يتعامل مع مقتضيات الدستور باعتبارها مقتضيات متكاملة يفسر بعضها البعض.
هذا المنحى الذي سلكه القاضي الدستوري المغربي، يقول المحاضر، إذا كان قد برز بكيفية أوضح في ظل دستور 2011، بالنظر إلى تزايد عدد المناسبات التي أحال فيها على الديباجة مقارنة بالمرحلة السابقة، فإن ذلك يفسر بكون الدستور عندما أكد على أن الديباجة جزء لا يتجزأ منه اعتبر، في نفس الوقت، في الفصل السادس منه، "دستورية القواعد القانونية، وتراتبيتها، ووجوب نشرها مبادئ ملزمة". ومراقبة دستورية القوانين وفقا لمنهج التأويل، والكلام للمحاضر، تفترض شرطين أساسيين، الأول أن يكون المقتضى المراد تأويله غامضا، والثاني أن يكون المقتضى الوارد في النص الدستوري واضحا وغير غامض. وهذا ما لا ينطبق على الديباجة في الدستور المغربي.
إن ديباجة دستور 2011، يقول الأستاذ أشركي، تتضمن مقاصد، أو ما أسماه المجلس الدستوري بالغايات، وقيم، مثل التسامح والانفتاح والاعتدال والسلم والإخاء، ومبادئ دستورية عامة، مثل الحق والقانون والمشاركة والحكامة والحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والسيادة الكاملة والهوية والمواطنة، كما تتضمن التزامات حقوقية وسياسية، والكثير من هذه الالتزامات السياسية تهم السياسة الخارجية للدولة، فضلا عن كونها تتضمن بعض القواعد القانونية مثل سمو الاتفاقيات الدولية. ومن هنا يطرح التساؤل، بحسب المحاضر، حول كيف يمكن للمقاصد والقيم والمبادئ المتضمنة في الديباجة أن تخلق حقوقا وأن تعتمد لإقرار مبدأ دستورية القوانين، وتكون بالتالي ذات قيمة قانونية. صحيح أن المجلس الدستوري الفرنسي، يستطرد المحاضر، قد اعتمد في قرار حديث على "الإخاء"، الذي هو قيمة وليس مبدأ، لكي يقرر بعض الحقوق، لكن مع ذلك فإن القيم غالبا ما يكون لها طابعا أخلاقيا، كما أن المبادئ هي الأخرى وإن كان لها مضمون قانوني فإنه عادة ما يكون نسبيا. ما يقال عن القيم والمبادئ يمكن أن يقال، بحسب المحاضر، عن الالتزامات الواردة في الديباجة، وخاصة الالتزامات السياسية منها، ذلك أن ارتباطها جميعها بالتزامات الدولة على المستوى الخارجي، أي إزاء الدول والمنظمات الدولية، يطرح التساؤل حول كيف يمكن الالتزام بها أمام القضاء؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.