وليد الركراكي: المباراة أمام الغابون ستكون "مفتوحة وهجومية"    توقعات أحوال الطقس اليوم الجمعة    صحيفة إيطالية: المغرب فرض نفسه كفاعل رئيسي في إفريقيا بفضل "موثوقيته" و"تأثيره"    عامل إقليم الجديدة يزور جماعة أزمور للاطلاع على الملفات العالقة    بوريطة: المغرب شريك استراتيجي لأوروبا .. والموقف ثابت من قضية فلسطين    مثل الهواتف والتلفزيونات.. المقلاة الهوائية "جاسوس" بالمنزل    السفيرة بنيعيش: المغرب عبأ جهازا لوجستيا مهما تضامنا مع الشعب الإسباني على خلفية الفيضانات    المنتخب المغربي يفوز على نظيره المصري في التصفيات المؤهلة لكأس أمام أفريقيا للشباب    إقصائيات كأس أمم إفريقيا 2025 (الجولة 5).. الغابون تحسم التأهل قبل مواجهة المغرب    اشتباكات بين الجمهور الفرنسي والاسرائيلي في مدرجات ملعب فرنسا الدولي أثناء مباراة المنتخبين    الحسيمة : ملتقي المقاولة يناقش الانتقال الرقمي والسياحة المستدامة (الفيديو)    تعيين مدير جديد للمدرسة الوطنية للهندسة المعمارية بتطوان    مقاييس التساقطات المطرية خلال 24 ساعة.. وتوقع هبات رياح قوية مع تطاير للغبار    بحضور التازي وشلبي ومورو.. إطلاق مشاريع تنموية واعدة بإقليم وزان    عنصر غذائي هام لتحسين مقاومة الأنسولين .. تعرف عليه!    الأرصاد الجوية تحذر من هبات رياح قوية مع تطاير للغبار مرتقبة اليوم وغدا بعدد من الأقاليم    وزيرة الاقتصاد والمالية تقول إن الحكومة واجهت عدة أزمات بعمل استباقي خفف من وطأة غلاء الأسعار    المنتخب المغربي الأولمبي يواجه كوت ديفوار وديا في أبيدجان استعدادا للاستحقاقات المقبلة    الدرك الملكي بتارجيست يضبط سيارة محملة ب130 كيلوغرامًا من مخدر الشيرا    لمدة 10 سنوات... المغرب يسعى لتوريد 7.5 ملايين طن من الكبريت من قطر    أزمة انقطاع الأدوية تثير تساؤلات حول السياسات الصحية بالمغرب    هل يستغني "الفيفا" عن تقنية "الفار" قريباً؟    مصرع شخص وإصابة اثنين في حادث انقلاب سيارة بأزيلال    بتهمة اختلاس أموال البرلمان الأوروبي.. مارين لوبان تواجه عقوبة السجن في فرنسا    بعد ورود اسمه ضمن لائحة المتغيبين عن جلسة للبرلمان .. مضيان يوضح    الارتفاع ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    ‬المنافسة ‬وضيق ‬التنفس ‬الديموقراطي    حوالي 5 مليون مغربي مصابون بالسكري أو في مرحلة ما قبل الإصابة    الجمعية الوطنية للإعلام والناشرين تسلم "بطاقة الملاعب" للصحافيين المهنيين    ألغاز وظواهر في معرض هاروان ريد ببروكسيل    الحكومة تعلن استيراد 20 ألف طن من اللحوم الحمراء المجمدة    صيدليات المغرب تكشف عن السكري    ملتقى الزجل والفنون التراثية يحتفي بالتراث المغربي بطنجة    الروائي والمسرحي عبد الإله السماع في إصدار جديد    خلال 24 ساعة .. هذه كمية التساقطات المسجلة بجهة طنجة    الإعلان عن العروض المنتقاة للمشاركة في المسابقة الرسمية للمهرجان الوطني للمسرح    نشرة إنذارية.. هبات رياح قوية مع تطاير للغبار مرتقبة اليوم الخميس وغدا الجمعة بعدد من أقاليم المملكة    معدل الإصابة بمرض السكري تضاعف خلال السنوات الثلاثين الماضية (دراسة)    تمديد آجال إيداع ملفات الترشيح للاستفادة من دعم الجولات المسرحية    مركز إفريقي يوصي باعتماد "بي سي آر" مغربي الصنع للكشف عن جدري القردة    الاحتيال وسوء استخدام السلطة يقودان رئيس اتحاد الكرة في جنوب إفريقا للاعتقال    حفل توزيع جوائز صنّاع الترفيه "JOY AWARDS" يستعد للإحتفاء بنجوم السينماوالموسيقى والرياضة من قلب الرياض    أسعار النفط تنخفض بضغط من توقعات ارتفاع الإنتاج وضعف الطلب    عواصف جديدة