في خطابه الأخير بمناسبة الذكرى الثامنة عشرة لعيد العرش، تطرق الملك محمد السادس لجملة من القضايا الأساسية المرتبطة بالمجالين السياسي والاقتصادي. وقد كان من المتوقع أن يكون هذا الخطاب مختلفا عن سابقيه، خصوصا أنه يأتي في ظرفية حساسة ودقيقة مرتبطة بأحداث الريف. في مجملها كانت كلمة الملك نقدية بالدرجة الأولى، وعبارة عن توصيف واقعي وغير متشائم لحال المغرب، توصيف يقول الحقيقة وإن كانت قاسية، على حد تعبير ملك البلاد. من أبرز النقاط التي تطرق لها الخطاب أن التطور السياسي الذي شهده المغرب لا ينعكس على الأحزاب، وكأن الملك قد وصل إلى قناعة مفادها فشل القنوات التي كانت تضمن التواصل بين الدولة والشعب في مرحلة الأزمات؛ فطيلة 8 أشهر لم تقدم الأحزاب حلولا لأزمة الحسيمة ولم نشهد حوارا بينها وبين الشارع، بل إن الحسيميين رفضوا الحوار مع قادتها الذين هبوا إلى مدينتهم، ووجدوا أنفسهم عاجزين عن لعب دور الوسيط بين الشارع والدولة، وهي مسألة خطيرة جدا لأنه من بين أخطر ما يهدد الأنظمة السياسية في العالم هو حينما تجد نفسها وجها لوجه مع الشعب. وهذا ما عبر عنه الملك حين أشار إلى أن انهيار الوسائط الاجتماعية جعل قوات الأمن تواجه بكيفية مباشرة المحتجين بالحسيمة؛ فحينما لم تسر الأمور كما يريد قادة الأحزاب السياسية اختبؤوا خلف القصر، وعجزوا عن القيام بأي دور من أجل تخفيف حدة الاحتقان الشعبي بالريف، بل على العكس من ذلك كانوا مسؤولين عن رفع حالة الاحتقان من خلال توجيه العديد من الاتهامات إلى الحراك، سواء تلك المتعلقة بالانفصال أو بتلقي تمويلات خارجية، كما كانوا مسؤولين أيضا عن ارتفاع سقف مطالب الحراك التي كادت أن تتحول من مطالب اجتماعية مشروعة إلى مطالب سياسية خطيرة على بلادنا. لقد كان من الطبيعي إذن أن يكون الخطاب الملكي شديد اللهجة في التعامل مع الأحزاب، بل كاد أن ينفض الملك يده عنها حين اتهم بعض السياسيين بالخيانة وأنهم لم يعودوا يحظون بثقته؛ حيث أشار إلى أن بعض السياسيين انحرفوا بالسياسة عن جوهرها النبيل، وخاطبهم "إما أن تقوموا بمسؤولياتكم على أكمل أوجه وإما أن تنسحبوا"، مشددا على أنه لم يعد هنالك مجال لازدواجية الخطاب أمام المسؤولين للتملص والتنصل من تحمل المسؤولية، بدعوى وجود جهات عليا أعاقت اشتغالهم. إن المتتبع لمضامين الخطاب سيجد أن العاهل المغربي وضع خارطة طريق لربط المسؤولية بالمحاسبة، وبلهجة قاسية خيّر النخبة السياسية بين تحمل المسؤولية كاملة أو الاسقالة والانسحاب بهدوء من المشهد السياسي. توقف الملك أيضا عند مكامن الخلل التي تعتري الإدارة المغربية وتدبير الشأن العام بشكل عام؛ إذ اعتبرها من بين المشاكل الرئيسية التي تُعيق قطار التنمية في المغرب، وهذه ليست المرة الأولى التي يوجه فيها انتقادات شديدة للإدارة العمومية المهترئة التي لا تواكب التطور كما هو الحال بالنسبة للقطاع الخاص، وتساءل كيف يكون المغرب بلدا يضرب به المثل في الخارج في ما يخص جلب الاستثمارات في القطاعات الخاصة، ولكن في القطاع العام الذي وجد لخدمة المواطن نجد نوعا من التقصير، وعزا الخطاب الملكي ذلك إلى انعدام الضمير المهني وضعف روح المسؤولية لدى فئات عريضة من الموظفين العموميين الذين تنكروا للواجب ولهثوا وراء الرواتب. وربط الملك محمد السادس بين لجوء عدد من المواطنين إليه لمساعدته بتقصير الإدارة في القيام بواجبها، قائلا: "يقال كلام كثير بخصوص لقاء المواطنين بملك البلاد، والتماس مساعدته في حل الكثير من المشاكل والصعوبات، وإذا كان البعض لا يفهم توجه عدد من المواطنين