كلما اهتزت فرنسا على وقع فضيحة سياسية اتُهمت النيابة العامة بأنها تحت إمرة السلطة التنفيذية، يسجل Benjamin Blanchet، عضو اتحاد نقابات القضاة الفرنسيين، بحسرة في مقال حديث نشره على موقع "لوموند" الالكتروني. (Independence du parquet : il faut que «soient définitivement écartées la suspicion et la controverse/www.lemonde.fr Publié le 21 novembre 2018 à 13h08) متسائلا عما إذا كان الأمر يتعلق بقدرية تاريخية أو مصالح سياسوية تحول دون تمكين النيابة العامة من كامل استقلاليتها، ومتأسفا عن منح الفرصة لخطاب شعبوي مشكك لينزع الشرعية عن أي مبادرة إجرائية قانونية تتخذها النيابة العامة بحثا في وقائع جرمية منسوبة إلى إحدى الشخصيات العمومية أو السياسية. لم تكن تبعية النيابة العامة يوما نموذجا مثاليا منسجما مع العمق الحقوقي لدولة القانون، لذلك تدخلت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في العديد من قراراتها لتنسيب استقلالية القضاء الفرنسي اعتبارا لخضوع النيابة العامة لحارس الأختام، مما ينزع عنها صفة السلطة القضائية الكفيلة بحماية الحقوق والحريات طبقا للمادة 5 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان. (CEDH 29 mars 2010, Medvedev et a. c/ France, n° 3394/03 ; CEDH 23 nov. 2010, Moulin c/ France, n° 37104/06) وحتى محكمة النقض الفرنسية وجدت نفسها مضطرة للإعلان بأن النيابة العامة بخضوعها لتبعية السلطة التنفيذية، ممثلة في حارس الأختام، تفقد عنصري الاستقلالية والحياد المفترضين في القضاء المستقل، ولا توفر تبعا لذلك الضمانات التي توجبها الفقرة الثالثة من المادة الخامسة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان لحماية حريات المواطنين. (Crim. 15 déc. 2010, n° 10-83.674) وفي المغرب يبقى الفضل الأول لجلالة الملك، بصفته الضامن لاستقلالية السلطة القضائية، (المادة 107 من دستور 2011) في الاستجابة لملتمسات القضاة وجمعياتهم المهنية (نادي قضاة المغرب) وجمعيات هيئات المحامين والمجلس الوطني لحقوق الإنسان وكل المنظمات والشخصيات الحقوقية الملتزمة، بمنح النيابة العامة استقلاليتها التاريخية، رغم حجم المقاومة الكبيرة، التي صاحبت مناقشة الفكرة منذ البداية من طرف جهات ما فتئت ترفع شعارات إصلاحية، وتزعم الدفاع عن قيم الحداثة السياسية. ولأن حجم الضرر كان فادحا انكشفت معه الخسارات الجسيمة التي لحقت يتامى التبعية بعد انقطاع الحبل السري مع قضاة الدعوى العمومية، فإن خطاب "جيوب مقاومة التغيير" لم يستسغ بعد أن تكون للقضاء المغربي (رئاسة ونيابة) كامل الاستقلالية وعلى قدم المساواة مع النيابة العامة الأوروبية، التي نص قرار إنشائها على استقلاليتها عن أي جهاز رسمي سياسي داخل الاتحاد الأوروبي. (Règlement (UE) 2017/1939 du Conseil du 12 octobre 2017 mettant en œuvre une coopération renforcée concernant la création du Parquet européen) وللأسف، بدلا من أن يرقى المتضررون من الاستقلالية إلى مستوى اللحظة الدستورية المشرقة صاروا يروجون للأراجيف بلغت حد اعتبار "استقلالية النيابة العامة أكبر عملية نصب تعرض لها المغاربة". لنعتبر أن الأمر مجرد حماسة شفوية غير محسوبة في لقاءات عادة ما تنتعش فيها الشعبوية، ولنترفع عن خطابات يائسة محكومة بخلفية مصلحية ضيقة تتحسر على ماضي التحكم في النيابة العامة من قصر المامونية، ولنساهم بعجالة في الجواب عن السؤال: من يحاسب النيابة العامة عن قراراتها وعن السياسة الجنائية؟. لا يعد السؤال جديدا لدى الفقه المقارن. (Michèle-Laure Rassat, Le Ministère public entre son passé et son avenir, LGDJ, 1967.) ولكن واضعيه، مثلا، في فرنسا ينطلقون من مسلمة وجود سياسة جنائية حقيقية، واضحة، مكتوبة ومنشورة في الجريدة الرسمية للعموم، وعلى أساسها يبسط البرلمان رقابته على حارس الأختام عند الإخلال بوعوده أثناء التنفيذ. في حين لم تكن في المغرب سياسة جنائية بهذا المفهوم، ولم