خلال الخمس والعشرين سنة التي قضيتها لحد الآن في الغربة و تنقلت فيها عبر عدة عواصم، تحاشيت دائما التردد على السفارات والقنصليات، رغم الدعوت التي وجهت لي، في البلدان التي كنت أدرس أو أشتغل بها إلا عندما تستدعي الضرورات الإدارية. هذا العزوف يرجع إلى عدة عوامل من أهمها أن معظم السفارات والقنصليات تعج بالمتملقين والمتزلفين الذين يرون في أخذ صورة مع هذا المسؤول أوذاك شرفا كبيرا لهم، ويعتبرون كل دخيل عليهم منافسا لهم، حيث تبدأ حياكة المؤامرات والوشايات. كما أن التجارب السابقة خلال بعض اللقاءات القليلة التي حضرتها بحضور بعض المحسوبين على السفارات كانت غالبا ما تخيب ظني سواء على مستوى المسؤولين أو بعض الجهلة والأميين الذين يدورون في فلكهم. بل إن عددا منهم يقوم بدور المقدم أو شيخ القبيلة في التجسس على إخوانه المهاجرين. هذه التصرفات هي التي جعلت الطبقة المثقفة الأبية تنفر من هاته الممثليات الدبلوماسية في الخارج. وهذا مايفسر أيضا أن العديد من الأوسمة في السابق منحت لمهاجرين تم تقديمهم كأبطال وعلماء لكن الحقيقة أنهم من المرتبطين بهذا المسؤول أم ذاك في الهيئات الدبلوماسية في الخارج. هؤلاء المسؤولين في السفارات والممثليات عادة لا يلقون بالا إلى الأدمغة المغربية ولا يحاولون خلق صلات معهم بل إن مجملهم أبعد من الثقافة والعلم في معظم الأحوال. وهنا أحكي قصة طريفة حصلت لي شخصيا: في أواخر التسعينيات من القرن الماضي قامت مجموعة من الباحثين المغاربة ببلجيكا بفكرة تنظيم "الأسبوع العلمي المغربي" للتعريف بالجامعات المغربية ومد جسور بينها وبين جامعات بلجيكا، وتلقينا دعما ماديا من الهيئة الفرنكوفونية ببلجيكا. يومها تم تكليفي بالاتصال بالسفارة المغربية من أجل الحصول على دعم ما دام الأمر يتعلق بهدف نبيل يخدم المغرب. وكان أملنا أن تتكلف السفارة بمصاريف تنقلات بعض الأساتذة الذين ستتم دعوتهم من المغرب. وحينما اتصلت بالملحق الثقافي و شرحت له الأمر وطلبت منه نوعية المساعدة المبتغاة، فاجئني باقتراحه الغريب قائلا "المساعدة الوحيدة التي يمكننا تقديمها هي أنه حينما تنتهي فعاليات الأسبوع العلمي المغربي، أقترح أن تنظموا احتفالا بالمناسبة و سوف تتكلف السفارة باستقدام جوق من الطرب الأندلسي لتنشيط الحفل!". خرجت من السفارة وأنا أردد الآية الكريمة "ذلك مبلغهم من العلم". أسوق هاته المقدمة لأحكي عن شخص حاول كسر هاته الصورة النمطية للبعثات الدبلوماسية بالخارج: إنه السفير المكي كوان سفير المملكة لدى قطر في السنوات الأربع الأخيرة. منذ تعيينه بادر بفتح قنوات تواصل مع الكفاءات المغربية بقطر، بل قام بزيارة بعض الجامعات ومراكز البحث العلمي بالدولة والتقى بالأدمغة المغربية التي تشرف كل مسؤول. وفي كل مرة يزور الدوحة مسؤول مغربي من درجة وزير أو ما شابه: كان السفير يتصل شخصيا بمجموعة من العلماء والأدمغة المغاربة لتنظيم لقاء تواصلي مع المسؤول وتبادل وجهات النظر، بل كان يدير الحوار بنفسه بطريقة احترافية ولبقة. ومن أهم مميزاته التي اتسم بها: ثقافته الواسعة، وتجربته الدبلوماسية حيث تدرج في المناصب داخل الوزارة إضافة إلى تواضعه الشديد وتمكنه من اللغة العربية مما جعله سفيرا مرموقا بين سفراء الدول العربية داخل الدولة المضيفة. ولعله من المسؤولين القلائل الذين التقيت بهم ولمست منهم احتراما وتقديرا لدور العلماء المغاربة وافتخارا بهم. ولعل أبرز ما قام به خلافا لأسلافه ونظرائه هو تنظيمه بين الفينة والأخرى للقاءات ثقافية يستدعي فيها كل مرة واحدا من الخبراء المغاربة المعروفين على الصعيد الإقليمي و الدولي ليحاضر، وتتم دعوة شخصيات محلية للحضور والتفاعل مع الأدمغة المغربية. في السنوات الأربع التي قضاها في الدوحة لمست الجالية المثقفة تغيرا ملحوظا لم تشهده من قبل وساهم الرجل في إضفاء جمالية على صورة المغرب لدى المسؤولين المحليين أيضا. أكتب هذا المقال بمثابة شهادة في حق هذا الرجل الذي كسر رتابة البعثة الدبلوماسية في الدوحة كما أكتبه بعد أن غادر الدوحة من أجل التقاعد حتى لا أتهم بالتزلف للمسؤولين. فشكرا سعادة السفير السابق السيد المكي كوان. *أستاذ البحوث ومدير نظم الأبحاث جامعة تكساس أي أند إم - فرع قطر