يعتبر المجلس العلمي الأعلى مؤسسة اجتهادية قائمة بذاتها إلى جانب القضاء من خلال مساهمته في إصدار الفتاوى التي تخص القضايا والنوازل التي تعن في المجال السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي وهذا ما يشير إليه الفصل 41 من دستور 2011: " يرأس الملك، أمير المؤمنين، المجلس العلمي الأعلى، الذي يتولى دراسة القضايا التي يعرضها عليه. ويعتبر المجلس الجهة الوحيدة المؤهلة لإصدار الفتاوى التي تعتمد رسميا، في شأن المسائل المحالة إليه، استنادا إلى مبادئ وأحكام الدين الإسلامي الحنيف، ومقاصده السمحة.تحدد اختصاصات المجلس وتأليفه وكيفيات سيره بظهير."[1]. وقد صدر ظهير شريف يتعلق بإعادة تنظيم المجالس العلمية وتحديد اختصاصاتها في 2 ربيع الأول 1425ه – 22 أبريل 2004م. وقد تضمن هذا الظهير عدة تعديلات منها: إشراك المرأة في تدبير الشأن الديني من خلال الانفتاح على مكونات المجتمع، ثم إشراك شباب الأمة من المرشدين والمرشدات في مهمة التنوير والإرشاد والتوجيه من أجل النهوض بالمجال الديني، وتوعية أفراد المجتمع. وقد تأسس المجلس العلمي الأعلى للحفاظ على خمسة مرتكزات أساسية وثوابت تاريخية تميز المغاربة نذكر منها: تشبتهم بالمذهب المالكي، وتبنيهم للعقيدة الأشعرية، وإمارة المؤمنين، واتباعهم للتصوف السني على طريقة الجنيد السالك.والهدف الأساس منها هو ضمان التماسك الاجتماعي، والأمن والاستقرار السياسي، وتدبير الاختلافات الفقهية والعقدية، وتحقيق الوحدة الدينية. وظائف المجلس العلمي الأعلى 1)- الوظيفة التأطيرية والتنظيمية: تتولى مؤسسة المجلس العلمي الأعلى مهمة الإشراف على التأطير الديني، من خلال الحرص على تكوين المرشدين والمرشدات الذين يقومون بمهمة الوعظ والنصيحة. وقد اعتبر الكاتب العام للمجلس العلمي الأعلى بأن مهمة التأطير الديني هي: "من مشمولات الدعوة إلى الله عز وجل، غايته تقريب الدين إلى عباده وتحبيبه لأنفسهم، وأنه من الفروض الكفائية التي ندب الله عز وجل للقيام بها من توفرت فيهم شروطها، ولا يجوز لغيرهم الإقدام عليها. وقد حدد هذه الشروط في: العلم، الاستقامة، حسن الخلق."[2] وتقوم هذه الهيئة العلمية بتنظيم الشأن الديني من خلال تكوين أئمة المساجد، ومتابعة شؤونهم وتسيير برامجمهم وأنشطتهم الوعظية من أجل أهداف كلية كتعميق المرجعية الدينية في نفوس الأفراد، والحفاظ على الخصوصية المذهبية وتوحيد الاجتهاد الفقهي، وحماية الهوية المغربية من غلواء الانحراف والتبعية للمجتمع الغربي كنتيجة سلبية من إفرازات العولمة. 2)- الوظيفة الاجتهادية للمجلس العلمي الأعلى لقد خصص المجلس العلمي هيئة علمية مكلفة بالإفتاء تتكون من المتخصصين والعلماء بغية الإجابة الآنية عن التساؤلات والقضايا المعاصرة ومن أهم الآليات الاجتهادية التي تتوسل بها هذه اللجنة: أ)- الاستدلال بالكتاب والسنة: القرآن هو مرجعية الاجتهاد، وأساس استنباط الفقيه للحكم المتعلق بكل نازلة تسنح له، وعنه تتفرع كل الآليات الاجتهادية الأخرى. ومن ثم فإن الهيئة العلمية انتهجت منهج التأصيل للقضايا المعاصرة انطلاقا من الكتاب والسنة وكمثال شاهد على