لا يتمكن السياسي من دحض نظرية الإفلاس، دون مراجعة منه لا تستنني عناصر الإفلاس وبواطنها وخباياها ودواعيها الذاتية والموضوعية؛ فليس حقيقا بهذا الإفلاس أن يكون مكابدة للتجني، أو مراوغة دونكيشوطية لتكميم الفراغ العقلي والسيكولوجي الذي يعانيه السياسي، بما هو صراع واغتصاب للسلطة. عندما يتحدث السياسي لا بد من وجود ما يدعوه إلى ذلك. وعندما يبلغ رشد الادعاء بوجود ما يتحدث عنه، فاعلم أن دمارا بطيئا يلاحقه، وشنارا يصطليه، وهو عن ذلك مناكف غوغائي، ومقامر بكل محيطه، وإن تطلب الأمر نصب الفخاخ وتأليب الطالح على الصالح والقابض على الفارغ. واقعية العمل السياسي في بلادنا يصح عليها هذا التقديم، وتزيد عليه بما يسع تمظهرات الشد والجدب التي تستحوذ على كل أشكال التمويه والاختراق والغرق القيمي. سياسيون أبديون مستنفدون يعمهون في الدعارة السياسية وبيع الأحلام واستعارة المستقبل بغيمات سوداء، يبلغون السطوة والسيطرة الجانحة، يجترون أساليب الشيطنة والادعاء الباطل ونفث السموم، وهم إلى هذا وذاك لا يزالون يقيمون متاريس ضدا على الأخلاق والقوانين والدستور. يتربصون بمدخرات الوطن ويجتزؤون غلالة التحيز إلى مصالحهم، غير عابئين بالتغيير ونظريات الثورة وهموم الشعب. لن يتمكن الزلزال السياسي من تحييدهم عن ماخور الريع والإفلاس. ولا تستطيع حتى البراكين على ردم الهوة بينهم وعالم الدجل والغش الذي يرتعون فيه؛ لأن تجذرهم في التربة بلغ شأوا غير مسبوق، ولم يعد للكي أن يخرق حجب تماهيهم وإجحافهم. لا يملك الوطن غير الغربلة وإعادة البناء وإحداث القطيعة وتحويل قدرة التغيير من فائض إلى قيمة، ومن بديل استثنائي إلى حل دائم. الحل الديمقراطي يستوعب جوهر الاختلالات وعمقها السوسيولوجي. والإسراع ببتر الأعضاء الفاسدة بداية الطريق. ولا يمكن تطويع هذه الأبعاد بافتراضات زمنية وانتقالات مرحلية. الأمر يحتاج إلى عزيمة وإرادة سياسية ذات رؤية استراتيجية فعالة ومؤثرة. وما عدا ذلك فهو ذر للرماد في العيون، وإلهاء لا يقدر ثمن الحاضر والمستقبل، وانتظارية قاتلة ملت من ترداد أسطواناتها جحافل الغاضبين من أبناء هذا الوطن العزيز. ألم تكن للقرار الملكي الأخير الذي أقال فيه أربعة وزراء وكبار موظفي الدولة جذور وامتدادات، حتى نتمنطق جديدا بآمال وأحلام عن نفاد القدر وتدبره اليقظ؟ كانت قبل أحداث الحسيمة ومنطقة الريف صولات وجولات في اليأس والقنوط، ومرائي أخرى كثيرة في تراجع مظاهر الديمقراطية وحقوق الشعب، وفي اختفاء دلالات الكرامة والعيش الكريم والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات. تمترس المخزن القديم في كل حقول السياسة والاقتصاد ومصالح الأمة، واستنزف مقدرات الدولة ومكتسباتها، وجعل خدامها وعبيد الإقطاعية والإمبريالية المتوحشة في طليعة المستفيدين من الريع والفساد المالي والسرقة والنهب. كيف لا يعم الفساد وتنتهي هيبة الدولة وهؤلاء القلة الناهبة تستولي على كل شيء، من البر والبحر إلى ما تحت الأرض وما فوقها؟ لا يمكن أن تفعل عشرات القرارات المزلزلة ما تفعله الدساتير الديمقراطية، التي تجعل من سمو القانون واستقلال القضاء، ونفادهما على الصغير والكبير، الأمير والغفير، الغني والفقير، قاطعة للفساد وقاضية على رموزه ودهاقنته. الحصيلة المزلزلة في واقعنا ستكون محدودة ومتداعية، ولن تصل إلى الحد الذي تختفي فيه مظاهر الفساد وتآمر الواقفين عليه وعلى صيانته، إلى الشأن الذي يكرس الإصلاح الجذري والتحول الناهض بشؤون المواطنين، الذين ينشغلون تحت وقع صدمات اجتماعية واقتصادية خانقة بمستقبل بلادهم، ومآلات أبنائهم في الصحة والتعليم والشغل والسكن.. إلخ. أليس قمينا بالقرار أن يتبعه التزام مبرم بواقع التشخيص، الذي انبنى أفقيا على مبدأ التعليمات، وليس انتقالا للعدالة المحققة؟ ، إذ المفترض في مثل هذه الحالات إحالة المتهمين إلى الأجهزة القضائية وإعمال القوانين الجاري بها العمل وتنزيل الدستور. سبق أن كتبت عن الفهم المقلوب للإصلاح وعن حتمية العودة إلى التاريخ باعتباره مفهوما متحركا وكلية حضارية، من أجل التأسيس لقيم التغيير والمواجهة. لا يعقل أن نظل في صلب التراتبية التقليدية في واقع تحكمي لا يقوم على تميز حقيقي لما هو عقلي واستباقي، صاعد للتأثير على التوجهات الكبرى، لطريقة الحكم واختيارات المرحلة. هناك زمن سياسي وتخلف بشري لا يتصل مطلقا بمبادئ التنمية وقيم تداولها. وهناك آليات كلاسية عتيقة لا تصلح لتدبير الاختلاف وتنويع الارتباط بما يسميه المفكر نبيل علي، خبير التنمية المصري، ب"التفكير الخلاق"، الذي أضحى شعار عصر المعلومات ومجتمع المعرفة. لا يمكن بناء هذا التجسير لقوة النكوص والارتداد دون تأطير اندماجي لخطط واستراتيجيات دقيقة ومفصلة، عن تحديد الخروج من المتاهة إياها، وتقديم ما يؤسس لهوية وطنية دائمة الاتصال بحياتنا العلمية والعملية، ثقافتنا المتعددة، نظرتنا الجديدة لتشكيل واقعنا المغربي المتشرذم والمنفلت بحكم تهرم وانخرام قدراتنا في صناعة الأمل والإنسان. *[email protected] * https://www.facebook.com/ghalmane.mustapha