على حين غرة من المنتظم الدولي، وبشكل متوازي يوحي بتنسيق مسبق، قررت كل من حكومة كتالونيا بالمملكة الإسبانية، وإقليم كردستان بالجمهورية العراقية، التمرد على الحكومة المركزية، وتنظيم استفتاء أحادي الجانب قصد الانفصال بشكل نهائي عن الدولة الأم. في الجارة الشمالية، أكدت الحكومة الإسبانية حقها الكامل والمطلق في اتخاذ كافة الإجراءات بهدف الحفاظ على الوحدة الوطنية والسيادة على كامل التراب الإسباني. وبالفعل، فقد عملت بكل الوسائل المتاحة، الديمقراطية منها واللاديمقراطية، من أجل منع تنظيم الاستفتاء. وحتى عندما وصل قادة كتالونيا إلى خط اللاعودة في تفعيل الاستفتاء، قلبت الحكومة المركزية الطاولة على الانفصاليين، وقامت بتفعيل الدستور الإسباني، معلنة إجراء انتخابات مبكرة، فأصبح قادة الأمس مجرد أشخاص مطلوبين للعدالة في قضايا جنائية. في الدولة الشقيقة العراق، واستنادا إلى معطيات التاريخ وتعقيدات الحاضر، لم تفكر الحكومة المركزية كثيرا في طريقة الرد، فقد تبنت لغة الحديد والنار في وأد حلم قادة كردستان في الاستقلال. فالجيش العراقي يحارب منذ سنوات طويلة، وعلى جبهات كثيرة، ولن يضيره فتح جبهة جديدة. كما أن الأمن القومي للعراق محاط بمخاطر جمة، ربما ستزداد الأوضاع تعقيدا إذا ما نجح مشروع الانفصال، أو على الأقل إذا ما وصل إلى مراحل متقدمة. وكما في النموذج الإسباني، فقد "الشعب الكردي" رئيسه، وفقد جزءا كبيرا من موارده المالية والنفطية، كما أعاد ما يعتبره حقا في الانفصال سنوات كثيرة للوراء. المجتمع الدولي يتصدى بحزم لحركات الانفصال بالموازاة مع التدابير الوقائية والزجرية التي أقدمت عليها كل من اسبانياوالعراق، كان تحرك المنتظم الدولي للوقوف في وجه حركات الانفصال أكثر حزما وجدية. ونكاد نجزم بأن المواقف القوية التي عبرت عنها الدول الإقليمية والدولية كانت الفيصل في نجاح الدول المعنية في إقبار مشروعي الانفصال. وبدا وكأن المنتظم الدولي قد وزع الأدوار بين مكوناته في ما يتعلق بمجابهة الحركتين الانفصاليتين. في أوربوا، سارع الإتحاد الأوربي إلى إعلان تضامنه المطلق مع إسبانيا، فقد أعلن الاتحاد أن "استفتاء الاستقلال الذي أجراه إقليم كتالونيا ليس قانونيا بحسب الدستور الإسباني"، وأكد المتحدث باسم الاتحاد أن ما حدث في كتالونيا "قضية داخلية يجب أن تحل حسب الدستور الإسباني"، مشيرا إلى أن هذا "وقت الوحدة والحوار وليس وقت تعاطي العنف". أما الولاياتالمتحدةالأمريكية، فقد أكدت أن "كتالونيا جزء لا يتجزأ من إسبانيا"، كما أنها تدعم "إجراءات الحكومة الإسبانية الدستورية للحفاظ على إسبانيا قوية وموحدة". ألمانيا الاتحادية، أكدت من جهتها أنها "لا تعترف بالإعلان الأحادي من قبل برلمان كتالونيا للاستقلال عن إسبانيا". فيما أكدت المملكة المتحدة أنها "لا تعترف ولن تعترف بإعلان الاستقلال الأحادي من برلمان كتالونيا الذي اعتمد استفتاء قضت المحاكم الإسبانية بعدم شرعيته". من جانبه، أعرب الرئيس إيمانويل ماكرون عن "دعم فرنسا الكامل للدولة الإسبانية في فرض سيادة القانون". في منطقة الشرق الأوسط، وبالموازاة مع إعلان واشنطن صراحة معارضتها الشديدة لإجراءات الانفصال، كانت مواقف الجيران العقلاء والحكماء أكثر حدة، فهم يدركون أن نجاح مشروع الانفصال في العراق سيكون الحلقة الأولى في انتشار النعرة الانفصالية بالدول المجاورة؛ ولذلك فقد سارعت إلى إعلان رفضها المطلق لنتائج الاستفتاء، بل أكثر من ذلك، فقد أصدر العراق وإيران وتركيا بياناً مشتركاً ينص على اتخاذ "إجراءات مضادة" ضد إقليم كردستان العراق إذا ما مضى قدما في إجراء الاستفتاء على الاستقلال. مبدأ حق الشعبين الكردي والكتالوني في تقرير المصير: لماذا خرست أبواق النظام الجزائري؟ في الوقت الذي كان فيه العالم المتحضر يقف في وجه الانفصال، ويعبر عن مواقفه المبدئية في شأن ذلك، كان النظام الجزائري غائبا بالمطلق عن التفاعل مع الأحداث، وهو الذي ظل ردحا من الزمن يتشدق من داخل المنظمات الدولية بدعم الجزائر لما يطلق عليه بحق الشعوب في تقرير مصيرها. وبشكل مفاجئ، أكد قادة الجزائر دعمهم لوحدة العراق، ورفضهم استقلال إقليم كردستان، كما أعلنوا رفضهم للإعلان أحادي الجانب من قبل برلمان إقليم كتالونيا بالانفصال، مؤكدين "قدرة الشعب والسلطات الإسبانية على تجاوز الوضع والأزمة الحالية، في إطار احترام دستور مملكة إسبانيا ومؤسساتها الديمقراطية". من خلال تحليل البيان الصادر عن الخارجية الجزائرية، تستوقفنا الملاحظتان التاليتان. الأولى تتعلق بتوقيت صدور البيان. فبعد مرور أكثر من شهر على تنظيم الاستفتاء، بكل من كردستان وبعده كتالونيا، ظلت الجزائر خارج السياق الدولي، وربما كان الصراع الخفي الذي يدور داخل دواليب الحكم هو الذي عطل التفاعل السريع مع الأحداث، خاصة بين من كان ينادي برفض الاستقلال جملة وتفصيلا، وبين من ينادي بموقف وسط يحترم تطلعات الشعبين نحو الانفصال، من أجل الحفاظ على ماء وجه النظام الجزائري. الملاحظة الثانية تتعلق بمضمون البيان ذاته الذي أسقط القناع بالفعل عن وجه النظام الجزائري، وضرب بعرض الحائط "شعارات الثورة" ومقتضيات "الدستور الجزائري" الذي ينص في الفصل 30 منه على أن "الجزائر متضامنة مع جميع الشّعوب التي تكافح من أجل التّحرّر السّياسيّ والاقتصاديّ، والحقّ في تقرير المصير، وضدّ كلّ تمييز عنصريّ". فلماذا اضطر قادة النظام الجزائري إلى انتهاك القانون الأسمى للدولة الجزائرية؟ هل هو الخوف من إجراءات عقابية؟ أم إن الشعبين الكردي والكتالوني لا يستحقان التمتع بهذا الحق، رغم أم الشعب الكردي أقدم بكثير من الدولة نفسها. مستقبل النزاع حول الصحراء المغربية بعد فشل الانفصال بالعراق وإسبانيا في الوقت الذي كان فيه الملك محمد السادس يستقبل المبعوث الجديد للصحراء، كانت الأخبار تتوارد تباعا حول تطورات الأوضاع في كتالونيا وكردستان العراق، وكان العنوان الأبرز هو عدم قانونية الاستفتاءين، وفشلهما الذريع في تحقيق الانفصال. فهل سيلتقط المبعوث الجديد، ومن خلاله الأمين العام للأمم المتحدة، الرسالة جيدا؟ ولماذا كان المجتمع الدولي، أكثر وضوحا وبراغماتية، في تعامله مع الحركات الانفصالية بالعراق وإسبانيا، وهو الذي ظلت مواقفه غامضة ومتذبذبة فيما يتعلق بحق المغرب في ضمان وحدته الترابية؟ يبدو أن المقاربة المعتدلة التي نهجها المغرب منذ افتعال مشكل الصحراء كانت السبب الرئيسي في غياب تصور واضح، وإرادة حقيقية للمجتمع الدولي، في إيجاد حل سريع ودائم لهذا المشكل. المقاربة ذاتها هي التي أعطت للجزائر مجالا أكبر للمناورة لإزعاج المملكة والتشويش عليها داخل أورقة الأممالمتحدة. هناك ثلاثة دروس رئيسة يمكن استخلاصها من أحداث إقليمي كردستان وكتالونيا. الدرس الأول، أن الحق في الوحدة الترابية والتصدي للحركات الانفصالية مكسب لا يستجدى من المجتمع الدولي، بل ينتزع انتزاعا. فعندما وقف هذا الأخير مع كل من العراق وإسبانيا ضد الانفصال، فالسبب لم يكن عداؤه لقادة الانفصال وشعبيهما، بل كان السبب الحقيقي أن الدولتين المعنيتين تملكان من النفوذ الإقليمي، ومن الشراكات الإستراتيجية، والقوة الدبلوماسية، ما مكنهما من توفير غطاء دولي لكافة التدابير المتخذة لمجابهة الانفصال، الدبلوماسية منها العسكرية، وذلك دون أن يتجرأ طرف ما على رفع شعارات حقوق الإنسان والديمقراطية. الدرس الثاني، أن مخطط الحكم الذاتي، وفق الصيغة الحالية التي يقترحها المغرب لحل مشكل الصحراء، ينطوي على خطورة كبيرة، في حال إذا ما تم اعتماده بالفعل، خاصة في ظل التحولات الإقليمية التي تعرفها المنطقة، وكذا حالة السعار الشديدة التي أصابت النظام الجزائري جراء تغلغل النفوذ المغربي داخل القارة الإفريقية، حيث سيسعى جاهدا، وبكل الوسائل الممكنة، إلى جعل الحكم الذاتي داخل الصحراء مجرد نقطة عبور نحو الانفصال. الدرس الثالث الذي يمكن استخلاصه يتعلق بالتدبير الداخلي لمشكل الصحراء، أعتقد أن المقاربة الأخيرة التي اعتمدتها إسبانيا في التصدي للانفصال قد تكون ناجعة إذا ما تم تبنيها وتفعيلها من طرف السلطات المغربية. فقد آن الأوان، لوضع حد للتساهل، مع من يعتبرون أنفسهم "انفصاليو الداخل"، وفق ما تقتضيه النصوص المعمول بها. ومن جهة أخرى، أعتقد أن توحيد المقاربات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بين جميع جهات المملكة، من شأنه القضاء على الفكر الانفصالي داخل بعض العقول، وتقوية روح المواطنة لدى كل النفوس، وهو ما قد يشكل إحدى الدعائم القوية نحو الطي النهائي لمشكل الصحراء. *أستاذ بجامعة القاضي عياض مراكش | [email protected]