استنفر الخطاب الملكي الأخير، بمناسبة مرور ثمان عشرة سنة على حكم الملك محمد السادس، العديد من الباحثين والأساتذة للتعليق على مضامينه بشكل مندفع وفي بعض الأحيان بشكل تأييدي مبالغ فيه، وكأن الخطاب الملكي جاء بصيغة مطلقة لا تقبل إلا التهليل والتصفيق والإشادة. وواقع الحال أن أبلغ وصف يمكن أن يقال عنه هو أنه خطاب مستفز شكلا ومضمونا، وليس في لفظة "مستفز" أي تجريح أو تقريع، بل بالعكس، إذا استفز الخطاب عقول النخب والمتتبعين والسياسيين والمثقفين، وفتح بشأنه نقاش عميق يتناول المضامين بشكل أكثر صرامة ودقة، آنذاك سيكون الخطاب قد تمكن من تبليغ رسائله بالرغم من أنها لن تحصد الإجماع، هذا الأخير لم يكن مطلوبا ولن يكون، لأنه مناف لأبسط قواعد الاختلاف والديمقراطية الحقة. من الإشارات القوية والمستفزة التي أتى بها الخطاب هي أنه ثمّن أداء بعض القطاعات كالفلاحة والصناعة، والمرتبطة أساسا بالاستثمار؛ لكنه في المقابل انتقد أداء المراكز الجهوية للاستثمار ولم يسلم من النقد إلا مركز أو اثنان، وفيما يلي النص الحرفي للفقرات المستدل بها من الخطاب الملكي: "فإذا كنا قد نجحنا في العديد من المخططات القطاعية، كالفلاحة والصناعة والطاقات المتجددة...... إن من بين المشاكل التي تعيق تقدم المغرب هو ضعف الإدارة العمومية، سواء من حيث الحكامة، أو مستوى النجاعة أو جودة الخدمات، التي تقدمها للمواطنين. وعلى سبيل المثال، فإن المراكز الجهوية للاستثمار تعد، باستثناء مركز أو اثنين، مشكلة وعائقا أمام عملية الاستثمار، عوض أن تشكل آلية للتحفيز، ولحل مشاكل المستثمرين، على المستوى الجهوي، دون الحاجة للتنقل إلى الإدارة المركزية". انتهى سرد الفقرتين. وكأننا أمام نوعين من الاستثمارات: استثمارات تتكلف بالمصادقة عليها ودعمها مؤسسات لا تنتمي إلى جسم الإدارة العمومية، وهي ناجحة متميزة في مردوديتها؛ وصنف من الاستثمارات يعاني من العرقلة، بسبب وجود المراكز الجهوية للاستثمار التي لم تستطع أن تحفز المستثمرين وتحل مشاكلهم على المستوى الجهوي بدل الانتقال إلى المركز. وهذا تشخيص منطقي جدا لا يحتاج إلى استفتاء رأي؛ غير أنه يكشف تناقضات غريبة وغير مقبولة، مما يستلزم معه الوقوف لتقييم أداء المراكز الجهوية للاستثمار ومسؤوليتها أمام الانتقادات القوية التي نالتها من خطاب الملك. يعلم الجميع أنه قد جرى إنشاء المراكز الجهوية للاستثمار بعد الرسالة الملكية 9 يناير 2002 الموجهة إلى الوزير الأول، حول الإدارة اللامركزية للاستثمار. كما أن افتتاح كل مركز جهوي تم على إثر قرار مشترك لوزير الداخلية آنذاك، ووزير الاقتصاد والمالية والخوصصة والسياحة، الصناعة، التجارة والطاقة والمعادن. وقد تم تحديد مهامها في ثلاثة أمور أساسية: المساعدة على خلق المقاولات، دعم ومساعدة للمستثمرين، وتشجيع الاستثمار الجهوي. كما أن القرارات المتعلقة بتلقي الترشيحات لإدارة هذه المراكز واقتراح مديريها تتم على مستوى وزارة الداخلية، ويتكلف المجلس الحكومي بالتعيين بناء على القانون التنظيمي 02.12 المتعلق بالتعيين في المناصب العليا طبقا للفصلين ال49 وال92 من الدستور. القانون الإطار 18.95 بمثابة ميثاق للاستثمارات الذي شرع العمل به في قانون المالية سنة 1996، وفي مادته الحادية والعشرين والمعنونة باستقبال المستثمرين ومد يد العون لهم، ينص على إحداث جهاز إداري يعهد إليه باستقبال المستثمرين وتوجيههم وتقديم المعلومات والمساعدة لهم، كما يعهد إليه بإنعاش الاستثمارات. الجهاز المذكور داخل هذا القانون لن يكون إذن إلا المراكز الجهوية الاستثمار التي تم إحداثها فيما بعد بموجب الرسالة الملكية سالفة الذكر. فكيف استمر هذا القانون الإطار لأزيد من 22 سنة، دون مراجعة أو إصلاح؟ على الأقل بإضافة هذه المؤسسات المحدثة، بدل الإتيان عليها بصيغة المجهول؟ وكيف تكتسب المراكز الجهوية للاستثمار مكانتها القوية داخل هرم الإدارة وهي لا تستند على نص تشريعي يوضح صلاحياتها وإطار اشتغالها بدقة؟ بل وحتى القانون 02.12 الذي يحدد المؤسسات العمومية والمناصب العليا التي يعين مديروها من لدن المجلس الوزاري أو المجلس الحكومي، لم يشر إلى المراكز الجهوية للاستثمار كمؤسسات عمومية لأنها تفتقد للإطار التشريعي المؤسس، واكتفى بالإشارة إلى مديريها في آخر سطر ضمن نص القانون وأدمجهم في لائحة المناصب العليا داخل الإدارات العمومية مع المفتشين العامين للمالية والمفتشين العامين والمتصرفين العامين وآخرين... فهل تقل هذه المراكز أهمية من مؤسسات تابعة للإدارة العمومية كالوكالات الحضرية، ودار الصانع والمكتب الوطني للصيد، واللائحة تطول...، في بداية حكومة عبد الإله بنكيران، جرى الإعلان، بمناسبة انعقاد اللجنة الوطنية لمناخ الأعمال بتاريخ 22 ماي 2012، عن مشروع مهم يتعلق بمراجعة القوانين المنظمة للاستثمار في أبعاده المتعلقة بالترويج للمغرب كوجهة استثمارية واستقبال المستثمرين ومواكبة مشاريعهم وكذا بالامتيازات والتسهيلات الممنوحة للمستثمرين. ويضم المشروع جانبين: أولهما قانوني يعمل على تجميع المقتضيات المتعلقة بالامتيازات والتسهيلات الممنوحة للمستثمرين في إطار تعاقدي داخل نص واحد، واقتراح نظام امتيازات أفقي موحد وأنظمة قطاعية وجهوية تكميلية حسب خصوصية كل قطاع وكل جهة، وتدابير أخرى... والجانب الثاني، جانب مؤسساتي يهم مراجعة القانون المنظم للوكالة المغربية لتنمية الاستثمارات من حيث الاختصاصات وعلاقتها بالمتدخلين والفاعلين الآخرين وموقعها المؤسساتي، وتقييم تجربة المراكز الجهوية للاستثمار وإعداد الإطار القانوني الملائم لمزيد من الفعالية على مستوى استقبال ومواكبة المستثمرين وتقييم البرامج الاستثمارية ولجعل هذه المراكز آلية فعالة للدفع بالاستثمار في إطار ورش الجهوية المتقدمة. السؤال المطروح، إذن، هو: ما مآل هذا المشروع، الذي كان سيعفينا من عدد من الإجابات بخصوص انتقادات الملك لأدوار المراكز الجهوية للاستثمار، مع العلم أن جدولة الإنجاز والبرمجة الزمنية لإعداد مشاريع النصوص والتصورات المؤسساتية لم تكن تتعدى أكتوبر 2012؛ لكنه، إلى حدود الساعة، لم يصادق على أي نص من هذا المشروع داخل البرلمان، ألا يستحق هذا الأمر تحقيقا؟ لنعرف من المسؤول عن عرقلة هذا المشروع الإصلاحي لإطار الاستثمارات والمساهم في تحسين مناخ الأعمال، هل هو رئيس الحكومة؟ أم وزير الداخلية؟ أم وزير التجارة والصناعة؟ أم مسؤول آخر خارج الجهاز الحكومي. أعتقد أن الخطاب الملكي الأخير هو فرصة سانحة أمام الحكومة من أجل التسريع بورش إصلاح المراكز الجهوية للاستثمار حتى تساير دورها الاستثماري المهم وتعمل من جانبها على تسريع وتيرة الاستثمار، لا سيما على المستوى الجهوي في إطار تنزيل جهوية تنافسية قوية، وتحسين مناخ الأعمال الذي يسهم في جلب الاستثمارات، في ظل منافسة قوية تعرفها المنطقة الإقليمية والإفريقية، وفي ظل معدلات نمو مرتفعة يحققها الأشقاء الأفارقة من شأنها أن تستقطب حصة مهمة من الاستثمارات المحلية والأجنبية التي تتم في المغرب.