أيها الأحياء، انتبهوا من فضلكم فالموت أقرب مما تتصورون! غادرت هولندا يوم الثلاثاء 09-01-2018 في اتجاه المغرب قصد زيارة الأهل والأحباب. كانت كل تفاصييل الرحلة تبدو على ما يرام ولا شيء يدعو إلى توقع مكروه أو حدوث ما لا تحمد عقباه. نزلت في مدينة طنجة قادما من مطار بروكسيل وكلي أمل وشوق وحنين. بت ليلة الثلاثاء في مدينة طنجة لآخذ الحافلة بعد زوال الأربعاء مغادرا المدينة في اتجاه مدينة الرشيديةمسقط الرأس ومقر سكن معظم أفراد العائلة. قبل صعودي الحافلة، كنت قد أخذت -كعادتي- قنينة ماء لأشرب منها عند الحاججة. لما صعدت، جلست في مقعدي ووضعت قنينة الماء (القاتلة) إلى جانبي على المقعد المجاور الذي كان شاغرا لأن الحافلة لم تكن ممتلئة بالكامل. انطلقت الحافلة حولي الساعة الثالثة بعد الزوال بشكل عادي وطبيعي جدا، لم أتوقع معه حصول أي شيء غير عادي أثناء الرحلة. بعد انطلاق الحافلة بحوالي الساعتين، وبينما أنا أمتع النظر بالأراضي الفلاحية الخصبة الممتدة على جنبات الطريق بمنطقة العرائش، أحسست بحاجة إلى شرب قليل من الماء. أخذت القنينة ففتحتها بهدوء ثم وضعت فاها بين شفتي لأشرب. لا شيء يبدو غير عادي إلى حد الآن. سأشرب كما اعتدت أن أشرب مرات متتالية في اليوم. وأي خطر يكمن وراء تناول جرعة ماء صاف معقم؟ بعد وصول أول قطرة من الماء إلى حلقي، أحسست أن شيئا ما غير طبيعي قد حصل، إذ دخلت في نوبة سعال لا إرادي مصحوب بضيق شديد في التنفس... أزلت القنينة من فمي وبدأت أحاول –عبثا- أن أرد النفس وأوقف السعال فإذا بقنوات التنفس شبه مغلقة بالكامل وكلما حاولت أن أتنفس، انبعث من أسفل حنجرتي صوت الزفير والحشرجة بشكل قوي جدا يسمعه كل من في الحافلة! الوقت يمر والكرب يشتد وكأنني أنازع سكرات الموت بالفعل... فزع كل من الحافلة لحالتي ولسماع حشرجتي فنادوا السائق ليوقف الحافلة. استجاب السائق لنداء الركاب فأوقف الحافلة وركنها على جانب الطريق فاسحا المجال لإسعافي! اقترب مني أحد الركاب رابطي الجأش وأشار إلي أن أرفع رأسي إلى الأعلى قليلا لعل النفس المنحبس يجد له مخرجا... كثر الصياح والضجيج والفزع داخل الحافلة، هذا يقول: (مالو مسكين؟) وذاك يتساءل: (واش نسا دوا ديالوا؟) وتلك لم تتوقف عن تكرار اسم الله والرجوع إليه... أما أنا المسكين، فكنت أصارع الموت لعلي أسترجع نفسي المفقود من جديد! ولأن الله اللطيف الرحيم قدّر أن في عمري بقية، بدأت أزمة انحباس التنفس تنفرج بالتدريج وبدأ صوت الزفير والحشرجة ينخفض معلنا عبور النفس من وإلى الرئتين من جديد... انتبهت إلى نفسي بعد استرجاع نفسي، فإذا بي أتصبب عرقا رغم برودة الجو وإذا بالدموع تنهمر من العينين دون أن أعرف أكان انهمارها من شدة الألم أم من شدة الخوف أم من شدة الحزن أم من صدمة الفجأة أم من هذا كله. أما الرأس، فيكاد ينشق من شدة الألم... كل هذا، حصل في بضع ثوان ربما لا تصل نصف الدقيقة! بعد لطف الله، وبعد ما استرجعت كامل قواي وأيقنت أن الموت كان زائرا ومنذرا لا قابضا، بدأ ركاب الحافلة يهنئونني قائلين: (الحمد لله على سلامتك أشريف..اخلعتينا عليك..خصك ادير شي صدقة راه ربي كتب ليك عمر جديد..) في تلك اللحظة التي كان فيها النفس منحبسا، ورغم شدة كربها وقصر مدتها، إلا أن أسئلة كثيرة راودتني خلالها.كنت أتساءل مثلا: هل سأموت الآن؟ وإن كنت سأموت، فلماذا الآن بالضبط؟ ولماذا في هذا المكان وفي هذا الزمان وبهذه الطريقة...؟ بعد أن كتب الله لي عمرا جديدا -كما قال أحد الركاب-، أسال نفسي الآن: لماذا قدر الله أن أمر بتلك التجربة؟ ما الدرس الذي تريد الأقدار أن تعلمني إياه من خلال الذي رمتني به؟ بالفعل إخوة الحياة، لقد استفدت درسين عظيمين من هذه التجربة، أرجو أن لا أغفل عنهما ما حييت، وأن لا يغفل عنهما أي حي أيضا. أما الدرس الأول فهو: أن الموت أقرب إلينا مما نتصور وأنه هو الذي يحدد كيف وأين ومتى يأتي ولسنا نحن. يقول الله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} لقمان:34. ولأن الموت لا يمكن تفاديه ولا توقعه، فالفطنة والكياسة تقتضي الاستعداد له على الدوام. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقزل: "أَكْيَسُ النَّاسِ وَأَكْرَمُ النَّاسِ أَكْثَرُهُمْ ذِكْرًا لِلْمَوْتِ وَأَشَدُّهُمُ اسْتِعْدَادًا لَهُ، أُولَئِكَ هُمُ الأَكْيَاسُ، ذَهَبُوا بِشَرَفِ الدُّنْيَا وَكَرَامَةِ الآخِرَةِ " الدرس الثاني الذي استفدته من محنتي هو: أن الإنسان ضعيف جدا مهما بلغ. لقد كنت قبيل الذي حصل لي في كامل قواي العقليلة والجسدية وكنت أيضا في كامل أناقتي وحسن هندامي، كما أنني معروف بقدر من الذكاء وسرعة البديهة الشيء الذي يجعلني أجد الحلول للخروج من أزماتي وأزمات الآخرين الذي يطلبون مساعدتي بسرعة ومرونة. لكن، كل هذا لم ينفعني ولم يشفع لي في تفادى الذي أصابني، فلا ذكائي ولا علمي ولا قوتي ولا هندامي ولا سرعة بديهتي استطاع إنقاذي. وصرت عاجزا تماما أمام فجأة وقوة القدر الذي حولني في لمح البصر من رجل في كامل إقباله على الحياة والتمتع بها إلى إنسان ضعيف استحق عطف وشفقة كل من في الحافلة من نساء وأطفال وشيوخ ومرضى وأصحاء! لا أجد كلاما غير كلامك ربي: { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} الأنبياء:87. [email protected] https://www.facebook.com/charif.slimani.9