يجمع جل المتتبعين النبهاء للأزمة الراهنة بمنطقة الريف، من أبنائها أو غيرهم، على أن الأزمة الراهنة ما هي إلا واحدة من تلك الأزمات التي عرفتها المنطقة بشكل متواتر منذ استقلال البلاد إلى اليوم، وهي أزمات أخذت أسماء متنوعة بتنوع السياقات، وطبيعة المناطق التي انطلقت منها أو انتهت إليها. وعلى سبيل الذكر لا الحصر، "عام الجبل"، التي تشير إلى أحداث 1958-1959، وهي الأحداث نفسها التي أخذت تسمية أخرى، أي "عام اقبارن"، أو ما يمكن ترجمته بسنة "الخودات الخضراء"، نسبة إلى الاجتياح الأوفقيري الذي عرفته المنطقة آنذاك. ومن المؤكد أن الأزمة التي نعيش على إيقاعها إلى اليوم ستأخذ في المستقبل القريب أو البعيد اسم "عام العسكرة"، نسبة إلى النقاش الكبير الذي نشب بين الناس هنا وهناك حول ظهير العسكرة، والذي انتهى إلى ضرورة التمييز بين ظهير العسكرة الذي انتهي العمل به نهاية 1960، ومظاهر العسكرة التي رافقت الأزمة الأخيرة. وفي الأمر درس بالنسبة للدولة بضرورة الانفتاح على المواطنين من أجل النقاش والاقناع في أي موضوع كان، وبالنسبة لعموم المواطنين، ولاسيما قادة بعض الحركات الاحتجاجية منهم، بضرورة التسلح بالوثائق والعلم، والنسبية في المقاربة والتحليل. ومهما يكن من أمر، فأزمات الريف، كل أزماته، عادة ما تكون عابرة لتترك المجال لبوادر أزمة جديدة لا علاقة لها – من حيث الأسباب والفاعلين فيها-بالأزمة التي سبقتها، ومن الغريب أن الفاعلين الكبار في أي أزمة جديدة يحاولون، عن سبق إصرار، طمس الجوانب المشرقة في التجارب التي سبقتهم. وفي اعتقادنا، فإن الأمر مرتبط بإشكالية الزعامة بالمنطقة، وهو سؤال سوسيولوجي وأنثروبولوجي جدير بالاهتمام والفهم إن أردنا القطع مع عوامل تكرار هذه الأزمات. لقد حاولت هيئة الانصاف والمصالحة، من دون أن تكون مسلحة بالوسائل العلمية الضرورية وبالوقت الكافي، وبالتواضع الضروري، فهم أسباب هذه الأزمات المتواترة بالاعتماد على منهجية العدالة الانتقالية فقط، والحال أن هذه المنهجية، أي منهجية العدالة الانتقالية، هي منهجية لإعادة رسم آفاق العيش المشترك، والبحث عن السبل المتوافق حولها لإعادة بناء القنطرة المؤدية إلى الديمقراطية، وليست منهجية لفهم أسباب تواتر الأزمات السياسية-الاجتماعية وأثرها على البناء الديمقراطي. وبالرغم من أن أهم عناصر منهجية العدالة الانتقالية هي البحث والكشف عن الحقيقة، إلا أن الحقيقة، التي عادة ما يبحث عنها المشتغلون بوسائل العدالة الانتقالية، ليست هي الآلية التي يمكن أن تساعدنا على فهم مجتمعات مماثلة لمجتمع الريف، أو غيره من المجتمعات التي صنعت نفسها من خلال تفاعل خاص مع جغرافيتها وتاريخها ومعتقداتها، وعلاقتها بمحيطها وتصورها لصيغ بناء مستقبلها، ومساهمتها في البناء المشترك وصيغ استرجاعها الخاص لذاكرتها المشتركة وطموحاتها للمساهمة الفعالة في التسيير التشاركي لما هو مشترك بينها، وبين من كتب لهم الاشتراك معه كميائيا في مجال جغرافي مصون بفعل عدة أحداث تاريخية صنعت منه اليوم ما يعرف في الكيمياء السياسي المعاصر بالدولة