"جادك الغيث إذا الغيث هما يا زمان الوصل بالأندلسِ لم يكن وصلك إلا حلما في الكرى أو خلسة المختلسِ" يتفق المؤرخون على أن جبالة (سكان المناطق الشمالية من المغرب) هم أحفاد الأسر الأندلسية الذين هجروا من الأندلس بعد سقوطها فهربوا فارين بدينهم من محرقة محاكم التفتيش، وقد وقع اختيارهم على المناطق الشمالية للمغرب سكنا لهم نظرا لأنها أول يابسة وطئتها أقدامهم ثم لقربها من عدوة الأندلس ولكون مناخها متشابه إلى أبعد الحدود مع مناخ الأندلس؛ إذ لا يفصل بين العدوتين إلا 14 كيلومترا من مياه المتوسط، زد على ذلك أنهم وجدوا في طبيعة هذه المناطق الخلابة ما يسليهم أو على الأقل يعزون به أنفسهم عن ذلك الفردوس المفقود... "يأهل أندلس لله ضركم ماء وظل وأنهار وأشجار ما جنة الخلد إلا في دياركم ولو تخيرت ذا لكنت أختار" وقد حملت هذه الأسر الأندلسية ثقافة غنية من جميع جوانبها لأنها في الأصل خليط من الثقافات المتعددة؛ ذلك أن الأندلس كانت أرضا تسع الجميع، تعايش فيها الأمازيغي إلى جانب العربي واليهودي والإسباني القشتالي أو الأرغوني والبرتغالي والغجري وكل أطياف البشر من جميع الأجناس والملل والنحل... وهاته العادات والتقاليد ما زالت متجذرة في الأسر الجبلية تنتقل من جيل إلى جيل. وأحد جوانب هاته الثقافة الأندلسية هو المعمار والاعتناء بجمال الأحياء، قد لا يكون من السهل أن تلاحظ هاته الأشياء في الآونة الأخيرة نظرا للجشع العمراني وانتشار البناء العشوائي... لكني اؤكد لك أنك إن قمت بجولة بين أحياء مدينة طنجة أو تطوان فإنك ستصادف الكثير من الأزقة التي لن تملك إلا أن تقف منبهرا فاتحا فاك من جمال المنظر: ألوان فاتحة ورسومات مبدعة وأزهار تعطي للمكان بهجته وبهاءه... هذا فضلا عن مدينتي أصيلة وشفشاون اللتين تحتفظان بكامل زينتهما نظرا لنجاتهما من التوسع العمراني الذي يفسد كل شيء. أما الجانب الآخر فهو الجانب الموسيقي، فالمدن الشمالية ما زالت تحفظ الطرب الأندلسي عموما والغرناطي على وجه الخصوص، وما زال سكان المنطقة مولعين بهذا الفن، ولك أن تزور المقهى العائلي الشهير (الحنفطة) بمدينة طنجة الذي يقيم حفلة للطرب الأندلسي عشية كل يوم جمعة وسترى الحشد المتزاحم وتفاعله مع الفرقة الموسيقية، رجالا ونساء، صغارا وكبارا، في جو عائلي بهيج يذكر بذلك الماضي الجميل. ومن الأشياء التي نجد أهل الشمال يختلفون فيها عن باقي الجهات المغربية هي اللهجة الشمالية التي قد تبدو غريبة في بعض كلماتها؛ ذلك أنها في الأصل لهجة عربية أندلسية متأثرة باللغة القشتالية (Castellano) القديمة والأمازيغية بالإضافة إلى الإسبانية، فمثلا نجد كلمة "ستيتو: صغير" مأخوذة من اللغة القشتالية القديمة، وكلمة "الجرو: الكلب / العايل: الطفل" مأخوذة من اللهجة العربية الأندلسية، وكلمة "التجال: القزم" مأخوذة من الأمازيغية، و"نيبيرا: ثلاجة / كوجَّارَّا: المعلقة" كلمات إسبانية.... وما زالت القبائل الشمالية محتفظة حتى بالإيقاع الصوتي للنطق باللهجة الأندلسية، فنجد بعض القبائل يستعملون الإمالة كثيرة في كلامهم مثل قبائل أنجرة التي تكاد تنطق كل شيء مكسورا، أو قبائل بني مصور التي ترقق الأحرف المفخمة أو بعض القبائل التي تنطق القاف كافا... وهاته من صميم البنية الصوتية للهجات الأندلسية كما ذكر لسان الدين بن الخطيب في كتابه "الإحاطة في أخبار غرناطة"، وسأضرب مثالا لذلك بكلمة (الحُق: الحُك) لا شك أنكم قد شاهدتم مرارا إشهارا حول الطماطم المعلبة (مطيشة الحك عايشة) فما معنى الحُك؟ هذه كلمة عربية وفي الأصل تنطق بالقاف (الحُق)، وقد جاء في القاموس تعريفها على النحو التالي (الحُقُّ: وعاء صَغيرٌ ذو غطاء يُتخذ من عاج أو زجاج أو غيرهما)، انتقلت هذه الكلمة إلى الأندلس مع العرب الفاتحين، ونظرا لأن بعض مناطق الأندلس كانوا ينطقون القاف كافا أصبح (الحُق هو الحُك) ثم عادت هاته الكلمة من الأندلس إلى شمال المغرب مع الأسر الأندلسية العائدة ومنها انتشرت في المغرب كله؛ ذلك أن هناك من الأسر الأندلسية التي سكنت مدينة الرباط كبعض الموريسكيين وبعضها سكنت مدينة فاس لأنها كانت عاصمة العلم والثقافة والفن. وفي الأخير أريد أن أختم بالحديث عن المرأة الجبلية الشمالية التي تعد جانبا من جوانب الإرث الأندلسي، فالمرأة الجبلية هي سليلة المرأة الأندلسية وما زالت محتفظة بمعظم صفاتها من التأنق في الملبس والتغنج في الكلام والمحبة للألوان الزاهية المفتوحة، بالإضافة إلى بهاء الطلعة وحور العيون: "لها في عينيها لحظات سحر تميت بها وتحيي من تريد وتسبي العالمين بمقلتيها فكل العالمين لها عبيد" والمرأة الجبلية بكل اختصار هي التي غنى عنها الفنان محمد العروسي قيدوم العيطة الجبلية قائلا: "أراولي زاين جيل جيبوه بالغيطة والطبل والفراجة على كل شكل جبالة معروفين بالوفا والصدق والنيا والوفا اراولي الزين لحلو نعطيه مالي كلو أراوهالي جيبوهالي أيما أحّحححاي ..." وهذه الكلمة (أحّاي) تختصر كل شيء، فهي تعبر عن حرقة دفينة وشوق يلهب الأحشاء من فرط الصبابة وشدة الهيام بهاته الإنسانة الطيبة العفوية التي تتشح بالمنديل المخطط بالأحمر والأبيض وتضع على رأسها قبعة (الشاشية) مزركشة بألوان فاتحة تعكس حبها للطبيعة وولعها بكل أشكال الجمال والحياة. "كأن الله صورها من نوره بشرا وأنشأ الخلق من ماء وطين" ملاحظة: كانت هاته بعض المعلومات التي تجمعت لدي بسبب ولعي بقراءة تاريخ الأندلس لأني (جبلي) أرى في الأندلس ماضي المجيد، وقد أحببت أن أتشارك معكم أهمها فلا شك أن الإنسان مولع بمعرفة تاريخه وجذوره. *أستاذ اللغة العربية