منذ بداية تاريخ السجون بالمغرب شكلت "القفة"، أو المؤونة، التي تجلبها أسر المعتقلين مصدر تواصل وحنين مباشر بين السجين وعائلته، بفضل الأطعمة التي تحمل رائحة الأم والبيت والأشواق إلى داخل الزنزانة، إلا أنها شكلت بعد تحريف بعدها الإنساني مصدرا رئيسيا لإدخال جميع أنواع الممنوعات، الأمر الذي دفع المندوبية العامة لإدارة السجون يوم 30 أكتوبر الماضي إلى تعميم قرار منع إدخال قُفف المؤونة على كافة المؤسسات السجنية. والدة أحد نزلاء السجن المحلي الرماني حديث البناء، وعلى غير عادتها، لم تصطحب معها هذه المرة "قفتها" وهي قادمة من مدينة سلا إلى مدينة الرماني التي تبعد عن العاصمة الرباط بحوالي 80 كيلومترا. "مي زهرة" ترى أن قرار منع "القفة" كان صائباً، وخفف الكثير من الأعباء على العائلات، كما سهل عملية الولوج إلى السجن. آراء العائلات تقول "مي زهرة" في حديثها لهسبريس: "في فترة القفة كنا ننتظر كثيرا أمام باب سجن الرماني حتى ينتهي الحراس من تفتيش المؤونة، وحتى الأكل الذي كنت أحمله معي من مدينة سلا في كثير من الزيارات كان كيخْسرْ ويْتقْلبْ لي في الطريق مع المركوب. ولكن اليوم الحمد لله كنجيبو معنا الفلوس وكنشريو كلشي من داخل السجن والإدارة كتوصلو لعند ولدي، وحتى الأثمنة بحال ديال السوق". وفي الوقت الذي عبرت فيه بعض عائلات النزلاء بسجن "عكاشة" عن ارتفاع أثمان المواد الغذائية داخل مقتصديات المؤسسة مقارنة مع أثمنة السوق، تنفي المندوبية صحة ذلك وتؤكد أن الأسعار مضبوطة وتخضع للتغيير حسب السوق. ومن خلال جولة في محل بيع الخضر والفواكه داخل سجن الرماني، يوم الجمعة الماضي، تبين أن سعر الموز للكيلوغرام الواحد يساوي 12 درهما، والليمون بالثمن نفسه، والخيار ب6.50 درهما، والطماطم والبصل ب5.50 درهما. وبالنسبة لوالد أحد السجناء بالمؤسسة ذاتها، فإن خبر منع القفة تلقته العائلة في البداية بشكل صادم، لأن المؤونة تساعد في تلبية شهوات السجين ولو مرة واحدة في الأسبوع، إلا أنه أكد في تصريح لهسبريس أنه مع الزيارة الثالثة بعد المنع، ظهر أن القرار يحمل في طياته الكثير من المحاسن، خصوصا على مستوى تخفيف التعب الذي يثقل كاهن الأسر مع بُعد المسافات. الفكرة لقيت أيضا ترحيبا من ناحية السلامة الصحية؛ حيث أشار المتحدث ذاته إلى أن مقتنيات كثيرة كانت تصل إلى ابنه فاسدة خلال فترة الصيف التي تشهد ارتفاعا مهولا في درجات الحرارة، من قبيل الحليب ومشتقاته والعصائر وبعض الأطعمة التي تتطلب درجات حرارة محددة للحفاظ على جودتها. "من قبل كنا نقوم بعملية تسوق عشوائية لملء القفة، بينما الآن تُمكننا إدارة السجن في البداية من الجلوس مع السجين لتحديد المواد التي يريدها، أي إنه يختار بنفسه؛ وهذا أمر جيد لم يكن معهودا في السابق"، يقول الرجل وهو يتجاذب أطراف الحديث مع ابنه في البهو المخصص للزيارة. لكنه اعتبر أن أهم ما صاحب قرار منع القفة هو تراجع نسبة المخدرات والممنوعات بصفة عامة، حسب ما صرح به له عدد من سجناء الرماني. قرارات موازية تخوفات الأسر من قرار منع القفة هذا، تجيب عنها "إدارة التامك" من خلال اتخاذها لعدة إجراءات مصاحبة تدخل في إطار إعادة تدبير شؤون المؤسسات السجنية؛ أولها تفويت تغذية السجناء إلى شركة خاصة شهيرة يعهد إليها بتحضير وجبات جيدة كما وكيفا، مع رفع الحصة اليومية لكل سجين من الأغذية من 12 درهما إلى 21 درهماً. وبحسب المسؤول عن