النقاش الساخن الذي أطلقه الحراك الشبابي والشعبي في المغرب منذ ستة أشهر، وما عرفه المشهد المحلي من تدافع سياسي وإيديولوجي ومن مطالب دستورية وسياسية كبيرة، وعلى رأسها تحقيق تغيير حقيقي وإقرار الديمقراطية وسلطة الشعب وإسقاط الفساد والاستبداد بجميع أشكاله، وما أفرزه ذلك من مستجدات عديدة على رأسها تعديل الوثيقة الدستورية... كل ذلك شرعت الأحزاب في اختزاله خلال الأسابيع الأخيرة إلى معارك صغيرة لتصفية حساباتها القديمة وتجديد صراعاتها الانتهازية حول نتائج الانتخابات القادمة، والتردي بالنقاش إلى مجرد خلافات تقنية وفئوية حول العتبات واللوائح والفئات والتقطيعات... بشكل ينضح بعلامات الصراع السياسوي والسعي إلى استغلال الحراك السياسي والشعبي دون وعي تاريخي بسياق التغيير وبالمطب المغربي الحتيت والمستعجل. فها نحن نتابع مجددا كيف تتجه تلك الأحزاب والنخب المهترئة والفئات المسؤولة عن الأوضاع القائمة إلى الإبقاء على مواقعها وعلى صورتها والاطمئنان على أدوارها ونصيبها سالمة غانمة، وذلك في استعداد تام للاستمرار في اللعبة وكأن شيئا لم يقع: كأنما لم تثر الشعوب ولم تسقط أنظمة ولم ينادي المغاربة بالتغيير وإسقاط الفساد، لم يخرجوا للاحتجاج مطالبين بالقطع مع الماضي وصانعيه ومدبريه وحكوماته الشكلية ومعارضاته المتواطئة، ولا بتخليق اللعبة وتجديد الدماء والوجوه ؟! وجل الأحزاب السياسية تهرع هذه الأيام للملمة لجن الترشيحات والتزكيات وتلفيق البرامج وملئ الرغبات وأشياء أخرى، وقدماء وأعيان التنظيمات والمجالس الجماعية والإقليمية والجهوية والبرلمانية يعظون بالنواجذ على كراسيها ومواقعها في اللوائح والدوائر ويقودون مفاوضات الامتيازات وتوزيع الأدوار، ونساء الكوطا لا تغمض لهن الجفون ولعابهن تسيل على الأربع والسبعين مقعدا، وشبيبات بعض الأحزاب المنهكة تستجدي شيوخها وتؤثث المشهد زاعمة أنها تمثل شباب التغيير والاحتجاج الذي ليس بينها وبينه إلا الخير والعدل والإحسان! ولعل من أغرب تداعيات الحمى السياسوية هذه تواتر الخرجات المثيرة لأحد الأحزاب الذي يرتجف في مسعى طريف لتحديد نتائج الاقتراع مسبقا والفوز بالانتخابات المقبلة حتى قبل خوضها وحلول موعدها. وبشكل لا يخفي خطاب الابتزاز، لا ينفك يتهدد ويتوعد بالالتحاق بصفوف حركة الاحتجاج وشباب التغيير الذي سبق أن وصفهم أمينه العام بأقدح الأوصاف، والتنطع بإحراق الأخضر واليابس إذا لم تكون نتيجة الاقتراع في صالحه! ينضاف إلى ذلك كون المعطيات الواردة من مقرات "الكائنات الانتخابية"، تفيد بأن جلها ستعيد ترشيح نفس الأسماء الرجالية والنسائية المألوفة والشائخة بدعوى التجربة والتمكن من أصول الحرفة، أي امتلاك المؤهلات والسير الذاتية المعروفة، وقد تضاف بعض الوجوه تحت مسمى "الشباب" وهي في عقدها الخامس أو السادس. وفي غياب التغيير الفعلي والحزم في مراقبة جودة المعروض من السلع وزجر لوائح الأسعار وطرق الصرف والبيع والشراء وحملات الوعظ والتهريب الديني خلال المهرجان الانتخابي القادم، ستكون الفاتورة باهظة والخسارة كبيرة. ولعل الخاسر الأكبر سيكون هو الديمقراطية وقوى التغيير التواقة إلى القطع مع إجراءات الترقيع والانتقال المعطوب، وولوج فضاء مغرب جديد بمؤسسات دستورية فعالة تحظى بثقة ومصداقية المواطنين والمواطنات، وقادرة على تصريف اختياراتهم السياسية وترجمة حلمهم في التغيير إلى واقع حي وشاهد على نفسه دون تبريرات واهية ولا مشاهد مؤلمة ومحبطة، وإلى ممارسة سياسية وثقافية ملموسة وذات معنى. دون ذلك سيعني بقاء الشروط مواتية لاستمرار العزوف الانتخابي والعودة القوية للاحتجاج السياسي وصوت التغيير، لكن هذه المرة بعد أن تكون قد استنفذت الآمال والوعود وفرص التجديد والثقة المهدورة.