اشتهر المغرب في المشرق وأوروبا وأمريكا وكذا إفريقيا بمراكش. ولا غرو أن المغرب كان يسمى قديما بمراكش، وفي المغرب فإن مراكش تحيل حتما على جامع الفنا، والأخير هو ذاكرتها بامتياز، إلى جانب بعض الأماكن التاريخية الأخرى، كمسجد الكتبية وقصر البديع وقصر الباهية ودار الباشا الكلاوي وقبور السعديين وصهريج المنارة وغيرها من الأماكن التاريخية الكبرى. لكن ساحة جامع الفنا تحمل بين ثناياها لوحدها تاريخا سحيقا وإرثا حضريا منقطع النظير. يكاد بعض المهتمين بجامع الفنا يجزمون بأن أدبيات الحلقة بهذه الساحة وهم وسراب، إذ عادة ما يقدم الحلايقي أدبيات لجمهوره المتحلق حوله شيئا قد يكون وهما حقا وسرابا في آن. غير أنه في بعض الحالات يتحول هذا السراب إلى شيء والوهم إلى حقيقة. وقديما أطلق الناس على هذه الساحة اسم ساحة الفناء وساحة الربح، وهم يومئذ على صواب لأنه قد يكون وجودهم بالساحة مضيعة للوقت كما يدعون أو قد يكون للربح إذ هم استفادوا مما يحكى ويعرض بالساحة وتأملوا كثيرا في معروضات الحلايقي واستأنسوا بها وأنستهم مشاكلهم لحظات معدودات. وربما وجد فيها المتفرج ليلا سحرا أكثر منه نهارا، وما لا يقل جودة وجمالا عن غيره في مجالس المسامرات والمنتديات الخاصة أو في حلقات المساجلات الأدبية وفي غيرها من التجمعات البشرية. فالحلايقي الشعبي له من الجرأة والقدرة على جلب الحشود من حوله مما يؤمن به قوت يومه بامتياز. إذ للحلايقي المتمرس جمهوره العريض في الزمان والمكان. وهو يتميز، علاوة على ذلك، بأسلوب حكائي عجيب يستهوي به الناس ويلفهم حوله كما تلف الرزة حول الرأس. أما حركات جسمه وتقلبات كلامه أثناء الحكي فتتغير حسب ما تمليه عليه ظروف القصة أو البطل. وقد يتبدل مزاجه حسب سخاء أو شح المتفرج، إذ عادة ما يلجأ إلى استعمال ألفاظ خادشة للحياء كرد فعل على عدم إنصافه نقدا بعد أن يكون قد تكلم ساعات طوال بالمجان. إن للحلايقي بساحة جامع الفنا جمهوره الخاص إلى درجة تجعل المرء ينسى أحيانا أغراضه الأساسية التي جاء من أجلها، إذ عادة ما يكون المتفرج عابر سبيل في اتجاه السوق، وقد لا يشعر حتى تلفه شباك الحكي والسفر عبر الخيال ضمن أبطال وهميين يصنعهم الحلايقي في أروع حبكة وأبهى مقال. إن الحلايقي بحكم تجربته وتعاظم حيله ليخلق الغرائب والعجائب في ذاكرته التي استهوت الباحثين والدارسين، بل سحرت العيون أمام ما يقوم به من أشياء طالما جعلت المتفرج لا يتوانى عن إمطاره بوابل من النقود دون شح ولا بخل. ولتأكيد ما نقوله، فقد عرفت ساحة جامع الفنا "صاحب الحمار النهاق". هذا الحمار كان صاحبه يعرض عليه داخل الحلقة، وعلى مرأى من الجمهور الغفير، مجموعة من الفواكه، فيمتنع عن أكلها، لكن حين يقدمها له أحد المتفرجين يأخذ في النهيق طويلا، ثم يرقص قبل أن يلتهمها التهاما شديدا. ترى كيف يمكن تفسير هذه الظاهرة ؟ لنسلم عبثا أن الحمار خضع للترويض، فكم يا ترى استغرق ذلك من الوقت؟ وعلى يد من؟ وكيف يمكن تفسير علاقة الحمار بمولاه؟ وعلاقته بالجمهور؟ في الحقيقة ينبغي طرح هذه الأسئلة على المختصين. كان في الساحة أيضا رجل يدعى "صاحب المرآة"، حيث كان ينفث فيها فتبدو للمتفرج كأنها مجموعة من الصور والمشاهد الوهمية، ثم يضع عليها ورقة مكتوبة، فيرى المتفرج فيها وجهه كالمعتاد. صحيح أن العلم الحديث، اليوم، وخاصة الكيمياء، أفصح عما كان يبدو عجيبا وغريبا عند الحلايقي فيما مضى، لكن ألم يكن ذلك فرجة وتسلية تستدعيان التخمين في زمن تغلب عليه التفسيرات الميتافيزيقية والخرافة. إن بعضا من الحلايقية فارقوا هذه الدنيا، وحملوا معهم أسرار ألغازهم وحيلهم وذكاءهم لأن ذلك كان يدخل فيما بات يسمى اليوم ب "حقوق المؤلف" إن صح التعبير، إذ لكل حلايقي خاصيته، وهذا ما كان يضفي على الساحة نوعا من التعدد الثقافي الشعبي. ومن بين شخصيات رواد الحلقة أيضا، المشهورين بأدبيتها وحكمها، رجل يدعى الشرقاوي، "صاحب الرݣيلة". يذكر الأستاذ عبد الرفيع جواهري في كتابه "جامع الفنا الصورة وظلالها" أن الشرقاوي ب"شعكوكته" (هذا وصف عامي مغربي) من أولئك الذين كسروا بنية الحلقة لما أدرج صديقه المكفوف بلفايدة في ثنائية فريدة ورائعة. وكان ينادي صاحبه هكذا "ارݣل"، أي دخن، وبعد أن "يرݣل" صديقه يطلب منه الشرقاوي أن يتحدث للمتفرجين عن أنساب الطيور، فيأخذ بلفايدة نفسا عميقا من "الرݣيلة"، ثم يرفع صوته قائلا: س: الحمام منين؟ ج: مكاوي س: والغراب؟ ج: صحراوي س: وبوعميرة؟ ج: سرغيني س: والجاوش؟ ج: مسفيوي س: وطبيبت؟ ج: دمناتية س: والطاوس؟ ج: حسناوي ويستمر بلفايدة في سرد أنواع الطير، ثم يعود إلى تدخين "الرݣيلة"، فيما يجمع الشرقاوي النقود. وبهذه العملية يسدل الستار على لقاء الغد في الساعة ذاتها والمكان ذاته. والمثير للدهشة أنه كانت في ساحة جامع الفنا - ولربما اختلفت الأمور عما كانت عليه في الماضي- الأهازيج والرقصات المنتسبة إلى جميع الأقاليم المغربية (الألوان الأمازيغية، اللون الجبلي، رقصات الجنوب، أهازيج الصحراء، ألوان الطوائف الصوفية المتجولة مثل الطائفة العيساوية والطائفة الحمدوشية والطائفة الطالبية والطائفة الغزوانية والطائفة الإبراهيمية...). وكان لفن الملحون هواته والمولعون به، ومن أعلامه الأواخر نذكر: الشيخ أحمد السكوري والشيخ فنيدة الجيلالي، ومن روائعه في الإنشاد قصيدة "خصام الباهيات". وكان يستعين برفاقه في تجسيد مشهدها وتشخيص أبطالها، فيقوم هذا بدور المرأة الصفراء، ويقوم الآخر بدور المرأة السمراء، ثم يسترسل في توزيع الأدوار. ومن القصائد التي كان ينشدها بطلب من الجمهور قصيدة "المزوج والعزري'' وقصيدة "حمان" وقصيدة "الطجين" إلى غير ذلك من القصائد. لقد سبق أن قلنا إن ساحة جامع الفنا تعج بالأشكال والألوان الثقافية: فهذا قارئ الطالع، وهو واحد من أوجه هذه الساحة العتيقة وواحد من أبرز مميزاتها. وهذا اللون من الثقافة الشعبية كان لا يقوى عليه إلا الراسخون في الدهاء والذكاء والحيلة والتمويه. إن هؤلاء لم يسبق لهم أن درسوا في مدارس فنية عالمية وشهيرة، كما أنهم لم يقولوا، أبدا، الصدق لضحاياهم. فهم أحوج الناس للتعرف على مصيرهم. لكن الغريب في الأمر أن قراءة الكف ما زالت تأخذ حيزا رحبا في ساحة جامع الفنا. وقد توالت الأيام والشهور، ومضت أزمنة فطوت معها المدعوان "ولد رحبتو" و"ملحت الدار الأعرج"، الذي كان يقرأ الطالع في كف الصبيان