الوطنية. وبالرغم من ذلك، تبقى تجربة الإنصاف والمصالحة مع الريف صمام أمان سياسي حتى بالنسبة للذين ناهضوها منذ البداية، وتجربة مهمة في تاريخ تجارب المصالحة المماثلة، ويبقى تقريرها مقدمة غير مكتملة لبداية الاشتغال العميق والرصين لفهم عوامل تواتر الأزمات التي عاشها الريف، إلا أن ذلك لن يتأتى من دون الاستعانة بالوسائل العلمية الضرورية؛ ذلك أن أزمات الريف مرتبطة، دون الإعلان عن ذلك من قبل قادتها، بصيغة الاسترجاع المشترك للذاكرة وحقها في التواجد الاعتباري، مما يفسر اختباء قادة كل هذه الأزمات وراء مطالب اقتصادية واجتماعية وسياسية غير دقيقة تنقصها الأرقام ويعوزها كل ما يمكن أن يأتي في دفتر مطالب مجموعة سياسية أو حزبية أو نقابية أو حقوقية، والتجائهم إلى حمل صور زعيم ناضل في سياق غير السياق الذي يشتغلون فيه، وإلى حمل أعلام- رايات لم يستطع كبار حامليها إقناعنا بضرورة حملها المكثف من طرف مطالبين بحقوق اقتصادية واجتماعية وثقافية صرفة، وهي ظاهرة سياسية تستوجب الاستنجاد بمعاول علماء مباحث العلوم الانسانية برمتها، ولاسيما الأنثروبولوجيا، وعلم الاجتماع، وعلم النفس الاجتماعي، والسيميائيات، ومحللي الرموز والإشارات. وأعتقد أن هذا الأمر مستعجل، ويمكن إسناده في المرحلة الأولى إلى المجلس الوطني لحقوق الانسان الذي سيعطي لهذا العمل بعده السياسي والحقوقي، قبل أن نفكر في خلق مؤسسة وطنية لحماية المكتسبات السياسية والحقوقية ورسم استراتيجية تجنب الأزمات السياسية والاقتصادية، خاصة تلك التي لها طبيعة التواتر كأزمات الريف والصحراء خاصة. وإذا كان تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة بالصفة التي حددناها، فإن توصياتها كانت توصيات تشي بالتسرع؛ فقد أوصت بها حتى قبل أن يتفق أعضاؤها حول مفهوم دقيق لما يعرف في أدبيات العدالة الانتقالية ب"جبر الضرر الجماعي"، فالمهتمون بشؤون الهيئة يعرفون أنها غرقت في الفترة الأخيرة من عمرها في محاولة تكييف مغربي لمفهوم "جبر الضرر الجماعي"، متسائلة مع نفسها، ومع من كان يهتم بعملها، هل جبر الضرر الجماعي هو مجموعة مشاريع رمزية أم هو ضرورة البحث عن صيغ إلحاق المناطق المتضررة، بفعل العقاب الجماعي، بالمناطق التي لم تتضرر واستفادت طيلة هذه المدة بالمشاريع التنموية؟ والحال أن جبر الضرر الجماعي، وفق الإيقاع المغربي، كان يتطلب شجاعة التعامل مع الريف بنوع من التمييز الإيجابي لتجنب ما نعيشه اليوم. وبالرغم من هذه الملاحظات حول عمل هيئة الانصاف والمصالحة، فهي تبقى عملا سياسيا مهما جدا، وينم عن شجاعة وذكاء شعب وملك. لذا، نحن لا نتصور محاولة لمعالجة الأزمة التي يعيشها الريف اليوم خارج روح مسلسل المصالحة مع الريف، الذي هو مسلسل – دون أن أملَّ من تكراره-طويل ومعقد، ويتطلب إعمال الذكاء الجماعي لجميع المعنيين. وما تشبث كل المهتمين المغاربة من الحقوقيين خاصة بضرورة قراءة متجددة لتوصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، وتنفيذ ذكي لتوصياتها، مع ما يتطلبه ذلك من جعل التوصيات في موضوع الريف عناوين