المطبخ بسجن الرماني (شاف كويزيني)، فإن الوجبات المقدمة داخل المؤسسة تتميز بغنى محتوياتها، وتستجيب لمعايير السلامة الصحية المحددة وفق اتفاق مسبق مع وزارة الصحة. ويبدو أن تفويت الإطعام لشركة خاصة ساعد في تحسين الوضع في مطبخ السجن من حيث النظافة وجودة الأطباق، حسب المعطيات التي وقفنا عليها من عين المكان، إلا أن بعض السجناء يرون في تصريحات مغايرة أن لا شيء يمكن أن يعوض القفة مهما تطور أكل السجون، وقال أحدهم: "السجن لا يوفر جميع المواد الموجودة خارجه، ومعظم النزلاء ينتمون لأسر معوزة ومحدودة الدخل؛ لذلك على إدارة السجون أن تخفض من أسعار المواد إلى مستويات قياسية". في المقابل، يرى أبو بكر القرش، مدير السجن المحلي بالرماني، أن قرار منع القفة يرتبط بشقين أساسيين هما: أولا، البعد الاجتماعي الذي يراعي وضعية الأسر الهشة التي لا تتوفر على إمكانيات مادية لجلب القُفف مرة كل أسبوع، والشق الثاني يتعلق بالبعد الأمني الذي يهدف إلى الحد من نسبة إدخال الممنوعات إلى الفضاءات السجنية. وعن مدى استجابة العائلات والنزلاء لهذا الأمر، أوضح مدير السجن في تصريح لهسبريس أن المنع جاء بشكل تدريجي انطلاقا من تحسيس السجناء وأسرهم خلال فترة الزيارة الأسبوعية، وقال: "الجميع تفهم أن العملية في صالح المؤسسة السجنية، ولم تكن هنالك أية ردود فعل سلبية". ولفت المسؤول ذاته إلى أن الوجبات التي تقدمها الشركة المكلفة تراعي أيضا الحالات المرضية، من قبيل المصابين بداء السكري، حيث يتم تخصيص نظام خاص بالحمية ويجري تحضير الوجبات التي تناسب هؤلاء وفقا لتعليمات طبية دقيقة. الممنوعات.. بالأرقام أرقام المندوبية تسجل وجود حوالي مليون زيارة للسجناء من طرف ذويهم وأقربائهم، كما كانوا يتوصلون بقفف يقدر مجموعها سنويا بحوالي مليوني قفة، رغم أن المؤونة ليست في إطار الالتزام وفق قانون السجون بالمغرب. وبحسب المعطيات التي حصلت عليها هسبريس، فإن حالات ضبط الممنوعات من خلال الإحصاء نصف السنوي عن سنة 2017، تكشف أنه تم ضبط مجموعة من أنواع المخدرات، منها بالخصوص مخدر الشيرا؛ إذ وصل العدد المضبوط حوالي 1196 حالة، وتصدرت جهة الدارالبيضاء-سطات الرتبة الأولى ب444 حالة، متبوعة بجهة الرباطسلاالقنيطرة بحوالي 257 حالة، في حين سجلت أقل نسبة بجهة ذرعة تافيلالت. بالإضافة إلى ضبط ما مجموعه 4424 هاتفا نقالاً بالمؤسسات السجنية خلال الفترة نفسها، و266 حالة ضبط لأدوات خطيرة (أدوات حادة، سكاكين...). رحمة بالجميع وعلى لسان مولاي إدريس أكلمام، مدير سلامة السجناء والأشخاص والمباني والمنشآت المخصصة للسجون، تعتبر مندوبية السجون أن قرار منع القفة بديهي أن تواجهه في البداية بعض الصعوبات، خصوصا وأنها عادة استمرت منذ بداية تاريخ السجون. وقال أكلمام في تصريح لهسبريس: "نحن في بداية تطبيق القرار وهناك متابعة عن كثب، ويبقى الهدف الأساسي بالنسبة إلينا هو تحسين نوعية الوجبات. الآن انتقلنا من طريقة تقليدية كان فيها السجناء يقومون بإعداد الوجبات تحت إشراف الموظفين إلى مرحلة إسناد هذه العملية إلى شركة متخصصة ومتمرسة في هذا المجال". وخلص المسؤول المركزي بالرباط إلى أن القرار يأتي رحمة بالأسر والسجناء والموظفين، وأن المندوبية تواكب تنفيذ عدة تدابير على مستوى تأهيل المطابخ بالسجون وتجهيزها، "مما مكن من تحسين الوجبات المقدمة للسجناء كما وكيفا، وضمان توزيعها في ظروف صحية ملائمة".