الصغار، وهناك ثالث كان يدعى ''راكبو راسو''، وكان يكنى ب"المصروع"، وكانت ميزته قراءة الطالع في شظايا وقطع الأواني الفخارية. ومن غير المنصف ألا نذكر في هذا السياق الشيخ إدريس الملقب عند جمهور الحلقة ب "دخان الليل"، ويتحدر من حومة باب تاغزوت. وكان يلقب أيضا ب"مول الحمار"، وكان يعمر حلقته بالقطط، وكلما رأى وجها من وجوه المستعمرين الفرنسيين واقفا ضمن جمهور الحلقة، تراه يخاطب نفسه ك"المهبول"، ويقول بصوت عال: "غدي حنشك وحضيه لا يهرب". ويحكى أنه من أتباع الشيخ الهادي بن عيسى، لذا كان يستفتح حلقته دائما ببعض الدعوات من قبيل: "سبحان الدايم". كان هذا الرجل يحاور جمهوره ويستخرج منه ما يعرفه من أمثال وحكم، وبعد أن تدخل القطط حلقته كالمعتاد عند ظهر كل يوم، يلتفت إلى الجمهور ويقول: "أين نحن من سلوك هذه القطط؟" ثم يواصل قائلا: '' إيه كاتعرف فين كاين زادها". لقد راج الحديث عن تنصيب القائد بوفسيو على "المومسات" بمدينة مراكش، خاصة ب"حومة عرصة الحوتة" من قبل محكمة الݣلاوي، إبان عهد الحماية. وفي هذا اليوم حضر الشيخ إدريس، الملقب ب"دخان الليل"، الحلقة كالمعتاد مع آذان العصر. وعندما فرغ من الصلاة افتتح الحلقة بقوله: "الله يلطف"، ثم كررها ثلاث مرات، وطلب من الحاضرين ترديدها معه بضع دقائق قبل أن يتوسط الحلقة، وعلى رأسه طاقية سوداء منقبض الوجه، ثم تمتم ببعض كلمات يستحيل على الجمهور سماعها، ثم ردد الرباعيات. معالم المونولوجيست في ساحة جامع الفنا تحدث الأستاذ عبد الرفيع جواهري في كتابه "جامع الفنا الصورة وظلالها'' عن بعض أعلام الحلقة بهذه الساحة من الجيل المعاصر. وفي هذا السياق يقول: لقد عرفت الساحة وجوها بارزة، فيها المونولوجيست، مثل إبراهيم لمسيح، الذي كان يقلد حركات شارلي شابلين، ويحوله إلى شخصية شعبية مراكشية تتكلم لغة انفرد بها إبراهيم المسيح بوحده دون غيره. أما باقشيش فكان يروي ''المسليات" ويرتدي شعرا اصطناعيا نسويا، ويمثل دائما دور امرأة مستعملا لغة جنسية جذابة، وكان ينادي النساء في حلقته: "أهيا العيالات، الزوينة فيكوم تزيد القدام". أما طبيب الحشرات فكان يتقمص دور طبيب يقدم وصفات علاجية قاتلة في سخرية لاذعة. كما لا ينبغي أن ننسى شخصية أخرى وعلما من الأعلام البارزة في فن الحلقة، ويتعلق الأمر بما يكنى ب"الصاروخ"، نظرا لقامته الفارهة ورأسه الأصلع اللامع. كان يقسم حلقته معتمدا على بنيته القوية ولغته الداعرة. وفي أحيان أخرى كان يشتم الجمهور، فيتقبله منه الأخير، بل يكاد يموت المتفرج من فرط الضحك. كان "الصاروخ" من حفظة القرآن الكريم، وحسب ما يروى كان ذات مرة يرتل القرآن في أحد الأسواق فلم ينتبه إليه أحد، عندها استشاط غضبا وحمل حمارا فوق كتفيه ثم بدأ يطوف به في السوق، فتبعه نفر من القوم، فالتفت إليهم ووجه لهم سبابا قادحا وهم يضحكون، ثم قال: "عندما كنت أقرأ القرآن انصرفتم عني، وعندما حملت الحمار، يا ولاد.... تبعتموني". وهذا "ميخي" كان يقدم مونولوجات غنائية، مستعينا بآلة الطر تارة، وبالدربوكة تارة أخرى. ومن بين ما حور من أغاني الأفلام أو الأغاني الشعبية المغربية أغنية: "أش داني''، وهي لإسماعيل أحمد رحمة الله