منذ سنوات، اتصلت بي صديقة مغربية كانت في زيارة لفلوريدا، وبعد أن تبادلنا أخبارنا عرضت عليّ بعض لوحات محمد المرابط، أحد رواة بول بولز، وقالت لي إنها مستعدة أن تبيعها بربع ثمنها الأصلي الذي يتجاوز الألفي دولار؛ لكنني لم أبد أي استعداد لأنني لا أتذوق هذه الأنماط الفنية. تذكرت هذه الواقعة وأنا بصدد إنجاز ترجمة لمقال حول جين بولز التي تبدو أكثر عمقا، بالمعنى الفلسفي، من زوجها. كما صادف أن اطلعت على مقررات المدارس الثانوية، خاصة أقسام المتفوقين أو ما يعرف بAP، تدرس نصا لترومان كابوط، أحد الذين قضوا فترة في طنجة إلى جانب بول وجين بولز. عدت إلى هذه المرحلة منقبا ومسائلا الفهم الأمريكي للواقع المغربي، ومحاولا تشريح "العالمية" التي صارت هاجس الكثيرين؛ فبحثت عن تجليات ما يسمى ب"عالمية" الفن المغربي، وأثارني شريط فيديو على موقع اليوتوب لفرقة موسيقية مغربية تسمى "جهجوكة"، وأفرادها يعزفون في الهواء الطلق داخل حديقة عمومية، في إنجلترا، على هامش مهرجان "عالمي" يسمى Glastonbury Festival. كانت إيقاعات الطبول تقرع، وصوت آلة النفخ "الغيطة" يعلو، وأعضاء الفرقة الذين ينتعلون أحذية مطاطية (ما يعرف بالبوطة) ويرتدون جلابيب الصوف في شهر يونيو، بينما الناس في فسحتهم يقتعدون الأرض في نزهتهم، والفرقة تطوف حولهم. يبدو من خلال الشريط أن لا أحد اكترث لوجودهم لولا قرع الطبول، فاكتفى البعض بالتقاط الصور، وراح بعض الشباب لا يتعدى الخمسة أو الأربعة يرقصون، أما الأعداد الغفيرة من زوار البارك فلم يبرحوا أماكنهم غير مبالين بحضورهم. ترى ما المقصود بالعالمية؟ وهل العالمية هي أن يسافر شخص أو فرقة أو فنان إلى الغرب والتنزه في حدائقه أو محلاته التجارية أو جامعاته ليصبح عالميا؟ هل كانت هرولة أعضاء هذه الفرقة في عز الصيف، بين عشرات الإنجليز الذين هربوا من صخب المدينة وبرد الشتاء، إلى الحدائق العمومية، للإنصات إلى موسيقى الطبيعة، وقرع الطبول والنفخ في الغيطة يكفي كي تحقق الفرقة نجاحها الفني وتستحق بذلك العالمية؟ لكن قبل ذلك وبعده، إذا كانت هذه الفرقة تقدم على أنها فرقة فنية وعالميتها جاءت من إنتاجاتها الفنية التي "تروج" في الغرب، فما هي قيمتها الفنية، وما هي قيمتها المضافة للخطاب الفني الموسيقي عالميا؟ الواقع أن علاقتي الشخصية بآلتي "الطبلة" و"الغيطة" كانت تحول دائما دون الاهتمام بالمنتوج الفني لهذه الفرقة التي طالما شاهدتها وقرأت عنها بسبب عدم تذوقي لها. لذلك، وبعد مشاهدتي لهذا الشريط، وفي إطار انشغالي بقضية "أوهام العالمية عند المبدع المغربي"، جعلني أعيد ترتيب علاقتي بهاتين الآلتين، ومقاربة الفرقة، باعتبارها فرقة فنية، ومن ثم طرحت مجموعة من الأسئلة التي تقربني أكثر من السياق العلمي والفني الذي يتوسل المفاهيم والأدوات الكفيلة بفهم الظاهرة فنيا، خصوصا أن جل الذين كتبوا عن هذه الفرقة، انبهروا ب"عالميتها" التي "صنعها" بعض الفنانين الغربيين، وخاصة بولز وقائد فرقة رولين ستون، دون أن يكلفوا نفسهم البحث عن القيمة الفنية "لموسيقاهم". إن الباحث في الخطاب الفني الموسيقي يدرك جيدا أن المجتمعات (العربية) لديها إيقاعات وليست لديها موسيقى ترقى إلى