اعتمادها هذه الآلية نذكر جواب المجلس على فتوى حول مشروعية إجراء القرعة لأداء فريضة الحج جوابا عن سؤال من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية 02 ربيع الأول 1427ه موافق فاتح أبريل 2006م. فبعد أن أحال المجلس الموضوع على الهيئة العلمية تدارسته فقدمت رأيها للمجلس في دورته العادية الثالثة، المنعقدة بتاريخ فاتح وثاني ربيع الأول 1427ه موافق 31 مارس وفاتح أبريل 2006. وقد استدلت اللجنة على مشروعية القرعة بعدة أدلة من ذلك قوله تعالى:{ وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم}[3] وفيه استدلال بما وقع بين زكرياء وقومه من خلاف حول شرف كفالة مريم، فحسمت القرعة النزاع وكفلها زكرياء بنطق القرآن. وهناك دليل آخر هو قوله تعالى: {وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون، فساهم فكان من المدحضين}[4] حكاية عن نبي الله يونس حين ركب في السفينة فلما توقفت ظن أهلها أن بها مذنبا يجب أن يلقى به في البحر فأجروا القرعة لتخرج على يونس، فألقوه في البحر. ويتمثل استدلالهم بالسنة النبوية فيما أخرجه البخاري: "عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج أقرع بين نسائه فطارت القرعة لعائشة وحفصة... َ"[5]. ب)- الاستدلال بأقوال العلماء: تتوسل لجنة الإفتاء بأقوال العلماء للتدليل على الآراء الاجتهادية في المسألة وإصدار الفتوى فيها وكمثال استشهادي: فتوى حول حكم إمامة المرأة في الصلاة جوابا عن سؤال من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية 28ربيع الثاني 1427ه موافق 26 ماي 2006م. فبعد تدارس النازلة من طرف هيئة الإفتاء انتهت إلى فتوى عدم جواز إمامة المرأة استدلالا بأقوال الفقهاء:" من ذلك قول الشيخ أبي محمد عبد الله ابن أبي زيد القيراني: " ولا تؤم المرأة في فريضة ولا نافلة، لا رجالا ولا نساء". وقول الحافظ ابن عبد البر: " ولا يجوز الائتمام بامرأة.."، وقول الإمام المازري:" لا تصح إمامة المرأة عندنا، وليعد صلاته من صلى وراءها وإن خرج الوقت."[6]. ج)-الاستدلال بما جرى به العمل: تتوسل اللجنة العلمية للإفتاء بعمل أهل المدينة وما جرى به العمل في المذهب المالكي لتبرير الفتوى والأمثلة في هذا الصدد كثيرة وسنسوق كمثال على ذلك " فتوى عدم جواز إمامة المرأة في الصلاة فقد: "اتجه المذهب المالكي في المشهور والراجح الذي به العمل إلى عدم جواز إمامة المرأة، كما يستفاد من أقوال أئمة المذهب من الفقهاء قديما وحديثا."[7] د)-الاستدلال بمقاصد الشريعة: إن أساس قيام الدين واستمراره هو تضمنه لكليات عامة ومقاصد سامية من أجلها شرعت التكاليف والأحكام المرتبطة بالمكلف. وبذلك فقد استندت اللجنة العلمية للإفتاء على عدة مسالك اجتهادية لتبرير قراراتها وفتاويها من ذلك اعتماد مجموعة من القواعد المقاصدية ومثال ذلك: اعتمادها قاعدة سد الذرائع لتعليل فتوى حول اتخاذ سؤال: "خير أمة أخرجت للناس؟" شعارا لمؤسسة تجارية جوابا عن سؤال في الموضوع ورد على وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية 20 رمضان 1427ه موافق 13 أكتوبر 2006م. ومن ثم فقد كان قرار اللجنة هو المنع وتعليل ذلك ب:" سد الذريعة أمام ما يمكن أن يفتحه ذلك الاستعمال من إقدام مؤسسات أخرى على اتخاذ آيات قرآنية عناوين لها أو لمنتوجاتها، مما يتنافى مع قدسية القرآن وحرمته العظيمة عند الله تعالى وعند عامة المسلمين. ومن المقرر شرعا أن دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة إذا كانت المصلحة عامة، فكيف بها إذا كانت خاصة تهم مؤسسة تجارية وفئة معينة...."