يعتقد البعض أن حراك الريف وليد اليوم، لكننا نعتقد أن آثاره اليوم تمتد لسنوات سابقة خلت من الأسئلة القانونية والاجتماعية المقلقة لانتهاك حكومة بنكيران المنهجي والجماعي للقانون "العقاب الجماعي للملفات الاجتماعية"، فهو في الواقع حراكات من الظلم القانوني والاقتصادي والاجتماعي، عنوانه العريض غياب العدالة الاجتماعية أساس السلم الاجتماعي، وهو حراك ضد حراك مضاد للإدارة، تغولت واستبدت وانهارت لديها منظومة القيم، فتملكها إحساس دفين بالرغبة في التسلط والقهر، ووضعت نفسها فوق المواطن وفوق القانون، لا سلطة تعلو سلطتها ولا صوت فوق قراراتها وأوامرها ونواهيها. والخطير في الأمر أنه شتان بين ممارسة الواقع وتجبره وجمالية النصوص وجودتها ومجافاتها له وتناقضها معه، فالدستور في فصله السادس ينص على أن القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة. والجميع، أشخاص ذاتيين واعتباريين، بمن فيهم السلطات العمومية، متساوون أمامه، وملزمون بالامتثال له. ومن واجب السلطات العمومية العمل على توفير الظروف التي تمكن من تعميم الطابع الفعلي لحرية المواطنات والمواطنين، والمساواة بينهم، ومن مشاركتهم في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. حراك الريف يمكن تلخيصه في هذا الفصل الذي هو عنوان الكرامة والمساواة والحرية والعدالة. وإذا ما حاولنا أن نسلط حاضرنا وماضينا على سؤال الشرعية وسيادة القانون، نجد أن هناك خرقا وانتهاكا إداريا جماعيا مستمرا للقانون في أغلب الملفات الاجتماعية الحارقة، فمن قضية الأطر المعطلة لمحضر20 يوليوز وإصرار حكومة بنكيران على خرقه وتعطيل مرسوم 2011 المنفذ له، رغم أنه أبرم تأسيسا عليه محضر بين مجموعات الأطر المعطلة والدولة، تعهدت فيه الأخيرة بتوظيفهم في الدفعة الثانية بعدما وظفت الدفعة الأولى؛ لكن إرادة تدنيس القانون من طرف الحكومة كانت أقوى من الدستور والقانون والأخلاق، فتم العبث بالمحضر وبمن يعنيهم، فتحول الحق في التشغيل الذي كان أملا إلى سراب وأضغاث أحلام، وتبخرت أماني أصحابه وعائلاتهم التي حصدت ريح الغدر والخيانة، ليس من طرف أشخاص بل من طرف إدارة لا ترحم بدون مشاعر ولا ضمير. وسرعان ما استفقنا على أن الاتفاقات لا حجية لها وأن الحكومة الجديدة لا تلتزم بتعهدات الحكومة السابقة وكأننا مام دول وليس دولة واحدة. وقد قاربت المحكمة الإدارية بالرباط في العديد من أحكامها هذا الإشكال بقولها "إنه لا يعقل إقامة تمييز في الحق في الشغل بين الدفعة الأولى للأطر العليا المعطلة التي استفادت من الإدماج المباشر والدفعة الثانية التي عطل فيها المحضر بدون وجه حق عن إنتاج آثاره القانونية بالمخالفة للقانون ومبادئ المساواة، والأسس الأخلاقية والسياسية الوطنية والدينية لتسيير الشأن العام، والتي تفترض تقوية دعائم دولة المؤسسات ورد الاعتبار لالتزامات الإدارة واستمراريتها، وما يفرضه حسن النية في تنفيذ التزاماتها وتعهداتها، بصرف النظر عن الاعتبار الشخصي، من أجل بلوغ المصلحة العامة المثلى والفضلى، وإذكاء روح الثقة في الميثاق الدستوري الوطني الذي يعتبر احترام القانون وسموه جوهره وكيانه الأساسي، لأن سلطة تسيير الشأن العام ليست امتيازا شخصيا لمن يتولاه، بل هي مسؤولية وأمانة وطنية ودينية قوامها التمسك بالنهج القويم في إرساء الشرعية