ما يحدث في الريف من حراك شعبي لا يفتر ولا يخبو بالرغم من مرور ما يناهز ثمانية أشهر منذ اندلاعه، بل ما يبرح يتوهَّج ويتمدَّد إلى مدن مغربية أخرى، ينبغي النظر إليه من زاوية المحددات كافة، في تضافرها وتفاعلها، وباعتبار التاريخانية الخاصة بالريف، والتي لم تكن يوما تجري مثلما يجري النهر الهادئ. المحددات الاقتصادية والاجتماعية التي بلورها نشطاء الحراك، وقيَّدوا سقفها في جملة من المطالب الحقوقية لا تتعدى الحد الأدنى والضروري من "الحياة الطيبة" القائمة على الحرية، والكرامة، والعدالة الاجتماعية (مستشفى، جامعة، طرق، شغل)، هي التي كانت من وراء الحراك الأول في عام 1958، وهي عينُها التي ملأت كأس الحراك الثاني الذي سوف تفيضه "النقطة" التراجيدية المتمثلة في "طحْن" محسن فكري يوم 28 أكتوبر 2017. لن يُحرِّك الحراك سواكن الحكومة لمدة نصف عام، تجاهلاً، أو تصغيراً، أو قضاء للحاجة بتركها. كما أن الأحزاب السياسية المنهمكة آنذاك في الترتيب الانتخابي لم تلتفت إلى التنويه الآتي من الريف، في شكل وقفات احتجاجية متواترة لشباب الحسيمة، سرعان ما سوف تتحول إلى تيار عارم وجارف، يعٌم منطقة الريف كافة بمدنها وقراها ومداشرها، ويحشد الساكنة عن بكرة أبيها. أما الدولة فلم تجد من أسلوب للدفع والردع سوى "المقاربة الأمنية"التقليدية، أي المقاربة ذاتها التي اجترحتها سنة 1958، والتي أثخنت في الجسد الريفي، ووصمت ذاكرته بجرح غائر لا يندمل. هذا الجرح التاريخي، المنقول جيلاً عن جيل، لا بد من التدبُّر فيه لفهم ما جرى ويجري من أحداث. ومن أسفٍ فإن المقاربة الأمنية، فضلا عن أنها تتأدَّى خارج السياق، إذ لا تستقيم مع الطبيعة السلمية للحراك، بل وتتعارض مع الإطار الحقوقي للمطالب المرفوعة، غير مُنتِجة. يقول ابن عربي: "يأتي باللين ما يأتي بالقهر، ولا يأتي بالقهر ما يأتي باللين". سَرْد الريف الجرح بالوَصْم. وَصْم الحراك الأول، وقد كان أيضاً حراكاً اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً محضاً، ب"الانفصال"، لإضفاء "الشرعية" على أمر إخماده بالنار، وبشراسة عزَّ نظيرها. يجد هذا الوصم الداحض أدواته ومفرداته في القراءة المتهافتة، التي لا يكل البعض عن الترويج لها بشتى الوسائل، لثورة عبد الكريم الخطابي، التي تظل، طرداً وعكساً، ثورة تحررية ضد الاستعمار، ثورة بأفق وطني، وبنفس وحدوي لا امتراء فيه. لم تعمل الدولة، في أعقاب الاستقلال، على توطين الإنجاز غير المسبوق لثورة الخطابي ضمن السَّرْد الوطني، وعلى امتلاك رمزيته الباذخة من طرف المغاربة كافة، واعتباره من المشتركات الجماعية للأمة. بل، على النقيض من ذلك، سوف يمحو السردُ الوطني السردَ الريفي كما تمحو الريحُ السحابَ، وهو ما سينجُم عنه، على مرِّ السنين، ترسُّخ الوصْم المقبوح في المخيال المغربي، ينْكأُ الجرح كلما ذاع الخطاب البغيض وشاعت الرواية المقيتة. الجرح، اصطلاحاً، "هو ظهور وصف في الرواي يثلم عدالته، أو يخل بحفظه وضبطه، مما يترتب عنه سقوط روايته أو ضعفها وردّها. والتجريح وصف الرواي بصفات