تستضيف هسبريس، من خلال هذه السلسلة من الحوارات، المعتقل السياسي السابق محمد الأمين مشبال، الذي حكم عليه ب20 سنة، في إطار محاكمة الدارالبيضاء لسنة 1977، التي حوكم فيها 139 من النشطاء السياسيين المنتمين إلى تنظيمات ماركسية لينينية، كانت تروم تغيير النظام القائم بالعنف، وإقامة نظام جمهوري على غرار أنظمة "الديمقراطيات الشعبية"، التي كانت قائمة في أوروبا الشرقية وبلدان أخرى من قبيل كوبا والفيتنام. في هذه الحلقات يحكي محمد الأمين مشبال تجربة استغرقت 14 سنة، ابتداء من خطواته في منظمة "إلى الأمام"، مرورا بتجربة التعذيب والانهيارات في المعتقل الرهيب مولاي الشريف والمحاكمة، وصولا إلى الصراعات السياسية داخل السجن، وتفاصيل الحياة اليومية داخل أسوار السجن. وبقدر ما تنقل لنا هذه الحلقات حجم المعاناة الإنسانية، فهي في الآن نفسه تكشف جوانب مهمة من تاريخ المغرب الراهن، ما زالت في حاجة إلى البحث والتمحيص. بعد انتهاء العطلة الصيفية واستئناف الدراسة، هل واصلتم أنشطتكم بالأساليب نفسها وبالحماس ذاته؟ مع انطلاق الموسم الدراسي الجديد استأنفنا محاولاتنا قصد استقطاب مناضلين جدد في أوساط التلاميذ. لم نكن ندعو مباشرة إلى الالتحاق بالتنظيم السري، ولهذه الغاية كنا نفتح نقاشات حول القضية الفلسطينية، التي كانت تثير في أنفسنا الحماس والإعجاب من خلال العمليات الفدائية لرجال المقاومة، والدعاية لفصائل اليسار الفلسطيني كالجبهة الشعبية بقيادة جورج حبش، والجبهة الديمقراطية بزعامة نايف حواتمة. وقد كنا نطلع على مقالات جريدة "الحرية"، التي كانت تصدر ببيروت، والتي كانت تهتم بما يدور في العالم العربي بأسره، وعبرها تمكنا من تتبع وقائع ثورة فريدة شبيهة بالثورة الكوبية، ويتعلق الأمر بحرب عصابات ومناطق محررة بسلطنة عمان كانت تقودها حركة ماركسية لينينية استطاعت أن تجد موطئ قدم لها، وكانت تدعى "الجبهة الشعبية لتحرير ظفار". في الاتجاه نفسه كنا نقوم بترويج بعض الكتب، التي كانت تلتقي مع تصوراتنا ككتاب "النقد الذاتي بعد الهزيمة" للمفكر السوري الراحل صادق جلال العظم، الذي انتقد فيه بشكل لاذع مجموعة من الظواهر الفكرية والسياسية والدينية المترسخة في بنية المجتمعات العربية، والتي من الطبيعي أن تقود إلى تراكم الهزائم كالجهل بالذات وبالآخر، والتملص من المسؤولية، وإسقاطها على قوى خارجية. إضافة إلى ذلك كنا نعمد إلى إعارة بعض الكتب، التي كانت قد خلقت ضجة في الساحة الثقافية العربية آنذاك، مثل كتاب "المرأة والجنس" للدكتورة نوال السعداوي، وخصوصا كتاب المفكر السوري، الذي كان عنوانه جذابا: "الثالوث المحرم - دراسات في الدين والجنس والصراع الطبقي". تقصد الكاتب بوعلي ياسين.. نعم، وهو الذي انتقد توظيف السياسة للدين قصد محاربة التنوير وجعله عائقا في وجه التغيير، كما يبرز العلاقة بين الدين والجنس كأداتي صياغة للوعي بيد الطبقات المتسلطة. وإلى جانب ترويج بعض الكتب والمجلات الملتزمة مثل "أنفاس" و"الثقافة الجديدة"، كنا حريصين على العمل عبر واجهة "نادي العمل السينمائي"، حيث كان عبد العزيز الطريبق يربط علاقة طيبة مع مكتبه، وتحديدا مع المرحوم حسن اليعقوبي. ورغم عدم تحمس الأخير لطقوس العمل التنظيمي من اجتماعات ومحاضر، فقد كان يقوم بدور إيجابي في إشاعة الفكر التقدمي من خلال الأفلام الملتزمة، التي كان يتم عرضها ومناقشتها صباح كل أحد مثل "المدمرة بوتمكين" و"كيمادا" وغيرهما. هذه الكتب والأفكار اطلعتم عليها وأنتم في الثانوي؟ طبعا، (يضحك). المستوى الثانوي لذاك العهد إذا ما قارناه بالمستوى الثانوي ليومنا هذا...!! لا يمكن مقارنته حتى بالمستوى الجامعي يا عزيزي. للأسف الشديد..! على العموم، وبالرغم من المجهودات المبذولة والتعاطف الذي كنا نحظى به، كانت الاستقطابات والاستجابة لدعوات الإضراب داخل الثانويات محدودة لأن ذكرى السنة البيضاء بعد إضرابات 1972 خلقت فتورا لدى التلاميذ. كما أن حملة الاعتقالات والاختطافات، التي عرفتها البلاد بعد أحداث "مارس"، والتضييق على نشاط الأحزاب السياسية، جعلا الخوف من السجن والتعذيب يمنعان الكثير من المتعاطفين من الطلبة أو الأساتذة من الالتحاق بصفوف التنظيم. لكن صيف 1974 كان يحمل في طياته مفاجآت كبيرة. ماذا جرى في ذلك الصيف بتطوان؟ في بداية شهر غشت 1974 استغلت المنظمة مشكل قلة الماء، الذي شهدته مدينة طنجة، فقامت بتوزيع منشور بعنوان مستفز: "حكم عصابة الحسن، عبد الله (المقصود هنا مولاي عبد الله شقيق الملك الحسن الثاني)- الدليمي، حكم الجوع والعطش والسيمي" في أرجاء المدينة وبأحد معامل النسيج، حيث تم تكوين نواة عمالية. وقد أدى ذلك المنشور إلى تعبئة بوليسية كبيرة لأنه يمس النظام الملكي مباشرة. وبعد إجراءات وبحث أمنيين مكثفين، تم اعتقال بعض العناصر العمالية النشيطة بطنجة، ونقلها إلى درب مولاي الشريف، ولم يطل الوقت حتى ألقي القبض على بعض المناضلين في القطاع الطلابي، الذين كانت لهم علاقة بالمنشور، فانتشرت الاعتقالات في صفوف التنظيم كالنار في الهشيم. وكان عبد العزيز وثيق الصلة ببعض الطلبة هناك، ولما تم اعتقالهم ورد اسمه في التحقيق، فجاء البوليس يبحث عنه في تطوان، واعتقل بشكل عشوائي ابن عمه محمد، وصديقا له يدعى القلاينة، ثم انتقل إلى منزل عائلته، ولما لم يجده اقتاد أخاه أحمد رهينةً. لكن رغم تعرض أحمد للتعذيب فقد تمكن من الصمود والمناورة، خصوصا أن البوليس لم يكن يتوفر على ما يثبت علاقته بالتنظيم. ورغم ذلك قضى أحمد الطريبق وابن عمه محمد وصديقه القلاينة ثمانية أشهر ما بين كوميسارية طنجة والمعتقل السري درب مولاي الشريف. بعد اعتقال أحمد واختفاء عبد العزيز انقطع اتصالي بالمنظمة، فأشعرني ذلك بالخوف والحيرة، وصار الشعور بالتوتر ينتابني في معظم الوقت ويدب في أعماقي. لأنك لم تُعتقل؟! نعم، كنت العنصر الوحيد من اللجنة الأساسية الذي بقي طليقا. وبعد مضي أسبوعين اتصل بي أمحجور وطلب مني السفر إلى الدارالبيضاء. تحدد الموعد هناك في الخامسة مساء أمام مؤسسة "باستور"، وكانت التعليمات تقضي بأن أحمل جريدة وأحفظ كلمة السر. سافرت إلى الدارالبيضاء، وفوجئت بعبد العزيز الطريبق ينتظرني في