إلى ملكهم من أجل حل مشاكل وقضايا بسيطة، فهذا يعني أن هناك خللا في مكان ما"، مؤكدا أن المواطنين يلجؤون إليه "بسبب انغلاق الأبواب أمامهم، أو لتقصير الإدارة في خدمتهم، أو للتشكي من ظلم أصابهم". لقد تحدث الملك بلسان جميع المغاربة، مشيرا إلى سوء تعامل الإدارة مع المواطن، وعبّر عن عدم ثقته في الأحزاب، وهو كلام يقوله المغاربة منذ سنوات. الملك قال كفى، كما يقول المغاربة بلهجتهم المحلية "بركا"، "بركا" من تحويل الأحزاب إلى دكاكين لجمع الثروة، فرجل السياسة يدخل السياسة بوضعية اقتصادية ويغادرها في بحبوحة بوضعية مغايرة تماما، فالعمل السياسي في بلادنا أضحى ينجب مقاولين لا سياسيين، همهم الأساس تنمية جيوبهم وليس خدمة الوطن والمواطن. إن الملك غاضب ومستاء من تعثر العديد من المشاريع التنموية؛ إذ تحدث بوضوح عن ضرورة إيجاد حلول لتعثر المشاريع التنموية بالحسيمة وغيرها من المناطق، لتحقيق الإقلاع الاقتصادي المنشود، ملمحا إلى أن الحل سينطلق من خلال المحاسبة، ومعرفة من وراء هذا التعثر ومن وراء تأزيم الأوضاء. إن رد فعل الشارع تجاه الخطاب كان ايجابيا؛ إذ سادت أجواء من الارتياح والقبول لدى الشارع المغربي بشكل عام، وهو أمره عكسه التفاعل الكبير مع مضامين الخطاب في وسائل التواصل الاجتماعي، في حين جاء رد فعل الأحزاب مخيبا للغاية، واقتصر على إصدار بلاغات تثمينية لم تتجاوزها إلى القيام بنقد ذاتي والاعتراف بتقصيرها، ومن دون أن تتحدث عن إجراءات وخطوات على أرض الواقع لتجاوز أزمتها الداخلية وللمصالحة مع الشارع المغربي؛ إذ يظهر جليا أنها باتت غير قادرة على التنفيذ والإبداع. فكيف يعقل بعد هذا الخطاب الاستثنائي وعوض أن تجتمع الأحزاب السياسية بهياكلها المنتخبة لتقييم عملها وممارسة نقد ذاتي لتدبيرها للسياسات العمومية، قامت بإخراج بلاغات تؤيد الخطاب الملكي، وكأن المعني هنا هو الملك وحده، وأن إخراج بلاغ يفي بالغرض، في حين إن المغرب، ملكا وشعبا، يريد أفعالا حقيقية والتزامات ملموسة وحقيقية؟ وكيف يعقل أيضا أنه بعد يومين من خطاب الملك يُسجل غياب جماعي للبرلمانيين عن جلسة الأسئلة الشفوية؛ حيث قدم رئيس الحكومة حصيلة السياسة العمومية المتعلقة بمغاربة العالم أمام مجلس شبه فارغ؟ إنه العبث.. واستهتار مفضوح بمضامين الخطاب. في المقابل، هنالك أسئلة تطرح نفسها بقوة وهي: ألا يعكس خطاب العرش أزمة نظام وأحزاب ومجتمع وليس فقط أزمة أحزاب وإدارة؟ ألا يعد إلقاء اللوم على الأحزاب والإدارة العمومية لوحدها حيفا في حقها؟ أليست للدولة مسؤولية في ما آلت إليه الأوضاع؟ لماذا لم تتدخل الدولة لإيقاف هذا العبث في التدبير؟ أليس للدولة يد في إفساد الحقل الحزبي؟ في حقيقة الأمر، إننا نعيش أزمة سياسية مركبة عكس الخطاب الملكي الأخير بعض تجلياتها وأسبابها، خطاب في حاجة إلى أن تَعقبه خطوات ملموسة على أرض الواقع، من خلال استكمال تفعيل مقتضيات دستور 2011 ومحاسبة المسؤولين الذين أوصلوا العديد من جهات المملكة إلى نفق مسدود، والقيام بإصلاحات جذرية للمنظومة القانونية للانتخابات لتجاوز واقع بلقنة مشهدنا السياسي، وأن تقف الدولة على مسافة واحدة في علاقتها بالأحزاب وأن ترفع يدها عن شؤونها الداخلية، وأن تعمل الأحزاب على تغيير عقلياتها وتجدد نخبها، وتعمل على اختيار أحسنهم لتدبير شؤون المغاربة، وأن تتوفر الإدارة على أفضل الأطر لرعاية شؤون المواطنين. آنذاك يمكننا القول بأننا في الطريق الصحيح وبأنها بداية مشجعة لنخطو خطوات إلى الأمام. *رئيس لجنة الثقافة برابطة التضامن الصحراوي للدفاع عن الوحدة الترابية