تقتضي تضعيف روايته أو عدم قبولها". في فورة الحراك الثاني، جاءت المسيرة الكبرى ليوم الخميس 18 ماي 2017 في الحسيمة كرد فعل جماهيري هادر، مباشر وعفوي، على البلاغ السيئ الذكر، الذي صدر عن أحزاب الأغلبية الحكومية، والذي صيغ بمفردات مذمومة تسْتظْهِر على ساكنة الريف، بينما هي، في النهاية، "تثلم عدالة الراوي، وتخل بحفظه وضبطه". جاءت المسيرة الحاشدة لتجريح وصف الانفصال، ولتضعيف رواية التخوين، ولردِّها على أصحابها. كان جواب ساكنة الريف التي حجَّت إلى الحسيمة جوابا بليغاً، صادقاً، ومُفحِماً، يجُبُّ الوصف الجارح، ويقلب فعل "الانفصال"، المبني للمجهول، إلى فعل "الفصل"، المبني للمعلوم، أي للسياسات العمومية التي أدت، كما هو الظنُّ لدى الساكنة، إلى عزل المنطقة اقتصادياً، وتهميشها اجتماعياً، وإقصائها ثقافياً. إن واقع الحرمان الذي تعرفه المنطقة على جميع الأصعدة هو ما كان قد حدا بالدولة إلى بلورة إستراتيجية "الحسيمة منارة المتوسط 2015-2019"، إلا أنها بقيت حبراً على ورق، كما سيُجْلي ذلك الحراك. وعندما يلْتف الريع بالفساد، ويفشو النهب والاستيلاء، لا مناص من أن يكون ذلك "مادة لإذهابه الآمال من أهله"، وتغْذِيةً لشعور دفين ، يصعب دفْعُه، بأن التنمية تتأدَّى بسرعتين، سرعة فائقة ل"المغرب النافع"، وسرعة وئيدة ورتيبة، تكاد تراوح في المكان، متروكة ل"المغرب غير النافع". اقتصاد الحرمان تنْسحب فرضية "اقتصاد الحرمان" على نموذج التنمية الذي تعرفه منطقة الريف، مثلها في ذلك مثل بعض المناطق الطرَفية التي تعاني بدورها من الخصاص، ومن الهشاشة على مستوى البنيات التحتية، والأنشطة الإنتاجية، والخدمات الاجتماعية. وبطبيعة الحال، فإن "التحول" الذي عرفته السيرورة الاقتصادية على الصعيد الوطني، في وقت وجيز، هو تحول غير مسبوق، باحتساب حجم العجز المتراكم، منذ الاستقلال، على مستوى التنمية البشرية، وباعتبار الشروخ التي طالت البنية الترابية، بين المركز والأطراف، والضرر الجماعي الذي لحق بالمناطق المهمَّشة والمعزولة، ومن بينها منطقة الريف، كما جاء في تقرير "خمسون سنة من التنمية البشرية"، وفي توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة. تنطوي "المبادرة الوطنية للتنمية البشرية"، بالقوة، على ما يلزم من الشروط لكي تقف التنمية على قدميها، وتزاوج بين التوازنات الماكرواقتصادية والتوازنات الاجتماعية، بين الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، بين التنافسية الترابية والإنصاف المناطقي، بين الضبط الإستراتيجي والعمودي للسياسات، وبين التدبير المحلي والأفقي للمبادرات. لكن المؤشرات لن تُسجِّل ذلك المنسوب من التحسُّن الذي كان هو الغاية من "المبادرة الوطنية للتنمية البشرية"، سواء تعلق الأمر بالفقر، أو بالهشاشة، أو بالبطالة، أو بالفوارق الاجتماعية والمناطقية التي سوف تتفاقم بشكل صارخ. إن المردودية المأمولة من الاستثمار في "الأوراش الكبرى" لا تتحقَّق سوى في المدة الطويلة، بينما حاجيات الناس تُقْضَى في المدة المحدودة، وتستوجب، من