الأشكال الموسيقية المعقدة التي تخضع لضوابط فنية وعلمية وقواعد صارمة مضبوطة، مثلما الأمر في السمفونية. كما أن التطور الموسيقي الغربي، الذي استفاد من كل التاريخ الموسيقي العالمي، قد وصل إلى الأنماط الموسيقية والغنائية الحالية نتيجة لتطور الحداثة الفكرية والفلسفية. ومن هنا، لا يمكننا أن نفهم "الهيب هوب" ولا الأشكال الغنائية الأخرى إلا كثورة وانزياح وتكسير لمنظومة موسيقية صارمة أفرزتها قاعات وصالات المجتمع الأوربي البرجوازي المثقلة بالقواعد والانضباطات. فلماذا اهتم الغربيون وجعلوا من "جهجوكة" قيمة فنية عالمية، بينما فشل هذا النمط من أن يحقق حضورا حتى على المستويين المحلي والإقليمي الضيق؟ ثم كيف لنموذج هامشي ينجح عالميا ويحقق فنيا ما لم تستطع باقي النماذج، على المستوى العربي، بالرغم من كل الاجتهادات والسعي نحو التقعيد والاستفادة من الفن الموسيقي الغربي؟ لماذا تحقق "الحلقة" كشكل ما قبل مسرحي وتفشل الأشكال والفرق المسرحية العربية؟ وما هي وظيفة الفن يا ترى؟ أو بالأحرى كيف يرى هؤلاء الذين اهتموا بهذه الأشكال؟ وكيف استفادوا منها في إبداع أعمالهم؟ ثم ما هي علاقة الشيء الملهِم بالشيء المبدَع؟ وما هي حدود علاقة الشيء في ذاته بالفكرة التي تنتج في ذهن المبدع وقد دخل ضمن عملية صناعية معقدة تؤدي إلى إعادة إنتاج الشيء الذي يصبح ”عملا فنيا“ موازيا للواقع (الواقعي)؟ لا بد في البداية من الإشارة إلى أن هناك فارقا شاسعا بين الإيقاع والموسيقى الذي ينبغي أن نميز بينهما بقوة. كما أنه من اللازم أن نميز بين خصائص الآلات الغربية والآلات الغربية، ثم وظيفة وخصائص بعض الآلات كي نقترب أكثر من القيمة الفنية للظاهرة التي نتحدث عنها؟ إن الاهتمام بهذه الأشكال الموسيقية لا يأتي نتيجة نجاحها في تحقيق المكونات الموسيقية الثلاثة، اللحن والانسجام والإيقاع، وإنما باعتبارها أشكال إيقاعية تدرس لفهم بعض المناحي الثقافية المتجذرة في أنساقها التعبيرية. فبول بولز جاء إلى طنجة قادما من أمريكا بتكليف من مؤسسة روكفيلر التابعة لمكتبة الكونغريس الأمريكي بغرض تسجيل الموسيقى الشعبية لمنطقة الشمال (المغربي) امتدت بين كتامة وتاهلة والحسيمة والناظور وتازة والقصر الكبير وبركان وقد فاقت حينها 205 من التسجيلات. والواقع أن كل الدراسات التي تكون ممولة من قبل منظمات حكومية أو شبه حكومية أو جامعات غربية لا بد لها أن تكون ضمن مشروع عام يخدم "المعرفة" المنتجة التي تصنع النموذج المهيمن. لهذا، لم يكن الاهتمام بهذا النمط الفني (من موسيقى الشعوب بريئا، أو هكذا يبدو على الأقل!)، إذ يعتبر الطبل رمزا لطقوس قديمة تعود إلى ستة آلاف سنة، حيث ارتبط بالهيكل، وكان صوته يعني دعوة الآلهة لأن يفرض هيبته على سكان الأرض لكي يسمعوا صوته ويخشعوا لسماعه لأنه الملهم لكل أعمال الخير. أما الغيطة فتتميز بأنها تنتج صوتا عاليا جدا، ومن ثم فهي ثنائي الطبل الذي يلازمها، ويستخدمان في العراء في الاحتفالات الشعبية من أعراس ورقص شعبي تراثي. لهذا، فإن جل القراءات التي دارت حول هذه المجموعة وإيقاعاتها كانت تدور حول خلفياتها الثقافية ودلالاتها الصوفية، وجذورها الوثنية، وتداخل عدد من المكونات الثقافية