تجمع الأصبع والعصى علاقة طويلة منذ أيام سنوات الرصاص، تخبو حينا وتتجدد قصصهما. الأصبع له قدرة عجيبة على الكتابة وعلى التلون بألوان السلطة وصحافتها، لها محترفوها ولها أجندتها لا يهم أكانت جرائد حزبية أم صحافة مستقلة... المهم هو الحدث أو الشخص ومن ثمة نسج الحكايات العجيبة حتى ولو اختلط فيها المتخيل بالواقعي وامتزجت فيها القصص الملفقة والسيناريوهات البعيدة عن التصديق. تنصت العصى بإمعان للأصبع وهو يتحدث عن تاريخه الطويل في مشايعة السلطة.. مهمتي التشهير بكل ألوانه وقد أتجاوز ذلك إلى أعمال أخرى حسب الظرف والتوقيت. تتأمل العصى كلامه، تحاول سرد تاريخها الطويل.. أنا مقاس على المتظاهرين، أنا مقاس على المحتجين، أنا برد وسلام على الزائغين والغاضبين.. لكل من تعنت.. لكل من حاول أن يتجاوز الخطوط الحمراء.. لكل من اعتقد لبرهة أن صوته يعلو بالحق... يغضب الأصبع كثيرا أمام هذا التباهي، أنا من كنت أكتب وأرسل خطابات صلاة يوم الجمعة وخطابات فاتح ماي وأنا من كنت أصنع الحدث بحرفيتي في الصفحات الأولى.. أنا مفتون بصناعة الإشاعات الكبرى.. تذكري خطبي الرنانة والتصريحات التي كنت أنقلها والرسائل التي كنت أبعثها هنا وهناك... تغضب العصى غضبا شديدا.. تزمجر.. هل نسيت المسيرات الاحتجاجية في كل المدن والقرى؟ كيف كنت أعيدها أدبارا وأدبارا؟ وهل تذكرت كيف هشمت الجماجم على رؤوس أصحابها دما طازجا فوارا متدفقا؟ يستطرد الأصبع: لا عليك من هذا التباهي المبالغ فيه، أنا وأنت غريمان للسلطة، هل تذكرت كيف فتحت دبره؟ وكيف أدخلت عصاي بإحكام؟ كان مشهدا رائعا حتى كبار المخرجين لا يستطيعون أن يتفننوا في إبداعية هذا المشهد وإنجازه. إنه تجاوز لكل فعل إنساني، لكن عزيزتي ماذا سيقول العالم علينا؟ هل نحن حمقى نعيش في غابة مسعورة؟ ألا نخجل من هذه التصرفات المشينة التي تسيء إلى دولتنا في سنواتها الأولى في الديمقراطية؟ بماذا نجيب الخصوم وهم ينصتون من قلب المحكمة للمعارضين والنشطاء والمحاضر وهي تكتب عنا؟ أليس مخجلا أن نتورط في هذا الفعل الشنيع؟ هل يستحق الإيلاج اغتصابا؟ لا لا .. يا صديقتي، يصيح الأصبع، هو فعل تمرين على المواطنة؟ ألا تعرفين أن الخبر قد ينتشر انتشار النار في الهشيم في كل بقاع العالم وستنكمش صورتنا وتضمحل خجلا وأسفا؟ ولكن سيعرف كل ناشط مغرور أنه كلما تخطى الخطوط الحمراء وأصبح زعيما وعارض السلطة أن أصبعا، قلما متمرسا، وعصى تتعدد أشكالها وألوانها في انتظاره.. تجيب العصى. لقد فهمت المغزى، يضيف الأصبع، إنه فعل تربوي على المواطنة وعلى الرضوخ؛ لذلك فكل ناشط يتحسس سوأته ويتحسس أطراف جسده، وسيتذكر هذا الفعل. وإن استطاع الحكي وسرد القصة بكاملها، سيشعر الآخرون بالخوف وهنا نكمل شطر الحكاية من لعبتنا الجميلة والمسلية أننا أدوات لصناعة الخوف، وأننا مجبرون على أداء الدور، كما هم الممثلون مجبرون في كثير من الأحيان على أداء أدوار الشر والسرقة والجرائم وبيع المخدرات داخل أفلامهم... عزيزتي، عليك أن تفهمي أننا نحمل سلطة خلف سلطة السلطة، ونحمد الله أننا لا نحمل سوى نعوتا وقصصا لما نفعله. تجيب العصى: كل ليلة أبيتها يجافي النوم عيوني وأقول إن شيئا سيتغير غدا، إن شيئا سيتحسن غدا، لكن ببساطة لا شيء يتغير وأنا غاضبة من خيبة الأمل الجامدة في مكاني. يبتسم الأصبع في وجهها... غدا نصنع حكاية جديدة وننسى حكاية عمي الزفزافي... كما نسينا سنوات الرصاص.