يسبق لوزير في العدل أن عرضها للمناقشة العمومية، فبالأحرى المحاسبة البرلمانية، ثم إن المحكمة الدستورية حسمت الأمر فأعطت صلاحية وضع السياسة الجنائية للبرلمان بمقتضى قوانين يمكنه تقييم تنفيذها، وجعلت الوكيل العام للملك رئيس النيابة العامة مسؤولا فقط أمام جلالة الملك رئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية. فبمناسبة النظر في دستورية القانون التنظيمي رقم 106.13، المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة، اعتبرت المحكمة الدستورية أن "صلاحية وضع السياسة الجنائية، التي تعد جزءا من السياسات العمومية، من خلال سن قواعد وقائية وزجرية لمكافحة الجريمة، حماية للنظام العمومي وصيانة لسلامة الأشخاص وممتلكاتهم وحرياتهم، وكذا تحديد الكيفيات والشروط القانونية لممارسة قضاة النيابة العامة لمهامهم، تظل من الصلاحيات المخولة إلى السلطة التشريعية التي يعود إليها أيضا تقييم هذه السياسة، طبقا لأحكام الدستور" (قرار رقم :16/992 م. د في الملف عدد 16/1474 بتاريخ 15/03/2016)؛ في حين اعتبرت بمناسبة النظر في دستورية القانون التنظيمي رقم 100.13، المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، أنه "لئن كانت الجهة القضائية التي تتولى رئاسة النيابة العامة، تظل – وفقا للمبدأ الدستوري القاضي بربط المسؤولية بالمحاسبة – مسؤولة عن كيفية تنفيذها للسياسة الجنائية الموضوعة من قبل السلطة الدستورية المختصة، فإن إعمال هذا المبدأ لا يمكن أن يتم، فيما يخص السلطة القضائية المستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، بنفس الكيفية وبذات الأدوات التي يتم بها في مجالات أخرى، بالنظر لطبيعة السلطة القضائية واستقلالها وآليات اشتغالها والسبل المقررة لتصحيح أخطاء أعضائها؛ وأنه لئن كان الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، المعهود إليه بترؤس النيابة العامة، يظل مسؤولا عن كيفية تنفيذه للسياسة الجنائية، وذلك أساسا أمام السلطة التي عينته، المتمثلة في رئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وكذا أمام هذا المجلس الذي يتعين عليه أن يقدم له تقارير دورية بشأن تنفيذ السياسة الجنائية وسير النيابة العامة، فإن المشرع، باعتباره المختص بوضع السياسة الجنائية، يحق له تتبع كيفيات تنفيذ هذه السياسة قصد تعديل المقتضيات المتعلقة بها وتطويرها إذا اقتضى الأمر ذلك". ومن الناحية العملية، واعتبارا لكون أعضاء النيابة العامة لا ينفذون سوى القانون والتعليمات الكتابية القانونية (الفقرة 2 من الفصل 110 من دستور 2011)، فإن جميع قراراتهم تخضع للرقابة اليومية في المحاكم من طرف القضاء الجالس وأطراف الدعوى العمومية (المتهم، الطرف المدني، المسؤول عن الحقوق المدنية) ودفاعهم، ولا نحتاج إلى القول بأن المسطرة الجنائية رغم ما تحتاجه من تعديل وفرت آليات كفيلة بفرض رقابة شرعية على جميع القرارات التي تتخذها النيابة العامة بمناسبة ممارستها سلطاتها، حتى إنه لا يوجد أي إجراء صادر عن وكيل أو وكيل عام للملك منفلت من رقابة القضاء، بل حتى قرار الحفظ، مع اختلاف في طبيعته (قرار إداري أم قضائي)، يمكن للمتضرر التظلم منه، ومواجهته أمام القضاء الإداري. إن الذين يحنون لعهد رجل السياسة على رأس النيابة لا يقولون لنا ما أضافت التجربة منذ الاستقلال إلى غاية أكتوبر 2017 على مستوى تكريس ثقافة استقلالية القضاء ومساواة جميع المغاربة أمام إجراءاته بصرف النظر عن القرابة السياسية أو العائلية، مكتفين بوهم لفرط ترديده صدقوه، وهو المحاسبة السياسية لوزير العدلية، متناسين أن الحديث اليوم في ظل دستور 2011 وقرارات المحكمة الدستورية وقانون استقلال النيابة العامة وقانون المسطرة الجنائية عن محاسبة برلمانية لقرارات صادرة عن سلطة قضائية لا يشكل جهلا بمبدأ فصل السلط كما فصله منذ قرون صاحب "روح القوانين"، ولكنه أشبه بردة حقوقية ليتامى التبعية وقد استبدت بهم فوبيا الاستقلالية. *عضو نادي قضاة المغرب