[8]. وسدا للذريعة أيضا ومراعاة للمآل فقد أفتت اللجنةبعدم جواز استعمال كلمة (sexy) ضمن استخدام تسمية www.sexy.ma جوابا عن سؤال ورد على وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية من الوكالة الوطنية لتقنين المواصلات ANRT 21 شعبان 1428ه موافق 4 شتنبر 2007م. وقد عللت قرارها بأن استخدام تلكم الكلمة يبعث على الانسياق نحو الإخلال بالأخلاق المتأصلة، والآداب العامة الحميدة، وتنافي الثقافة المغربية المتأصلة، وقيمها الدينية الراسخة، كما أنها تثير مكامن الغريزة الجنسية لدى الشباب. ومن ثم فعدم جواز استخدام الكلمة في الأنترنيت: "هو من باب سد الذريعة عند العلماء، وهو قاعدة شرعية معتمدة، ومن أصول المذهب المالكي، وتعني منع استعمال كل وسيلة مشروعة في ذاتها، ويريد مستعملها التوصل بها إلى محرم شرعا.."[9] ه) الاستدلال بالقواعد الفقهية: لقد أصدرت اللجنة العلمية المكلفة بالإفتاء فتوى بجواز إيصاء الإنسان في حياته بالتبرع بقرنية عينيه لفائدة نقلها منه حين وفاته، وزرعها في عين إنسان آخر ليستعيد بها سلامة نظره وعافية بصره جوابا عن استفتاء في الموضوع من " الجمعية المغربية لجراحة قرنية العين والمياه البيضاء وزرع العدسات بالدار البيضاء" 08 رجب 1430ه موافق 01 يوليوز 2009م، وقد استندت في بناء هذا القرار إلى عدة أدلة من ذلك توسلها بالقواعد الفقهية للتعليل وبذلك " تندرج هذه العملية في مبدأ اليسر ورفع الحرج عن الناس في بعض الأمور والأحوال جاء به دين الإسلام، ونص عليه في قول الله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}[10]، وقوله سبحانه: {وما جعل عليكم في الدين من حرج}[11]، كذا في بعض القواعد الفقهية الكلية المتعلقة بأحكام الضرورة ...كقواعد: "الضرورات تبيح المحظورات" (أي الممنوعات)، "والضرورات تقدر بقدرها"، و"الضرر يزال"، و "الأمور بمقاصدها"."[12] و)- آلية المرونة والانفتاح على القضايا المعاصرة: إن فقه الواقع شرط منهجي لحسن تصور النوازل، وترتيب الحكم الشرعي الملائم لها اجتهادا، ومن ثم فقد استندت اللجنة العلمية للإفتاء على هذا القيد المعرفي المؤسس للفتوى التي تتغير بتغير الزمان والمكان مسايرة للمستجدات والمعطيات العلمية والاقتصادية والاجتماعية. والدليل الشاهد على اعتماد على هذه المنهجية إفتاء اللجنة في كثير من القضايا المعاصرة من ذلك الفتوى المتعلقة بالموت الرحيم، أو القتل الرحيم في حالة مولود مريض مرضا لا يرجى برؤه ويقود حتما إلى الموت جوابا عن سؤال من إمام مسجد ليون الكبير بفرنسا 18 جمادى الأولى 1427ه موافق 04 يونيو2007م. وقد أفتت اللجنة بعدم جواز الإقدام على التعجيل بموت المريض