-1- للفساد في بلادنا تاريخ عريق، إذ عرفت هذه البقعة الطاهرة من الأرض كل أصناف الفساد في فترات عديدة من حياتها.. عرفت الفساد المالي والإداري والأخلاقي، بأشكاله وأنواعه المختلفة، على مرأى ومسمع من التاريخ والجغرافيا. وفي كل الفترات، استدعى الفساد عقول المصلحين/ عقول المجاهدين/ أجهزة للمراقبة والمحاسبة من أجل مكافحته؛ ولكن الرشوة والسطو على المال العام والخيانة واستغلال النفوذ ظلت أمراض قائمة تنتقل من جيل إلى جيل، ومن فترة إلى أخرى، ضدا في المكافحة وأجهزتها / ضدا في عقول المصلحين والسياسيين / وضدا في القوانين والشرائع والمحاكم / وضدا في المواطنة وأخلاقياتها وقيمها. إن تاريخ الفساد في بلادنا عميق وعريق، أفرز لنا أجيالا من المتسلطين، الذين لا يهمهم لا أمر البلاد، ولا أمر العباد، تهمهم فقط السلطة وما تفرزها من أرباح وغنائم، وبالنسبة إلى التاريخ، هم مكشوفون بالأسماء والألقاب والصفات. -2- خلال القرنين الأخيرين (التاسع عشر والعشرين)، لم يخف الفساد نفسه؛ بل كان حاضرا واضحا في كل الأحداث والفترات. قبل عقد الحماية وبعدها، كانت الحياة المغربية مزدحمة باللصوص والفاسدين والخونة والراشين والمرتشين والمتربحين، وفي عهد الاستقلال نهبوا وسرقوا وحوّلوا "الاستقلال" إلى "نقمة"، إلى صورة بلا معنى؛ بل إلى بؤرة من الصراع الأسود بين سالبي الغنائم والفقراء، بين قيم الاستقلال وسلطات النهب والفساد. قبل عهد الحماية بعقود طويلة، تجاوز الفساد الخطوط الحمراء، إذ سيطر القياد والباشوات والوزراء وكتاب المخزن على الأراضي والثروات وأموال الدولة، وظهرت على الأرض "ظاهرة" المحميين من لدن القوى الأجنبية، الذين لا يؤدون الضرائب، ولا يهابون المخزن ولا يعترفون بجنسيتهم المغربية، وهو ما هدد استقلال البلاد وحرمتها وقيمها الوطنية، وهو ما أعطى للحماية الفرنسية الإسبانية في النهاية شرعيتها الدولية. هذه الحالة جعلت من الفساد، خلال فترة ما قبل الحماية، ظاهرة تاريخية من السهل رصدها ومعرفة عصاباتها من خونة الدولة / من التجار والمقاولين والسماسرة الذين يملكون مفاتيح الفساد ومرجعاته دون حياء أو خوف؛ بل خلصت هذه الظاهرة إلى أن الفساد أصبح حالة وبائية أوصلت البلاد والعباد إلى الأمية والفقر والمرض واليأس، وسلمت البلاد في نهاية المطاف بلا مقاومة إلى الحماية الأجنبية لإدارتها وتعميق التخلف والبؤس والفساد على أرضها. لا شك في أن ملفات الفساد في عهد الحماية كانت تشمل كل القطاعات التي تتمركز في قلب رحى الدولة والإدارة، وكانت وثيقة عقد الحماية (مارس 1912) تتعهد بالإصلاح الإداري / إصلاح الفساد / إصلاح الحالة العامة في البلاد؛ ولكن بعد شهور قليلة، أكدت كل الأرقام والدراسات أن ظاهرة الفساد زادت من الاستشراء، بسبب حصول الخونة على أهم مواقع السلطة بالبلاد. فبعد أن كان المغرب يعاني من سرقات وخيانة، من الوزراء والباشوات والقياد قبل الحماية، سلمت