تستضيف هسبريس، من خلال هذه السلسلة من الحوارات، المعتقل السياسي السابق محمد الأمين مشبال، الذي حكم عليه ب20 سنة، في إطار محاكمة الدارالبيضاء لسنة 1977، التي حوكم فيها 139 من النشطاء السياسيين المنتمين إلى تنظيمات ماركسية لينينية، كانت تروم تغيير النظام القائم بالعنف، وإقامة نظام جمهوري على غرار أنظمة "الديمقراطيات الشعبية"، التي كانت قائمة في أوروبا الشرقية وبلدان أخرى من قبيل كوبا والفيتنام. في هذه الحلقات يحكي محمد الأمين مشبال تجربة استغرقت 14 سنة، ابتداء من خطواته في منظمة "إلى الأمام"، مرورا بتجربة التعذيب والانهيارات في المعتقل الرهيب مولاي الشريف والمحاكمة، وصولا إلى الصراعات السياسية داخل السجن، وتفاصيل الحياة اليومية داخل أسوار السجن. وبقدر ما تنقل لنا هذه الحلقات حجم المعاناة الإنسانية، فهي في الآن نفسه تكشف جوانب مهمة من تاريخ المغرب الراهن، ما زالت في حاجة إلى البحث والتمحيص. يبدو أن اعتقالات نوفمبر1974 لم تشملكم في تطوان ؟ يمكنني القول أنني كنت محظوظ، فبعد أن نجوت من الاعتقال بعد اعتقال أحمد الطريبق في الظروف التي حدثتك عنها، فلقد نجوت ثانية بعد أن شملت اعتقالات نوفمبر عبد القادر الشاوي الذي كان يعرفني جيدا، والذي ظلت علاقتنا يطبعا الود والاحترام رغم الخلاف الذي جعلني رفقة أعضاء اللجنة الأساسية نفضل البقاء مع تنظيم "إلى الأمام". فظللت ألتقيه كلما جاء إلى تطوان لزيارة أسرته ونتبادل الآراء ويزودني بنشرة "23 مارس"، في حين كنت أعطيه نشرة "إلى الأمام". في بداية سنة 75 قمنا بالعمل نفسه توزيع المنشورات وعقد الاجتماعات، واصلنا داخل ثانويات المدينة خاصة "القاضي عياض" و"التقنية الجديدة" بغية كسب مناضلين جدد وتحريك بعض الإضرابات الجزئية المرتبطة بمشاكل التلاميذ داخل مؤسساتهم، وزعنا أيضا منشورين داخل بعض الثانويات باسم النقابة الوطنية للتلاميذ التي استعملنا اسمها من باب التمويه. لم تكون الحصيلة التنظيمية مشجعة فقد انسحب بعض المناضلين إما خوفا من حملات الاعتقال المتوالية أو لأن قسم البكالوريا كان يتطلب تركيزا وعملا جديا للنجاح والانتقال إلى الجامعة. مقابل ذلك أبدى أعضاء اللجنة الأساسية الجديدة انضباطا وإخلاصا كبيرين للمنظمة، فمنزل المرحوم حسن الدحمان أصبح مقرا للمنظمة بتطوان وفيه كنت أجتمع مع المنصوري وتنعقد اجتماعات اللجنة الأساسية، وتطبع المناشير بواسطة "الآلة الفيتنامية"، وكان المرحوم حسن يسافر إلى القنيطرة ليمده المنصوري بمختلف المطبوعات. خلال الشهور الأولى من سنة 1975 قرر جمال بنعمر تغيير الشعبة العلمية لأنها تتطلب وقتا كبيرا، والتفرغ للتنظيم على أساس أن يجتاز امتحان البكالوريا الأدبية غير الرسمية، أما يونس مجاهد فقد أضفى على اللجنة حيوية في النقاش والعمل خصوصا بعد محاولاته لاستقطاب عناصر من خارج قطاع التلاميذ. في شهر أبريل 1975، علمت بإطلاق سراح أحمد الطريبق رفقة مجموعة من المناضلين الآخرين من درب مولاي الشريف. وبعد مرور أسبوع على ذلك، وبعد اتخاذ مجموعة من الاحتياطات التقينا بمنزلي. لاحظت أن شكله قد تغير، صار بدينا بسبب الرطوبة وأكل القطاني، وصار أصفر البشرة بعد أن ضمته المصابيح الباهتة الشاحبة شهورا طويلة. قرأت في عينيه حزنا أليما، عندما حكى لي عن ظروف اعتقاله والتعذيب الذي تعرض له، وعن الحجاج والعصابة والقيد الذي لف يديه تألمت لحاله ومعاناته وظروفه العائلية القاسية خصوصا بعد انقطاع عبد العزيز عن التدريس ب "القاضي عياض" ليدخل السرية المطلقة. ماذا حكى لك على وجه التحديد؟ حكى لي عن تفاصيل الحياة اليومية بدرب مولاي الشريف وعن قصة الاعتقالات خصوصا تلك المتعلقة بعبد الله زعزاع عضو اللجنة المركزية، الذي لدى اعتقاله عثر البوليس بحوزته على مفاتيح عدة شقق، وقالوا له إن كل مفتاح يخص منزلا معينا يجب أن تدلنا عليه. فلما رفض تلبية طلبهم عذب بأشد الطرق قسوة، وبقي تحت جحيم التعذيب ثلاثة أيام بنهارها ولياليها حتى انتزع الجلادون المعلومات المطلوبة. وأضاف أحمد أن زعزاع بعد ذلك لم يعد يقوى على الوقوف، بل ظل يمشي على يديه وركبتيه لأسابيع طويلة. يعني اهتدى البوليس إلى قيادات في التنظيم انطلاقا من المفاتيح؟ وهذا ما جرى تحديدا، اقتحم البوليس إحدى تلك الشقق تم اعتقال الهلالي فؤاد والمرحوم ادريس بنزكري وعبد الله الحريف ومصطفى التمسماني وهم جميعا أطر مسؤولة في المنظمة كانت مبحوثا عنها وتعيش في السرية المطلقة. والمثير في تلك الواقعة أنهم كانوا يحتملون اعتقال زعزاع بعد اختفائه، مما يتوجب عليهم أخذ الاحتياطات اللازمة، وأبسطها مغادرة المقر، لكنهم لم يفعلوا ذلك. وختم أحمد حديثه بما يشبه النبوءة : "الصمود مجرد سراب، والمنظمة على وشك الانهيار". لكنني لم أهتم باستنتاجاته واعتبرتها نتيجة طبيعية للظروف القاسية التي مر بها خلال الإقامة بدرب مولاي الشريف، لأن المنظمة كانت تطلعنا في منشوراتها بأن رفاق المنظمة لم يصمدوا وحسب بل أنهم "حولوا التعذيب إلى سلاح صدئ" ، وبأن "انهيار" عبد الله زعزاع ، الإطار العمالي الوحيد في المنظمة، كان نتيجة عدم "تشبعه بالفكر البروليتاري". مع حلول شهر ماي 75 جاء عبد الله المنصوري إلى تطوان بعد أن تيقن من أن بقاءه في القنيطرة غير آمن، عثرت له على منزل بعشرين درهما، المنزل صغير غرفة واحدة وحمام وفراش قد تعرجت أطرافه وغطاء رديء، وهناك في آخر الزاوية كتب متكدسة مبعثرة على الأرض من بينها مجلدات للينين وبعض مؤلفات "ماوتسي تونج"، أمضينا وقتا طويلا في النقاش حول أدبيات المنظمة وتجارب الحركات الثورية في العالم.كنت قد أقدر المنصوري ،الذي سبق أن حكم عليه بالبراءة في محاكمة البيضاء ل1973، وكان يعمل مهندسا في قطاع السكك الحديدية قبل مطاردته مجددا، لأنه يعمل بتفان وفي ظروف قاسية ومزرية. وفي كل مرة كنت ألتقي به كان يطالبني بأن أكتب في نشرات "إلى الأمام"، وإنجاز عروض حول قضايا سياسية ونظرية. فبقيت دوما أحتفظ بذكريات جميلة عن تلك الفترة . في تلك الحقبة كانت قضية الصحراء المغربية مهيمنة على الساحة السياسية المغربية، كيف كان موقفكم وتعاملكم مع الموضوع ؟ في صيف 1974 كانت قضية الصحراء قد بدأت تطفو على الساحة السياسية والإعلامية المغربية، حيث بدأ الحديث عن تحركات إسبانية لإنشاء دويلة إسبانية عميلة لها بالصحراء، تزامنا مع العمليات المسلحة الأولى لجبهة البوليساريو. وكنا في "إلى الأمام" نعتبرها منظمة ثورية، وبأن العمليات المسلحة التي خاضتها ضد الاحتلال الإسباني آنذاك من شأنها خلق "بؤرة ثورية" في المنطقة. لمواجهة تلك المستجدات السياسية، أطلق النظام المغربي حملة سياسية ودبلوماسية لمواجهة الموقف، منها إعادة فتح قنوات الحوار والمشاورات مع الأحزاب السياسية المغربية خاصة "الاتحاد الاشتراكي"، الذي عانى من حملة قمعية واسعة إثر العمليات العسكرية المسلحة التي قام بها المناضلون الاتحاديون المنتمون لجناح الفقيه البصري، وكان الهدف من تلك المشاورات تنقية الأجواء السياسية الداخلية لخلق إجماع وطني حول قضية الصحراء المغربية. كما شرع في تطويق الخطة الإسبانية الرامية إلى خلق كيان سياسي مصطنع مستقل عن المغرب في أشكال واتجاهات مختلفة وضمن هذا السياق جاء خطاب الملك الراحل الحسن الثاني بتاريخ 8 يوليوز 1974 بمناسبة عيد الشباب ليعبر عن رفض المغرب تنصيب دولة مصطنعة في جنوبه. وخلال ندوة صحفية في نفس الصيف، أعلن الملك الراحل عن طلب المغرب لتحكيم محكمة العدل الدولية بلاهاي،لأن الحكومة الإسبانية كانت تزعم أنها لما استعمرت الصحراء لم تكن ملكا لأي أحد وبأنه لم تكن هناك سلطة ولا إدارة قائمة، في حين كان المغرب يؤكد وجود روابط بيعة ما بين قبائل الصحراء وسلاطين المغرب. إزاء تلك التطورات والمنعرج التاريخي لقضية الصحراء المغربية، أصدرت "إلى الأمام" و"23 مارس" في 24 يونيو 1974 بلاغا مشتركا اعتبرتا فيه بأن "الصحراء شكلت تاريخيا جزء لا يتجزأ من المغرب، وبأن الاستعمار الإسباني عمل كل ما في وسعه لتكسير هذه الوحدة وفصل الصحراء عن المغرب". والبديل الذي قدمته المنظمتان؟ البديل الذي قدمته المنظمتان لواقع التجزئة هو "إعادة الوحدة التي يحاول الاستعمار تكسيرها لكن على أسس كفاحية وطنية ديمقراطية شعبية، وهذا الهدف يفرض دمج كفاح التحرر الوطني لجماهير الصحراء بكفاح شعبنا من أجل دك الحكم العميل في كفاح واحد وجبهة واحدة." وهي نفس الأفكار التي ظلت تتكرر بشكل أو آخر في نشرات المنظمة وفي وكتيب صغير يحمل عنوان "طريقان لتحرير الصحراء". بعبارات أخرى أدق، لم تكن آنذاك "إلى الأمام" تقر بوجود "شعب صحراوي" يمتلك هوية مستقلة عن الشعب المغربي...فطرحها لتقرير المصير وفصل الصحراء عن المغرب كان من منطق "إضعاف النظام" سياسيا واقتصاديا، وبأن الوحدة مع الصحراء سيعاد بناؤها في إطار "الجمهورية الديمقراطية الشعبية". في تلك الفترة كنت لا تزال تلميذا، فكيف أمكنك الوصول إلى استنتاجات خطيرة من قبيل "تقرير المصير " واستقلال الصحراء عن المغرب؟ كانت تدور في ذهني آنذاك مجموعة من الأسئلة من قبيل هل هناك "شعب صحراوي" وواقع "مستقل ومتميز عن المغرب"؟ وكيف يمكن "إعادة الوحدة" بين المغرب والصحراء في حالة ما إذا نشأت دولة صحراوية؟ بطبيعة الحال لم أكن أتوفر لا على الأدوات النظرية ولا على المستوى الثقافي والاطلاع التاريخي الكافي الذي يمكنني من حسم الجواب.. بالرغم من انتمائك لمنظمة سياسية؟ والمنظمة هي أيضا لم تكن تتوفر على معايير اضلا، ولذلك احتفظت بل وكبتت تساؤلاتي وقلت "آمين". ولن أكون مبالغا إذا قلت إن إيماني كان يشبه "إيمان العجائز" في كل ما كانت تنشره المنظمة، فأحفظه لكثرة قراءته وإعادة قراءته بإعجاب وتقدير لا متناهيين.