استوطنوا الكهوف منذ أزمنة غابرة فأصبحت مصدر رزقهم، وملاذا للسياح في برد الشتاء وحر الصيف، إنها منطقة البهاليل أو كما يحلو للبعض تسميتها ب"بهاء الليل" يعيش سكانها حياة لا تصلح للعيش الآدمي، في قرية تقع فوق قمة جبل "اكندر" الذي يبعد عن مدينة فاس بحوالي 26 كيلومترا. على سفوح جبال الأطلس المتوسط يعيش سكان منطقة البهاليل حياة بدائية أقل ما يمكن أن يقال عنهم "أهل الكهف"، في أعالي جبال شيدت ليستوطنها هؤلاء المغاربة منذ عقود من الزمن داخل حفر تتفاوت مساحتها، ذات أبواب مميزة أغلبها بدون نوافذ وتغيب فيها التهوية ومظاهر الحياة الكريمة. وأسهمت غرابة الكهوف وأزقة المدينة ومحيطها الطبيعي الخلاب الهادئ ومنابعها الطبيعية وشوارعها غير المستوية وطقسها المعتدل أيضا في جلب سياح أجانب، يفضلون تجربة حياة الكهف مع أناس بسطاء يقدمون لهم الشاي المغربي ويبيتون وسط أبنائهم في كهوف تحوي عادة غرفة واحدة مفتوحة وفي بعض الأحيان تتميز بطابقين. وتجلس النساء أمام المنازل المفتوحة الأبواب، يحكن الملابس التقليدية والحلي اليدوية، ليبعنها للسياح الذين يتجولون بالقرية يوميا، ويعرضن عليهم الدخول إلى المنزل "الكهف" لمشاهدته عن قرب. أما الرجال فيقفون على قمم الشوارع ينتظرون أفواج السياح لاصطحابهم في جولة داخل القرية، وتعريفهم بالمزارات المختلفة ويشرحون لهم تاريخ قرية البهاليل الممتد لعهد الأمازيغ الأوائل، سنة 650 الميلاد. في جو ممطر شديد البرودة، انتقلت جريدة هسبريس إلى منطقة البهاليل الواقعة في مقدمة الأطلس المتوسط ذات طبيعة صعبة يعلوها لأزيد من 950 كيلومترا على سطح البحر والتي يميزها حجرها الكلسي الذي يمثل أصل كهوفها، انتقلت لرصد حكاية "سكان الكهوف المظلمة". بنظراتها المحدقة وبترقب كبير لبعض القطع النقدية مقابل أخذ بعض المشاهد لكهفها الذي تكسوه الرطوبة وبرودة لا مثيل لها، استقبلتنا الرخى فطومة وهي امرأة يقارب سنها 50 عاما قائلة: "45 سنة وأنا أعيش داخل هذا الكهف، نتعرض فيه بشكل مستمر لأمراض الربو جراء الرطوبة التي تنخر أجساد أطفالنا". بملامح متعبة تقص فطومة حكايتها مع الكهف المظلم لهسبريس قائلة: "لم أختر العيش داخل هذا الكهف الموحش بل فرضته عليّ الحياة بعد ارتباطي من رجل ولد وترعرع بالكهوف؛ وهو الأمر الذي حتم عليّ العيش به رغما عني". وتسترسل فطومة حديثها وهي أمّ لثلاثة أطفال تصر على إتمامهم لدراستهم وتقول أمام كاميرا هسبريس: "يمرض الأطفال باستمرار ويعاني جل سكان هذه الكهوف من أمراض الرئة؛ وهو الأمر الذي يحتم علينا عرضهم على أطباء بشكل روتيني لكن دون جدوى". وأكدت المتحدثة نفسها: "جل أهالي الكهوف تعاني من هشاشة اجتماعية ومن مستوى مجتمعي ومادي متردي، فمثلا لكسب قوت يوم أطفالي الثلاثة أضطر للعمل خادمة تنظيف بالبيوت لضمان لقمة عيش تغنيني عن مد يدي والاتجاه للسعاية". ولا تخلو الكهوف الموحشة من مشاهد رعب تنتاب قاطنيها بشكل متكرر وهو ما تؤكده فطومة في حديثها مع الجريدة بالقول: "لمدة سنتين ابنتي الصغيرة جافاها النوم جراء تخيلات وأشباح تظن أنها تملأ الكهف، وعادة ما ينتابنا الخوف والهلع في جوف الليل؛ لكن لا بديل عنه في الوقت الراهن". وتبدي الأم عدم رضاها بتلك الحياة التي تعتبرها "جحيما فرضه الزمن عليها"، مضيفة حديثها: "لا ولن أرضى بهذه الحياة التي فرضت علي قسرا، بالمقابل أحمد الله وأطلبه ليل نهار راجية تغيير وضعنا وإصلاح حالنا الذي يهابه الجميع". حادة الصغير امرأة في أرذل العمر أبت إلا أن تسرد معاناتها أمام عدسة كاميرا هسبريس قائلة: "تعرضت لحادث سير منذ عقود.. وبمبلغ مالي عوضتني به شركة التأمين جراء العاهة المستديمة التي ألزمتني الجلوس بالبيت، اشتريت هذين الكهفين؛ أحدهما منحته لابني استوطنه وأسرته الصغيرة، والثاني أعيش فيه بعدما توفي زوجي وأصبحت وحيدة". ولا يخفى عن سكان البهاليل تاريخ استيطان الكهوف، حيث يقول قبلي لحسن، الذي رأت عيناه النور بكهوف البهاليل: "منذ أزيد من 150 سنة أنشأ السكان الأصليون هذه الكهوف، واتخذوها مسكنا لهم قبل ظهور المعمار والبنايات بالمنطقة التي أصبحت مع مرور الوقت وكرا لتجار المخدرات". بهذه الكهوف الغريبة التي تعود جدرانها الرطبة بنفع بسيط على أصحابها ذوي الوضعية الهشة الذين تعايشوا مع ضنك الحياة في أقصى تجلياتها يخلص المتحدث إلى أن "كل العائلات تعيش وضعية اجتماعية هشة جدا؛ وهو الأمر الذي حتم عليهم الرضا بقدر ليس غريبا بالنسبة إليهم".