فرنسا وإسبانيا بعد الحماية السلطات إلى عملائها الذين خدموا بإخلاص أهداف الاستعمار، بسيطرتهم على ما تبقى من الأراضي والمناجم والثروات البحرية. بسبب الفساد المتوارث من عهد إلى آخر، ومن جيل فاسد إلى آخر، أصبح المغرب في وضع حرج، يتجاوز كل الخطوط الحمراء في قضية السرقة والنهب من طرف قادة الاستعمار وعملائهم المغاربة؛ وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى ارتفاع مؤشرات الفساد وتعميق حالة الاحتجاج والعصيان والمقاطعة والثورة المسلحة، التي انتهت بإعلان استقلال البلاد سنة 1955. -3- سلطات الاستقلال وجدت أمامها ملفات ضخمة الفساد، التي تشمل كل القطاعات... وكان أمل المواطنين والأحزاب والمقاومين والهيئات الوطنية، إصلاح ما فسدته الحماية وما قبلها، ومحاكمة الخونة والعملاء ولصوص المال العام وأراضي القبائل، وإعادة ما نهب إلى أهله وأصحابه. ولكن ما حدث كان مؤلما، إذ دخل المغرب مع بداية عهد الاستقلال مرحلة جديدة من الفساد، بعدما تصاعد نفوذ البارونات الجدد، عمالا وباشاوات وقيادا ومديرين ورجال أعمال، الذين نخروا اقتصاد البلاد وسياسة البلاد وجعلوا صناديقها وأراضيها وخيراتها وأموالها بأيادٍ لا ترحم. هكذا، أصبح المطلب الشعبي، منذ العقد الأول لعهد الاستقلال، يتجه إلى فتح ملفات الفساد وفضح المتورطين فيه ومكافحته قانونيا والقضاء عليه بلا شفقة وبلا رحمة... ومنذ العقد الأول لعهد الاستقلال، بدأت الحكومات تطلق الوعود التي انتهت بالصدمة والإحباط، بعدما تركزت السلطات بوزارة الداخلية ورجالاتها التي أصبحت تواجه مطالب الإصلاح بالقمع وقوة العصا لمن عصا، حيث سمحت بظهور فاسدين جدد؛ وهو ما أدى في النهاية إلى العصيان الشعبي والاحتجاج الذي واجهته هذه الوزارة في عهد الجنرال أوفقير والضابط الأمني إدريس البصري وقواتهما الخفية والمعلنة بالحديد والنار، في فترات متعددة من عهد الاستقلال. -4- السؤال المخير الذي يطرح نفسه في عهد "المفهوم الجديد للسلطة" وعهد حكومات التناوب والإصلاح الجذري: هل تاريخ الفساد الذي استمر لقرون بالمغرب، وأنتج له نخبا تصنع الفساد وتستخدمه للقمع والفقر والتفقير.. هل انتهى عهده؟. تاريخ الفساد الذي دارت كل معاركه على السلطة والغنائم والسلب والنهب وإسكات الأصوات التي تطالب بالحق أو بالإصلاح... هل انتهى أجله؟. تاريخ القرون الثلاثة الماضية، المملوء بالنهب والسرقة والفساد والمواجهات والاحتجاجات الدامية، لم يسجل لنا حتى هذه اللحظة نجاح دعوة إصلاح واحدة، بالرغم من ظهور العديد من الجمعيات والمنظمات والأحزاب ولجان التقصي البرلمانية، التي قالت إنها خلقت من أجل القضاء على الفساد وأهله. لماذا لم تنجح جهود المغرب من أجل الإصلاح... والقضاء على الفساد؟ مع ذلك، ما زال الأمل يراودنا، يدغدغ أحلامنا لنرى مغرب آخر... ما بعد زمن الفساد.. هل يمكن أن يتحقق لنا هذا الحلم، في زمن الألفية الثالثة؟ كيف؟ كيف؟