التراثية القديمة، من دون أن يهتم بنسقها الموسيقي لتطويرها والارتقاء بها إلى مقام الموسيقى "العالمة لا العالمية"، فظلت نسقا من الرموز الثقافية الصالحة للدراسة الأنثروبولوجية من غير أن ترقى إلى مستوى المادة الفنية الجمالية. وإذا شكلت مصدر إلهام من حيث إيقاعاتها فإن هذا لا يمكن أن يجعل منها نسقا فنيا يمكنها من تحقيق ما يُروج له. فهل يمكنها أن تحقق متعة فنية موسيقية خالصة، كما الشأن مع الأنماط الموسيقية "العالمية" إذا ما نظرنا إليها بمعزل عن رمزيتها الأنثروبولوجية؟ وهل الذوق الفني الراقي يمكنه أن يتفاعل معها؟ ومن ثم، هل يمكنها أن تحقق العالمية إذا ما اعتبرنا أن ما يكتسي قيمة عالمي هي "القطع" الفنية التي يمكنها أن تحدث أثرا فنيا في نفسية المتلقي، ونحن نعلم أن قوة العمل الفني تكمن في انطلاقه من الواقع وتعاليه عليه، بل واستقلاليته عن الرحم الذي خرج منه، بكل تلويناته من ظروف تاريخية واجتماعية واقتصادية وسياسية ودينية؟ إن الأعمال الفنية تتميز بقدرتها على تشكيل قوة ذاتية، تمكنها من تحقيق الاستقلال الذي من خلاله يمكنها أن تصبح هي المؤثرة على الواقع، وإلا فما معنى الموناليزا ومزهرية فان غوخ وباقي الأعمال التي صارت سلطا رمزية في ليس في تاريخ الفن فحسب، وإنما الحضارة الإنسانية برمتها؟ بل إن النهضة الغربية لم تبدأ إلا فنية في البداية! إن الباحث الموسيقي يعلم أن التطور التكنولوجي قد مكن من تحليل أصوات الآلات وتطويرها، في حين أن صناعة الآلات الموسيقية العربية تفتقر إلى المقاييس والمعايير المستخدمة بشكل علمي متطور (نحن هنا نقارن (ولا نخلط) الموسيقى العربية التي هي أرقى بكثير من الإيقاعات الشعبية (فنيا)!)، وبالرغم من دخول الآلات الموسيقية الغربية وتوظيفها فإن توظيفها يظل استخداما بدائيا يخلو من القواعد العلمية. هذا على مستوى استخدام الآلات الموسيقية، ومقارنة مع الموسيقى العربية التي تسعى نحو الضبط والتقعيد، فأحرى الأشكال الموسيقية الإيقاعية المتسمة بالبدائية والتركيز على آلتين بدائيتين لهما رمزية أسطورية أكثر منها فنية إستطيقية. لم يكن الغرض الحط من قيمة ما يعرف بموسيقى الشعوب، أو الحط من قيمة الإرث التراثي سواء الفني أو التاريخي، وإنما فقط محاولة تشريح هذا المفهوم الذي صار رائجا حول "عالمية" بعض الأشكال الفنية -دون أخرى- التي كثيرا ما "تستعمل" أداة "معرفية" يراد منها تحقيق أهداف بعيدة كل البعد عن ما هو فني جمالي. ومن ثم، فإنه في الوقت الذي يتم انتقاء أشكال هامشية وتسليط الضوء عليها ووضعها في مكان "العالمية"، نلاحظ أن الكثير من الأشكال الراقية الفنية والثقافية لا تثير اهتمام هؤلاء "الخبراء" الذين لا يتوقفون عن اكتشافنا بغية إعادة تجديد خطاب الهيمنة والتسليع. وعلينا أن نؤمن أكثر أن العالمية لا تتحقق إلا ب"المحلية" والتجذر فيها، وبالاحتكام إلى الأنساق الجمالية والفنية التي تنتمي إليها الأشكال التعبيرية قيد الاهتمام! العالمية، في النهاية، هي الوفاء للذات وللقضية "الفنية" والوعي بما يجري في الراهن العالمي. كما أنها الوعي بأن العالم لا يتحكم فيه بالقنابل الذرية وأسلحة الدمار الشامل، وإنما بأسلحة "صناعة المعرفة"!