في إسبانيا تتسبب في إغلاق المدارس وتعليق رحلات القطارات بعد فيضانات مدمرة    "هيومن رايتس ووتش": التهجير القسري الممنهج بغزة يرقي لتطهير عرقي    إسرائيل تقصف مناطق يسيطر عليها حزب الله في بيروت وجنوب لبنان لليوم الثالث    الدولة الفلسطينية وشلَل المنظومة الدولية    هذه أسعار أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    غينيا الاستوائية والكوت ديفوار يتأهلان إلى نهائيات "كان المغرب 2025"    ترامب يعين ماركو روبيو في منصب وزير الخارجية الأمريكي    غارة جديدة تطال الضاحية الجنوبية لبيروت    أكاديمية المملكة تفكر في تحسين "الترجمة الآلية" بالخبرات البشرية والتقنية    الناقد المغربي عبدالله الشيخ يفوز بجائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رسالة السلام !
نشر في هسبريس يوم 10 - 09 - 2017

في خضم تيه فكري نعيشه، وجدب روحي أصاب مجتمعاتنا، وتدني الأخلاق على جميع الأصعدة، سيظل القرآن الكريم أقوى كتاب عقائدي وروحي وأخلاقي؛ باسطا يديه، ومشرعا معانيه لمن يقبل عليه بروحه، وعقله؛ ولكم نحن بحاجة، خاصة ونحن نتجرع مرارة بروز توجهات معادية للإنسانية، إلى التصالح مع هذا الكتاب الكريم، وانتزاعه من يد من سمموا معانيه الخالدة، التي قال عنها فيه سبحانه: "وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا"، (الفرقان، الآية 33)؛ لذلك كلما تأملنا القرآن نجد أن أكثر المعاني النبيلة التي تسعى البشرية إلى تحقيقها كان هذا الكتاب العالمي مثمنا لها؛ "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ" (الإسراء الآية 9). والسبيل إلى إبراز كمالات القرآن هو بإنكار اختصاص الأفراد أو الجماعات به، كما أشارت عشرات الآيات فيه، بل هو مشترك إنساني، لا يجوز احتكاره من أي طرف، أو تحريف معانيه وفق مبادئ موروثة ومظاهر ما أنزل الله بها من سلطان، والتي تصطدم كثيرا في مبانيها اللاإنسانية مع روح الكتاب المبين، فصيرنا إلى ما نحن فيه، بعيدا عن سمو رسالته التي سماها ربنا رسالة السلام: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً"(البقرة، الآية 208)، وقال: "يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ" (المائدة، الآية 16)، وقال: "وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ"(يونس، الآية 25).
القرآن رسالة سلام :
لا يختلف بنو البشر على أن النزاعات اليومية، الآنية منها والمحددة، الدائمة والمتقطعة، هي سمة بارزة في كل الأمم والشعوب، فلا تكاد تجد بؤرة على وجه الأرض إلا وتشهد صراعات وتجاذبات، يختلف مداها وتأثيرها بقدر تنوع مجالاتها، ونجد في تتبعنا لمواقف المتصارعين أبعاداً أخرى، تختلف حسب الزمان والمكان، وقدرة المجتمع على التعايش معها. وقد تجتمع في الصراع الواحد نقاط عدة للاختلاف، منها ما هو عرقي، أو ديني، أو جغرافي، لكن الفرق بين كل هذه التجاذبات يحدده أسلوب تعامل المتنازعين في معالجة قضيتهم، وكذلك في تعاملهم مع الأطراف الأخرى المتدخلة. ورغم الأهمية البالغة التي أولاها القرآن لهذا الموضوع، بل وجعله السبب الرئيس لإرسال الرسل وإنزال الكتب، إلا أن مكتبتنا الإسلامية، خاصة في بلداننا، التي تشهد حروبا وتطاحنات، فقيرة جدا في هذا الباب، رغم النظرة القرآنية الشاملة والثقيلة بالمعاني فيه؛ وإذا رجعنا لآياته البينات، وما تضمنته من أحكام ونماذج في هذا الصدد، سنجد أن ديننا غني بما يمكن من خلاله خلق تصور عام حول المقاربة التي اختارها الإسلام، وأسلوبه المقترح لتدبير النزاعات، وإشاعة روح الود والسلام بين العالمين، "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ"،(فصلت، الآية 34).