لمشاريع تلتقي مع المشاريع الكبرى المؤهلة للمنطقة، والتي سوف تساهم بجعلها في قلب التحولات الاقتصادية الكبرى التي تعرفها المملكة، إلا من أجل تجاوز الفهم الضيق لجبر الضرر الجماعي الذي اشتغلت به الهيئة، وفهم غضب الملك الذي عبر عن استيائه وانزعاجه وقلقه، بخصوص عدم تنفيذ المشاريع التي تضمنها مشروع منارة المتوسط، الذي تم توقيعه تحت الرئاسة الفعلية لجلالته، بتطوان في أكتوبر 2015، في الآجال المحددة لها؛ ذلك أن منارة المتوسط كانت تتويجا لجبر الضرر الجماعي ومقدمة لجعل التنمية توسيعا لخيارات البشر. على سبيل الختم، فإن الذين حاولوا تسفيه المصالحة مع الريف بخلفية نظرية المؤامرة، خاصة من أهل الريف، خاطئون بشكل مطلق، والذين حاولوا تلميعها دون الانتباه بعد مرور أزيد من 12 سنة على انتهاء أعمالها إلى ضرورة إعطائها روحا ثانية خاطئون كذلك. بخلاف ذلك، نعتبر أن استمرار تجربة الإنصاف والمصالحة المغربية في الريادة على المستوى الجهوي، واستمرار وقعها الإيجابي عالميا، يستوجب–وإلى حدود الإقرار الجماعي بتحقيق الديمقراطية بالمقاييس المعترف بها دوليا–الانتباه إلى ضرورة القيام بقراءة متجددة لتقريرها، وإلى ضرورة تحيين وتكييف توصياتها؛ لأن قبول كل الأطراف باللجوء إلى العدالة الانتقالية من أجل إعادة بناء المشترك فيه قبول واضح باعتبار الأمر مفتوحا على الزمن الطويل، وأن النموذج التنموي الوطني يجب أن يساير روح تقرير هيئة الانصاف والمصالحة، ويساير توصياتها. ومن هنا، يمكن للقراء فهم البلاغ الذي أصدرناه في مركز الذاكرة المشتركة من أجل الديمقراطية والسلم في موضوع أزمة الريف، والداعي إلى "مراجعة النموذج التنموي عبر إعادة تقييم البرامج التنموية في المنطقة وفق رؤية تجعل التنمية توسيعا لخيارات البشر، وهذا التوسيع هو روح الإنصاف والعدالة الاجتماعية، ويمكن اعتبار "الحسيمة منارة المتوسط" مبتدأ له، مما يتطلب اليوم، وبجزم، إبعاد مثل هذه المشاريع عن المزايدات الحزبية-السياسوية، والضرب بيد من حديد على يد كل من يحاول جعل استقرار الوطن في خدمة أوهامه السياسية". وطنيا، ورغم أن منطلق مطالب الحركة الاحتجاجية مرتبط بمنطقة الريف عموما، والحسيمة بشكل خاص، فإن طبيعة المطالب ونوعها يجعلان شروط التعميم حاضرة؛ لذلك ينبغي العمل –كما دعينا في البلاغ نفسه– على ضرورة إنجاز برنامج إنقاذ وطني يبتدئ من الريف مع منارة المتوسط وما سيليها من مشاريع، ثم تعميمه وطنيا في مرحلة لاحقة اعتمادا على برمجة محددة ووفق رؤية توافقية تستوعب روح الإنصاف والمصالحة المتجدد، ومبنية على نتائج مناظرة وطنية لا تقصي أحدا أو مؤسسة، وتجعل المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار. وفي الأمر استمرار لاشتغال الديمقراطيين الحقيقيين على موضوع دمقرطة الدولة ودمقرطة المجتمع، باعتبار أن المحنة التي يجتازها الوطن اليوم ما هي إلا دعوة إلى ضخ مزيد من الأوكسجين في رئتي تجربة الإنصاف والمصالحة، ودرس في البناء الديمقراطي المتجدد ليس إلا. *رئيس مركز الذاكرة المشتركة من أجل الديمقراطية و السلم