لا يمكن مقاربة موضوع التطبيع العربي الإسرائيلي اليوم بنفس المنطلقات الفكرية والمبررات السياسية التي كانت بداية الصراع العربي الإسرائيلي مع ظهور المشروع الصهيوني قبل قرن من الزمن، أو عندما تبنى العرب لأول مرة سياسة مقاطعة إسرائيل في جامعة الدول العربية وأسسوا مكتبا خاصا بذلك في بيروت عام 1951، أو انسجاما مع اللاءات الثلاث لقمة الخرطوم 1967 - لا صلح لا اعتراف لا مفاوضات مع إسرائيل- ولا نريد الحكم على التطبيع ومجمل السياسات العربية الراهنة انطلاقا من الواجب القومي والقانوني، إذ ضاعت فلسطين بسبب هزيمة العرب في حروبهم مع إسرائيل؛ حرب 1948 أضاعت ثلثي فلسطين، وحرب 1967 أضاعت البقية؛ ولا انطلاقا من الواجب الديني، حيث القدس ليست مقدسة بالنسبة للفلسطينيين فقط. كما لا يمكن تبرير التطبيع اليوم بأن إسرائيل تغيرت ولم تعد دولة احتلال وعدوان . عودة الحديث عن التطبيع اليوم تتويج لمتغيرات كثيرة جرت في الجانب العربي والفلسطيني وشكلت اختراقا متدرجا لطبيعة الصراع ومنطلقاته الأولى، كما أنه يندرج في إطار الصفقة الكبرى التي تُعِد لها الإدارة الأمريكية؛ فقد ولى الزمن حيث كان مجرد أن يتصل أو يجلس مسئول فلسطيني أو عربي مع أي إسرائيلي، حتى وإن كان معارضا للصهيونية، يتعرض للإدانة بل وللقتل كما جرى في الحالة الفلسطينية مع عصام السرطاوي وسعيد حمامي وغيرهم، وعربيا عندما تم اغتيال السادات على خلفية توقيعه اتفاقية كامب ديفيد. كانت اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل 1978 منعطفا في تغيير طبيعة الصراع، وأنه لم يعد صراعا عربيا إسرائيليا، وكانت أول اختراق رسمي لمبدأ تحريم التطبيع. صحيح أنه كان تطبيعا رسميا ولم يجد تجاوبا شعبيا، إذ استمر الشعب المصري يرفض التطبيع مع الكيان الصهيوني على كافة المستويات باستثناء حالات منفردة، إلا أن اتفاقية كامب ديفيد كسرت المحرمات السياسية القومية ومهدت الطريق رسميا أمام فكر التسوية السياسية وإمكانية التعايش بين إسرائيل والعرب، وهذا ما جرى عندما طرحت العربية السعودية بعد ثلاث سنوات ما سُميت مبادرة فهد في قمة فاس بالمغرب 1981/1982. وبعد عقد من الزمن كان مؤتمر مدريد، ثم توقيع اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل سنة 1993 واتفاقية وادي عربة بين الأردن وإسرائيل سنة 1994 . صحيح أن هذه الاتفاقات لم تحقق السلام ولم تؤثر على سياسة إسرائيل، بل وظفت هذه الأخيرة كل ذلك لتكثف من سياساتها الاستيطانية وتزداد تطرفا وعدوانا، ولكن الاتفاقات أدت إلى حالة من اللا حرب واللا سلم، وهي حالة ملتبسة، بحيث يمكن تجاوزها وكسرها، وهذا ما جرى، إما بحروب أو صدامات موضعية وجزئية، ليس في إطار "الصراع العربي الإسرائيلي"، بل في إطار صدامات أو حروب بين إسرائيل وبعض الأطراف العربية كلِّ على حدة: سوريا، عراق صدام حسين، حزب الله، الفلسطينيون أو بعض أحزابهم، أو تجاوزها وكسرها من خلال التطبيع الرسمي وحتى الشعبي وعلاقات اقتصادية وأمنية . يبدو أن الأمور في السنوات القليلة الماضية تجاوزت مرحلة الصراع العربي الإسرائيلي، ومرحلة اللا حرب واللا سلم، ليس بالخروج من حالة اللا حرب إلى حالة الحرب أو الخروج من حالة اللا سلم إلى حالة السلم والتطبيع المُعلن، بل نحو حالة جديدة، حيث إن الأمور تتجه نحو التنسيق والتعاون الأمني والعسكري بين بعض الدول العربية، وخصوصا الخليجية، وإسرائيل. وقد تكشف الأيام القليلة القادمة حلفا مشتركا سيغير جذريا من طبيعة الصراع في المنطقة وأطرافه ويضع حدا للصراع العربي الإسرائيلي، وذلك في إطار ما يسمى الصفقة الكبرى التي تروج لها الإدارة الأمريكية . بكل صراحة نقول إن الفلسطينيين ومعهم الشعوب العربية المؤيدة والمتعاطفة مع عدالة القضية الفلسطينية يحذرون من خطورة التطبيع ليس فقط على القضية الفلسطينية بل على الأمة العربية نفسها، إلا أنهم لا يستطيعون منع الأنظمة العربية من التطبيع مع إسرائيل أو المشاركة في أحلاف وتحالفات عسكرية أو أمنية حتى وإن كانت إسرائيل طرفا فيها. لكن ما نتمناه ألا يكون هذا التوجه العربي على حساب الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وخصوصا حقه في إنهاء الاحتلال وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة، وهي الحقوق التي تعترف بها الشرعية الدولية . نعم، فلتُطَبِع الأنظمة العربية إن شاءت سواء انصياعا لقناعات سياسية أو بحثا عن مصالح كما قال نائب رئيس الوزراء السوداني مبارك الفاضل المهدي عندما صرح لصحيفة الشرق الأوسط (3/12/2017) بأن «مصالح السودان لا تتعارض مع التطبيع مع إسرائيل»، أو خضوعا لمطالب أمريكية. لكن نرجو أن لا يتم تدفيع الفلسطينيين ثمن التطبيع من خلال إجبار قيادتهم على الخضوع والقبول بصفقة القرن التي تشطب حق عودة اللاجئين وتعتبر القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل وتتلاعب بجغرافيا الدولة الفلسطينية على كامل أراضي الضفة وقطاع غزة. والأخطر من ذلك أن تتم التهيئة النفسية للتطبيع من خلال شيطنة الفلسطينيين والتشكيك بعدالة قضيتهم بل والتشهير بهم أخلاقيا وسياسيا وبتاريخهم النضالي، وهذا ما نلاحظه في الفترة الأخيرة من خلال السماح لبعض الأبواق الإعلامية العربية بترويج أخبار ومعلومات سيئة وكاذبة عن الفلسطينيين . [email protected]