ثمة، حلولا فورية. هذه النتيجة تحُثُّ على تعديل النظر في خيار التنمية من حيث الأولويات، والتوازنات. في الآتي بعضٌ من الُمخرجات، التي تمخَّض عنها الحراك، والتي تصبُّ في ذات الاتجاه. الدَّيْن التاريخي تخلص "القراءة الأعراضية" لحراك الريف إلى أن من الأسباب العميقة الثاوية من ورائه قُصورُ الدولة عن قضاء "الدَّيْن الأصلي" الذي عليها تجاه المجتمع، والذي يتجلَّى، بالأساس، في"الحقوق الأولية" (التعليم، الصحة، السكن، الشغل)، التي مازالت، بعد مرور أزيد من نصف قرن على الاستقلال، تتصدَّر قائمة "المطالب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية" المرفوعة في الريف، وفي مناطق أخرى من المغرب. قضاء "الدين الأصلي" أمسى، اليوم، من الشروط الواجبة لشرعية الدولة. وكَيْلا يُفضي استمرار التدافع إلى ما يصطلح عليه في نظرية المباريات ب"مأزق السجين"، من العقل أن تجْنح الدولة إلى الصَّفح الجميل، لأنها "بتدبير المصالح أقْوم وأعْرف" (الماوردي)؛ وعليها أن تمضي نحو تعديل المقاربة من مقاربة أمنية تأخذ الحراك بالقهر، إلى مقاربة تنموية، تصالحية وإنصافية. فالتعديل هو من العدل، وهو ضد الجور. وتعديل الدولة يكون بتزْكِية سلوكاتها مؤسسياً عن كل ما من شأنه أن يثْلِم شرعيتها، كما يكون بتجويد أدائها لكي لا يُخِلَّ سوء التدبير بسياستها. ومن مُخرجات الحراك أن يُعاد النظر في تراتبية الأولويات التي تقوم عليها الرؤية التنموية في بلادنا، إذ إن ترجيح كفة الاستثمار في القدرات البشرية (تعليم، صحة، سكن، شغل) لا يأتي بالثمار المرجوة حتى يصل إلى "الكتلة الحرجة"التي دونها تظل "المبادرة الوطنية للتنمية البشرية"حرثا في الماء، لا تنتج، في أفضل الأحوال، سوى أنماط من التنمية الرثة. الاستثمار الكثيف في الإنسان، بالإنسان، وللإنسان هو التعديل الأمثل الذي من شأنه أن يمد الأوراش الكبرى والبرامج القطاعية بالكفاءات المطلوبة، ويوفر للنموذج التنموي الوطني التوازن المجالي الضروري، ويهيئ له القاعدة الاجتماعية المتماسكة، التي يشُدُّ بعضها بعضاً كالبُنيان المرصوص. ومن مُخرجات الحراك، أيضا، أنَّ التماسك الاجتماعي، شأنه في ذلك شأن التوازن الترابي، لا يستقيم في غياب العدل، خاصة في مجال توزيع الثروة الوطنية، الملموسة وغير الملموسة. وقديما قال ابن خلدون (المقدمة، الفصل43): "جباة الأموال بغير حقها ظلمة، والمعتدون عليها ظلمة، والمنتهبون لها ظلمة، والمانعون لحقوق الناس ظلمة، وخصاب الأملاك على العموم ظلمة، ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران الذي هو مادتها لإذهابه الآمال من أهله. واعلم أن هذه هي الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم، وهو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه، وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري، وهي الحكمة العامة المراعية للشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة من حفظ الدين، والنفس والعقل والنسل والمال". *أستاذ الاقتصاد، جامعة محمد الخامس بالرباط.