وسيتبين لنا جلياً هنا أن محكم التنزيل في حديثه عن الاختلاف قد قاربه بمنطق متكامل، يناقش أوضاع الفرد والمجتمع، والتصور الذي يجب على الإنسان أن ينظر به إلى العالم حوله، بدءًا بالاختلاف البيولوجي واللّغوي والديني، بين الشعوب والقبائل، والصراعات الدولية، السياسية والاقتصادية، والخلاف داخل المجتمع...إلى التنازع بين أفراد الأسرة الواحدة، والتي نجد أن القرآن كان حريصا في جميعها على تغليب لغة الحوار والتسامح، وفسح المجال للحلول السلمية التفاوضية .
الاختلاف آية كونية :
قال ربنا: "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ" (الروم، الآية 22). إن حديث القرآن الكريم عن الاختلاف، وجعله آية من آيات الله، التي يجب على الفرد والمجتمع الإيمان بها، والنظر إليها كدلالة على غنى كوكبنا وتنوعه، بما أودع الخالق فيه من صفات مستقلة لكل عنصر فيه، يجعلنا أمام نظرة قرآنية راقية، خاصة إذا استوعبنا محدد العلاقة التي وضعها الكتاب الكريم في ما بيننا وبين الأمم والشعوب الأخرى؛ وذلك في قوله سبحانه: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (الحجرات، الآية 13)؛ إذ لم تقف حدود القرآن الكريم عند مجرد إعطاء تصور معين حول هذا الاختلاف، وجعله نوعاً من الآيات الكونية التي يجب أن نتدارسها، ونتعلم أصولها، بل تعداه إلى جعله ثروة معرفية تتميز بها الدول والمجتمعات، الشيء الذي يعني أن البلدان التي تتعدد ثقافاتها وعرقياتها هي الأكثر غنى معرفياً. وسنعود باستطراد إلى هذا المعنى، بعد أن نقف عند آية سورة الروم السالفة؛ فتأمل أيها القارئ كيف قارن الباري عز وجل بين خلقه للسماوات والأرض وما بث فيها مما نعلم ومما لا نعلم، وبين اختلاف ألسن بني البشر، وأعراقهم وألوانهم؛ وهي دعوة للبحث عنها والتعرف عليها، لكونها آية وبرهانا للعالِمين (بكسر اللام)، الذين يدركون أن الإنسان بتركيبته الفريدة، والمعقدة، والاختلافات بين البشر، إنما جزء من تنوع هذا الكون وثرائه، ودلالة على مكانة هذا المخلوق، ومدى عناية الله به، بحيث جعل لكل فرد منه شكلا وبصمة مختلفة. يقول العلامة الطاهر بن عاشور في تفسير هذه الآية: "..هذه الآية الثالثة، وهي آية النظام الأرضي في خلق الأرض بمجموعها وسكانها؛ فخلق السماوات والأرض آية عظيمة مشهودة بما فيها من تصاريف الأجرام السماوية والأرضية، وما هو محل العبرة من أحوالهما المتقارنة المتلازمة كالليل والنهار والفصول، والمتضادة كالعلو والانخفاض؛ وإذ كان أشرف ما على الأرض نوع الإنسان قرن ما في بعض أحواله من الآيات بما في خلق الأرض من الآيات، وخص من أحواله المتخالفة لأنها أشد عبرة، إذ كان فيها اختلاف بين أشياء متحدة في الماهية، ولأن هاته الأحوال المختلفة لهذا النوع الواحد نجد أسباب اختلافها من آثار خلق السماوات والأرض. فاختلاف الألسن سببه القرار بأوطان مختلفة، متباعدة، واختلاف الألوان سببه اختلاف الجهات المسكونة من الأرض، واختلاف مسامتة أشعة الشمس لها؛ فهي من آثار خلق السماوات والأرض، ولذلك فالظاهر أن المقصود هو آية اختلاف اللغات والألوان، وأن ما تقدمه من خلق السماوات والأرض تمهيدا له وإيماء إلى انطواء أسباب الاختلاف، في أسرار خلق السماوات والأرض. وقد كانت هذه الآية متعلقة بأحوال عرضية في الإنسان ملازمة له، فبتلك الملازمة أشبهت الأحوال الذاتية المطلقة، ثم النسبية… واختلاف لغات البشر آية عظيمة، فهم مع اتحادهم في النوع كان اختلاف لغاتهم آية دالة على ما كونه الله في غريزة البشر من اختلاف التفكير، وتنويع التصرف في وضع اللغات، وتبدل كيفياتها باللهجات والتخفيف والحذف والزيادة بحيث تتغير الأصول المتحدة إلى لغات كثيرة" (التحرير والتنوير، ج 22/ ص 73).