عليه. وحسب المصدر ذاته (جواهري) كان "عياد البعير"، وهو واحد من المبدعين الذين طبعوا ساحة جامع الفنا، يروي عن أهوال القيامة، وخطاب الروح للجسد بعد أن يتفسخ. وكان يلقن جمهوره قواعد الطهارة الصغرى والكبرى إلى غير ذلك. الحكيم ونافخ النار كان هذا الحلايقي المبدع يقوم بألعاب بهلوانية على دراجة هوائية، الشيء الذي جعل حلقته تحظى بعناية خاصة. لكن بعد مضي الزمن بدأ يفقد حيويته وحماسه، ثم فكر في وسيلة أخرى بتحويل الحلقة إلى حلبة للملاكمة بين المتطوعين من الجمهور باعتماد قفازات قديمة. وبعد غيبة دامت بضعة أشهر، عاد إلى مكانه لكي يلعب بالنار وينفث اللهب من بين شفتيه حتى تفحمت، وأطفأ اللهب بريق عينيه قبل أن تنعيه أخبار الساحة، إذ عثر عليه فاقد الحراك داخل أطلال خربة في سيدي غريب، ومن حوله قنينات الكحول الخام. كان يقول رحمه الله: "كم حمامة فوق القرميد؟ كم شخصا راكبا في الكوتشي (عربة الخيل)؟ ما هو لون السيارة العابرة؟" كان الأطفال المتحلقون حوله ينهالون عليه بوابل من الأسئلة، فيما كان هو واضعا عصابة تحجب الرؤية عن عينيه، بعد أن يجربها على بعض أفراد الجهور الواقف أو الجالس، فتأتي الإجابة صحيحة تباعا، ولسائل أن يسأل كيف ذلك. خاتمة بعد هذا العرض الموجز، الذي أردنا من خلاله تبيان بعض من ذاكرة هذه المدينة الغالية على المغاربة جميعا، والوقوف عند بعض الأوجه التي صنعت تاريخ ساحة جامع الفنا خاصة، لا يسعني إلا أن أعبر عن أسفي الشديد لما طال هذا الموروث الحضاري من مسخ حضاري وثقافي، بل إهمال ونسيان. ومن الغرابة بمكان أن يدير السياح الأجانب ظهورهم بعد أن يأخذوا أشرطة عبر حواسيبهم الذكية، وبعد أن يستمتعوا بلحظات طويلة بما يشاهدونه في هذه «الموزاييك » الفرجوية النادرة دون أن يؤدوا ولو يورو واحدا، مع العلم أن الفرجة في نظام العولمة يؤدى عنها ولو كانت نظرة إلى الكوبرا. (Cobra) ولا تفوتنا الفرصة دون أن نذكر بأنه لولا بعض المهتمين والدارسين لهذا الإرث التاريخي لطمست معالم التراث الشفهي، ولما بقيت ساحة جامع الفنا مجالا للدراسة ينهل منه الأساتذة والطلبة على حد سواء، حتى ليقال إن الساحة استنزفت واستهلكت من لدن الباحثين. ولولا غيرة بعض من هؤلاء المهتمين والدارسين لغزا الإسمنت المسلح الساحة الشهيرة، ولضاعت بموجب ذلك الحكاية الشعبية وطوي الإبداع بها. لقد تحولت الساحة إلى مطاعم وبعض المشعوذين والمتسولين ونقاشات الحناء والعاهرات والمومسات وحتى الشواذ أحيانا، لتصير الساحة فضاء فولكلوريا وملاذا للتسكع والاتجار وتصاعد الدخان ليلا، ولم يبق منها سوى صمود الكوبرا تحت قمع صاحبه بالبندير نهارا. وللذاكرة أيضا لا بد من الترحم على من كان له الفضل في تصنيف جامع الفنا تراثا حضاريا للإنسانية من لدن اليونسكو، ويتعلق الأمر بالباحث الكبير خوان غويتيسولو Juan Goytisolo الكاتب والأديب الإسباني، وأحد الغيورين على هذه المدينة، والذي يعد من ساكنة مراكش لمدة تزيد عن عشرين سنة، والذي كان يقطن بالقرب من الساحة نفسها. لقد كان هذا الباحث واحدا من الذين كتبوا بمداد من فخر عن هذه المدينة، كما لو كانت بلدته الأصلية، وعن أناسها كما لو كانوا من بني جلدته.