يوم السبت 24 فبراير، بفضاء دار الثقافة بالمدينة القديمة بالبيضاء، شهدت ميلاد رجل ميْت. رجل ميْت جاء الجميع لتحيته، إذ ارتدى الكيمونو قبلا مثلهم. مات واقفا، مثل شجرة درويش، وهو يرتدي هذه البزة النظامية حتى آخر رمق من حياته. لذلك لا غرو أن تنظم جمعية أيكي المدينة للأيكيدو واليايدو وفنون الحرب ندوة ثقافية شهدها تلامذة الحاج وضيوف آخرون ونشطها الأساتذة أحمد دزارا وعز الدين مسطار وجمال توفيق وصوفانا متوكل. كل في اختصاصه. حقا، لا أجد وصفا أدق لوصف روح هذا الفن غير عنوان رواية المبدع الروسي العملاق تولستوي: "حرب وسلم". ففي أعماق هذا الفن الحربي تختبئ روح سلمية. فأنت بمقدورك تهشيم خصمك، لكنك تكتفي بشل حركته ابتغاء منحه فرصة للتفكي وتصويبه تلقاء السلم. ابتكر هذا الفن الأوسنسي O'Sensei (المعلم الأعظم أو المبجل) الياباني موريهي أوشيبا Morihei UESHIBA . كان جنديا في الجيش الياباني رأى فظاعة الحرب فقرر توجيه رسالة سلمية نحو العالم. وكانت الرسالة : الأيكيدو. بلغ هذا الفن المغرب عبر المقيمين الأوربيين. وروجه باقتدار بين المغاربة أستاذ مغربي موهوب اسمه مبارك العلوي. هذا الرجل تعلم هذا الفن تحت أعين أساتذة أوربيين، ابتداء من العام 1957، أمثال الدكتور ستيركس Sterkx ومارتن Martin وبونسارا Bonsara وجورج ستوبايرتس Georges Stobbaerts. وكان لتعرفه على الأستاذ الياباني نوبويوشي تامورا Nobuyoshi Tamura عام 1962 أثر مائز في حياته. فتامورا مَنْ أعانه على إنشاء ناد رياضي أسماه "سيودوكان". وكان الحاج يُكِنُّ وُدٍّا فذا لهذا الياباني. تتملص العبارة من أناملي، إذ أسعى للكتابة عن هذا العملاق. حَسْبِيَ أن أُلْمِعَ إلى كثرة تلامذته بمختلف المدن المغربية وأنهم من يمسكون بزمام الإدارة التقنية للجامعة الملكية. تلامذة يلقنون هذا الفن لمن يبغي زرع الطمأنينة في نفسه. ولا تستغرب أن ينبهك الأستاذ كل مرة، طالبا منك إرخاء كتفيك والتنفس بلا تشنج لأجل إنجازك التقنية. فبدون ارتخاء تام لن تفلح في إتقان التقنية. وعليك مساوقة شريكك بشكل سَمْفوني حتى تبدو الحركة زاهية. فأنت بلا شك مُرَاقِصٌ لصاحبك مراقص لتقنيات حربية فريدة. هذا الجو العجيب يتشرب مادته من الثقافة اليابانية النازعة نحو الفعل الدقيق. فلا تعجب أن يتشدد الأستاذ في وضع الأحذية بترتيب دقيق قبل دخول القاعة. كان الحاج يطوف مرة بين الجموع المتدربة الوافدة من مدن مختلفة صائحا بينها بقاعة المركب الرياضي محمد الخامس: "واالمسلمين". فكأني بقول مضمر مكنون: "إنكم لستم أنموذجا مثاليا." لن أنسى أنه كان خبيرا دوليا يحظى بتقدير فريد ويرتحل بين مدائن الأرض لتقديم خبرته أو معاينة مستوى هذا الفن بين باقي الأمم. برهان ذلك أن الأشقاء الجزائريين يحجون إلى المغرب دَأبا، بعد موته، ينسقون مع نظرائهم المغاربة للرقي بهذا الفن. ورغم موته، ما زالت ذكرياته غضة في النفوس. ففي حصة تدريبية بفضاء ملتقى الأجيال بالمدينة القديمة بالبيضاء، قبل إغلاقه، قال الأستاذ أحمد دزارا: "كان الحاج، رحمه الله، يُشَبِّهُ هذه الحركة بغروب الشمس". وستجد داخل هذه القاعة ملصقا حائطيا ينصح فيه الحاج الصغار بالاقتداء بالكبار. ولميله نحو نَظْمِ القول الحكيم سمعته مرة يقول عن نقطة العرق التي تتصبب منك فتصيب جوف شريكك: "صرتما، بفضل هذه القطرة، شقيقين." مرة رأيت خبيرا بلجيكيا يقوم من مكانه مصافحا من كان أمامه مهنئا حين علم أن من جلس أمامه لتسلم شهادته للحزام الأسود من المستوى الدولي هو ابن الحاج. كان حلمه أن ينشئ أكاديمية للأيكيدو: "أريد أن يقصدها المتعلمون. يأكلون ويشربون وينامون، لا يؤدون مقابلا." لم ير الأكاديمية لكنه أدرك إنشاء الجامعة الملكية للأيكيدو. كان هِزَبْراً في الدوجو. وكان تلامذته يقبلون يده: موسرين أو فقراء، كبارا أو صغارا. يسمون سيودوكان الزاوية. ترك الحاج إرثا رائعا. وإني أِخال الفرصة مؤاتية لاستثمار هذا الرأسمال بإفريقيا مثلما فعل معلم صيني للكونفو بمالي. رأيته ذات مرة بالقناة الفرنسية فرانس 24. فالأيكيدو خطاب ثقافي وقوة ناعمة.