وقال العلامة الألوسي في تفسيره روح المعاني(ج21/ص32): "..وألوانكم، بياض الجلد وسواده، وتوسط في ما بينهما أو تصوير الأعضاء وهيئاتها وألوانها وحلاها، بحيث وقع التمايز بين الأشخاص، حتى إن التوأمين، مع توافق موادهما وأسبابهما والأمور الملاقية لهما في التخليق، يختلفان في شيء من ذلك لا محالة، وإن كانا في غاية التشابه، فالألوان على الضروب والأنواع، كما يقال: ألوان الحديث وألوان الطعام. وهذا التفسير أعم من الأول، وإنما نظم اختلاف الألسنة والألوان في سلك الآيات الآفاقية من خلق السموات والأرض، مع كونه من الآيات الأنفسية الحقيقة بالانتظام في سلك ما سبق من خلق أنفسهم وأزواجهم، للإيذان باستقلاله والاحتراز عن توهم كونه من متممات خلقهم.. "إِنَّ فِي ذَلِكَ" أي في ما ذكر من خلق السموات والأرض واختلاف الألسنة والألوان "لآيَاتٍ" عظيمة كثيرة، "للعالِمين"، أي المتصفين بالعلم كما في قوله تعالى: "وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العالمون". وقرأ الكثير العالَمين بفتح اللام، وفيه دلالة على وضوح الآيات وعدم خفائها على أحد من الخلق كافة".
المعرفة..أرضية القرآن المشتركة:
وعوداً إلى الآية 13 من سورة الحجرات، أقول إن نظرة القرآن إلى مجتمع المعرفة تنطلق ليس فقط عبر الحث على طلب العلم، والسير في الأرض الذي هو مطلب قرآني في أكثر من أربع عشرة آية، للنظر في أحوال الأمم والشعوب، والاعتبار منها، وتأمل طبيعة الكون، بل أعطى لهذا المعنى الفريد للاختلاف قيمة أكبر تؤسس لمنظومة مجتمعية، وأرضية مشتركة لجميع الأمم، لا يمكن لأي فرد أو جماعة أن ينفوا حاجتهم إليها، خاصة أن التنزيل الحكيم بين لنا أننا نشارك هذا الكون مع أمم أخرى، لا تقل أهمية عنا ولا غنى لنا عنها، فقال: "وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم، مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ"(الأنعام، الآية 38 ). فتأمل هذا الإبداع الرباني، والتعبير البياني، المؤسس لعلاقة مترابطة ومتواصلة بين بني البشر وجميع المخلوقات، التي تشاركنا هذا الكوكب، مبدأها كسب المعارف عبر التعارف، وتنويع المدارك، بجعل علاقتنا بمحيطنا مبنية على تنمية الرصيد المعرفي، ويوجهنا إلى كون المجتمع الأكثر اختلافاً وتنوعاً، هو المجتمع الذي يجب أن يكون أكثر معرفة؛ وهذه دعوة لإعادة تأسيس فهمنا ومقاربتنا لخلافاتنا، بأن نجعلها قيمة معرفية، وننظر إليها كثروة وطنية، يجب المحافظة عليها واستثمارها، ولا تختلف في جماليتها عن التنوع الذي تزخر به بلداننا في البر والبحر. وهنا أشير إلى أن المساحة المفتوحة لأجيال اليوم عبر وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها هي بالأساس تخدم هذه المنظومة القرآنية، وتقرب إلينا بوسائل بسيطة القدرة على التعارف بين مختلف الأديان والأعراق والشعوب .