المتألم، الميؤوس من علاجه وشفائه، تحت ذريعة ما يسمى بالموت الرحيم لأنه: " مهما طال به المرض، واشتد به الألم، سواء من تلقاء نفسه أو من الطبيب المشرف على مداواته، بقدر ما ينبغي لكل منهما، ويتعين في حقه عمل ما هو مطلوب من وسائل العلاج والتخفيف من شدة الألم ما أمكن، على أن يفوض الأمر بعد ذلك إلى الله تعالى، ويترك بين يديه سبحانه، إذ لا يعلم المرء ما يخفيه له القدر من الشفاء وطول العمر أو قصره، ولله في خلقه شؤون، فكم من صحيح مات من غير علة، وكم من مريض شفاه الله وعاش ردحا من الزمن إلى حين حلول الأجل المحتوم."[13]. كما تدارست اللجنة العلمية مجموعة من القضايا الطارئة المعاصرة كقضية الإرث وطلب المساواة فيها بين الذكر والأنثى، وقضية الطلاق، ومطلب جعله بيد المرأة مثل الرجل. وقضية زواج المسلمة بغير المسلم، وقضية الإجهاض وإسقاط الحمل، كما تطرقت لقضية مهمة هي مسألة حرية المعتقد والدين. والاستنتاجات التي نسطرها بناء على ما سبق: 1)- المجلس العلمي الأعلى هو مؤسسة اجتهادية قائمة بذاتها لها آلياتها المعتبرة شرعا، فيجب الاستفادة من الفتاوى التي يصدرها في العمل القضائي وأن ينسق بين الاجتهادين القضائي والفقهي من أجل استفادة القاضي من تلك الآليات وتوظيفها في النوازل التي تعرض عليه، وفي نفس الوقت إعطاء اجتهادات المجلس العلمي الأعلى صبغة إلزامية تطبيقية وهذا ما يسمى بمأسسة الاجتهاد. 2)- نقترح إضافة لجان أخرى إلى بنية المجلس العلمي الأعلى، إضافة إلى اللجنة الرئيسة المكلفة بالإفتاء واللجان المكلفة بالوعظ والإرشاد، من أجل توسيع الاجتهاد في قضايا تخص مجالات متنوعة (عبادات، معاملات، الأسرة، العادات، المجال الجنائي، المجال الطبي...)، وهذه المبادرة فيها إثبات شمولية الاجتهاد للقضايا المعاصرة. 3)- نقترح أيضا أن تتضمن هذه اللجان متخصصين في مجالات متعددة، وأن توزع العمل بينها على أساس أن تختص كل واحدة بمجال معين من خلال إعمالها لمبدأ الاستشارة. الهوامش: [1]- الدستور الجديد للمملكة المغربية، إعداد: امحمدالفروجي، (سبق ذكره)، ص: 32. [2]- الملتقى الوطني الأول للعالمات والواعظات والمرشدات في 17-18-19 يوليوز 2009 في مدينة الصخيرات، مداخلة: محمد يسف، مجلة عطاء، العدد الأول، ذو القعدة 1432ه- أكتوبر 2011م، المجلس العلمي الأعلى، ، ص: 12. [3]- آل عمران/ الآية : 44. [4]- سورة الصافات، الآيتين 139-140. [5]- صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب: القرعة بين النساء إذا أراد سفرا، رقم: 4913. [6]- فتاوى الهيأة العلمية المكلفة بالإفتاء 2004-2012، المجلس العلمي الأعلى، الطبعة: الأولى، 1433ه -2012، ص: 84. [7]- المرجع نفسه، ص:84. [8]- فتاوى الهيأة العلمية المكلفة بالإفتاء 2004-2012، المجلس العلمي الأعلى ،(سبق ذكره)، ص: 87. [9]- المرجع نفسه، ص: 110-111. [10]- البقرة، الآية: 185 [11]- سورة الحج، الآية: 78. [12]- فتاوى الهيأة العلمية المكلفة بالإفتاء 2004-2012، المجلس العلمي الأعلى، الطبعة: الأولى، 1433ه-2012، ص: 163. [13]- المرجع نفسه، ص: 103. *دكتوراه من دار الحديث الحسنية بالرباط