الموعد.. اعترتني دهشة مفرطة لشكله الذي تغير، فقد مسد شعره نحو الخلف وتدلى شاربه على شفتيه وغير نظارته. في الطريق كنا نسير وسط الناس ببطء، ونقطع الطرقات والأزقة الملتوية. حدثني عبد العزيز عن الوضعية التنظيمية بعد الاعتقالات، كما أخبرني أن المنظمة ستدخلني السرية إذا ما اهتدى البوليس إلي. أذكر كيف كان عبد العزيز يضحك وهو يحكي لي عن هروبه من تطوان إلى الدارالبيضاء، وعن تسكعه في شوارعها عدة أيام، وبعد بحث مضن عن أحد مقرات المنظمة، الذي كان يزوره من قبل معصوب العينين، صادف أحد قياديي المنظمة الذين كانت له به معرفة، فانتهت محنة هروبه دون ملجأ ليبدأ مغامرة السرية المطلقة والمطاردة البوليسية، اللتين استغرقتا عاما ونصف العام. ركبنا سيارة أجرة للذهاب إلى أحد مقرات المنظمة، وحتى لا أتعرف على المنزل طلب مني عبد العزيز أن أغمض عيني دون أن أثير انتباه السائق. سمرت عيني في حذائي لأني لم أجد مكانا آخر أنظر إليه، وبقيت طوال الطريق مطأطئ الرأس. وقفت السيارة وألفيت عيني تتجهان نحو رصيف يؤدي إلى بهو عمارة. كان الليل قد بدأ يسدل ستاره ويرخي ظلمته على المدينة. دخلنا العمارة وظننت في البداية أني سأصعد عشرات السلالم، لكن الرحلة وقفت في بيت بالطابق السفلي. كان بداخله رفيقان، أحدهما يدعى أحميش إبراهيم، طويل القامة، شعره متجعد كالأسلاك، نحيف وأسمر اللون. والآخر يدعى أحمد بنسعيد، متوسط القامة، قوي البنية وأبيض البشرة. أمضينا المساء نرتشف كؤوس الشاي، ثم تناولنا وجبة العشاء: خبز وجبن وبيض ومشروبات غازية. استلقيت بعد ذلك في فراشي وصور مدينة الدارالبيضاء وسماتها لا تزال تداعب ذاكرتي. قضيت أياما معدودة رفقة بنسعيد أحمد وأحميش إبراهيم. وبعد ذلك انتقلت إلى شقة أخرى في عمارة أفضل تجهيزا من الأولى، حيث أقمت عشرة أيام. خصصت معظم الوقت لإنجاز عروض حول وثائق مختلفة بغية استكمال برنامج تكوين سياسي وإيديولوجي يؤهلني ل"ترقيتي" لأصبح رفيقا ضمن ما كان يسمى بالمنظمة المركزية. كانت المهمة المثارة حينذاك للنقاش هي تشكيل لجنة أساسية جديدة. اقترحت ترشيح جمال الدين بنعمر وحسن الدحمان لعملهما الطويل ضمن مناضلي "لجان النضال"، ثم أضفت اسم يونس مجاهد، الذي كان حديث الالتحاق بالتنظيم، نظرا لحيويته وحماسه، فوافقت المنظمة على هذه المجموعة. في هذه المدة علمت بمسلسل الاعتقالات التي حدثت في تطوان، والمناضلين الذين تم اعتقالهم. استفسرت عزيز عما يمكن أن أفعله إن تم كشفي من قبل البوليس، فأخبرني أنه يتعين علي دخول "سلك المحترفين الثوريين"، أي الانقطاع عن الدراسة والأسرة والأصدقاء، واستعمال بطاقة تعريف مزورة للتنقل، وتخصيص كل وقتي وجهودي للعمل الثوري كما هو الأمر بالنسبة إلى باقي الرفاق، الذين فرضت عليهم ظروف المتابعة والمطاردة أن يعيشوا في سرية تامة. تعليق الصورة: من اليمين الى اليسار محمد الخطبي وعزوز لعريش ومصطفى كمال وعبد الجليل الدرج ويونس مجاهد ثم في الصف الأمامي محمد باري وعزيز الطريبق وبنعمر جمال (بدون قميص) وخلفهما كل من عبد العزيز لوديي (باللحية) وعزيز الميموني.