لقد بين لنا هذا المعنى أن عطاء الكتاب المبين، بإرشاده إلى استثمار تنوعنا الثقافي، واختلافنا اللغوي، والديني، والعرقي، وجعله نقطة قوة للشعوب، لا كما هو حالنا اليوم للأسف، خاصة أن سورة الحجرات من آخر ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم؛ فندرك تماماً أن القرآن الكريم نجح في إرساء منظومة متينة لأسلوب تعاملنا مع الآخرين، وأنه براء من احتكار مفاهيمه من جماعات جعلت من أسسها كونها الفرقة الناجية، ضاربة عرض الحائط مبدأ "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها"، الذي يعني أن النجاة ليست انتماء، بقدر ما هي بذل وعطاء فردي، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، لأنه سبحانه المطلع على ضمير كل إنسان وصدقه أيا كان دينه؛ وقد أشار إلى ذلك في الآية التي ابتدأها بأيها الناس، أي إنه نداء لكل الأمم، وختمها ب"إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، أي إن المتقين يوجدون في كل الشعوب على اختلاف أديانها ومذاهبها، وهو ما يفسر حديث القرآن عن الحوار بكونه مطلبا في حد ذاته، لا وسيلة تنتهي بأجل، ولم يجعل العلاقة بين الشعوب من أجل هيمنة فئة على أخرى، أو لخلق صراعات إثنية وعرقية. فلا مجال أرقى من التعارف للتعامل مع الآخرين، وقوله "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" يحيلنا أيضا إلى مبدأ قرآني عظيم، وهو ألا أحد يمكنه أن يعلم من الأتقى سوى الخالق. قال ربنا: "فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى"، ( النجم الآية 22).
لقد شهدت دول المسلمين وغيرها منذ القرون الأولى، إلى يومنا هذا، معارك دموية راحت ضحيتها أمم وحضارات، كان السبب الرئيس فيها هو عدم تفهم الاختلافات، وليس عدد الآراء والمشارب، كذا النظرة الأحادية الجانب، وتأثر الصراعات عبر الأجيال بتحكم النوازع السلبية في الإنسان، وتغليفها بمبررات عقائدية أو عرقية. وقد تكون عند غيرنا من الأمم تركة ثقافية وتاريخية أكثر عنفا مما عندنا، لكنهم وضعوا مناهج أرقى للتعامل معها، لا بتقديسها ككل، وتقديمها على مكانة الإنسان. وكم نحن بحاجة إلى العودة إلى هذه الأرضية المشتركة التي ستكفل السلام للجميع.
وإذا كان الكتاب الخاتم نظّر لمبدأ الجهاد، فإنما لكونه أسلوبا لرد الصائل المعتدي، بعد استنفاد الحلول السلمية، ولن تجد فيه ما يشرعن القتال ابتداءً دون مناط الدفاع عن النفس، إنما حث على السلم والنزوع إليه، في سياق تاريخي كان فيه السيف أساس العلاقات بين الأمم "وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ"(الأنفال، الآية 61)، وهو ما سطرته سورة الفتح، التي جعلت من صلح الحديبة فتحاً مبينا (راجع تفاسير سورة الفتح). فتأمل معي أيها القارئ هذه الآيات المحكمات: "وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ، وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيه، فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ، فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيم، وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّه،ِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ".(سورة البقرة من الآية 190)، فلا عدوان إلا على من قاتلكم ظلما، والفتنة في الآية هو ما يضاد الحرية، ويكون الدين لله وحده دون سلطة أحد أو إكراه، وقال سبحانه: "فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً"(النساء ، الآية 90) صدق الله العظيم .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.