والتصرف في حدود أحكام القانون باعتباره قيدا على كل أعمال وتصرفات الإدارة. وحيث إن نظام التوظيف المباشر نفسه لم يقم تمييزا بين المواطنين ولم يخل بقاعدة المساواة أو الاستحقاق، طالما أنه مفتوح لجميع حملة الشهادات العلمية المطلوبة المتماثلة مراكزهم القانونية الذين اختاروا الاستفادة منه، ولم يقص فئة على حساب أخرى، لأن المرجع الوحيد هو توافر الشهادة العلمية دون غيرها، وتملك الإدارة في جميع الأحوال الرقابة على تطبيق المحضر وآليات تفعيله على مجموع المواطنين، وتوخى المشرع منه تحقيق عدالة اجتماعية تعزز انخراط الطاقات الشابة والحية في النسيج الاقتصادي والتنموي، وتضمن تقليص الفوارق الاجتماعية بين مختلف فئات المجتمع، لتحقيق السلم الاجتماعي المعتبر صيانة ديمومة آثاره واجب لاتصاله بالنظام العام غير المرتبط بظروف أو فصل معينين، لأن أكبر تحد يواجهه القانون في العالم المعاصر اليوم هو التحدي الاجتماعي. وحيث إن المخالف لقاعدة المساواة الدستورية تبعا لذلك ليس التوظيف المباشر، وإنما العصف بالمرسوم المنظم له وتجاهل تفعيل المحضر التنفيذي له، رغم سبق تنفيذه على مجموعات أخرى، بحجج لا تستقيم قانونا مستمدة من تقصيرها وحدها في تطبيقه". وحيث إن الهدف الرئيسي من إخضاع الإدارة للقانون وللرقابة القضائية هو تأمين الحماية لحقوق وحريات الأفراد ضد تعسف السلطات العامة، وخصوصاً السلطة التنفيذية، فإنه يُفترض في دولة القانون ضمان حقوق وحريات الأفراد ودعم مبدأ المسؤولية والمحاسبة وكسر حالة الاستهتار بنصوص القانون وبأحكام المحاكم بالشكل المثير للانتباه. وحيث إن مجمع الدساتير الحديثة للدول تنص على كفالة هذه الحقوق والحريات، والتدخل الإيجابي على مستوى الممارسة والفعل -لا مجرد الخطاب- لكفالتها وتنميتها، ومنها الحق الدستوري في الشغل وتقلد الوظائف العمومية-المعتبر جزءا أصيلا من الكرامة الإنسانية، وتفعيلا لمبادئ المواطنة الحقة- الذي نصت عليه المواثيق الدولية (البند الأول من المادة 21، المادة 23 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، المادة 25 (ج) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والمادة 6 من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإعلانات المنظمة الدولية للشغل، ومقررات المنظمة العربية للشغل). وحيث إن عدم انضباط الإدارة لمقتضيات القانون الناص على التوظيف المباشر، وللقواعد الدستورية الوطنية والدولية المتصلة بكل من الحق الأساسي في الشغل، ومبدأ المساواة، وحماية المال العام للدولة من المخاطر الناجمة عن المسؤولية عن عدم التنفيذ، يحتم الحكم عليها باتخاذ إجراءات التسوية العاجلة والفورية للوضعية الإدارية والمالية للمدعية وفقا للمرسوم الوزاري رقم 2.11.100 الصادر بتاريخ 8-4- 2011 موضوع محضر 20 يوليوز 2011. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أعيد تكرار نفس المآسي والأحزان والآلام بنفس منطق الاغتيال الجماعي للقانون مع قضية الأساتذة المتدربين المرسبين ظلما وعدوانا، ليس لكفاءتهم وإنما لنضالاتهم واستماتتهم في الدفاع عن قضيتهم، ففي الوقت الذي اعتقدنا أن عصر إهانة الإدارة لاتفاقاتها قد ولى وانتهى مع أطر محضر 20 يوليوز، تم إبرام اتفاق تسوية ومحضر ينهي أزمة الأساتذة المتدربين ومقاطعتهم لفصول الدراسة احتجاجا على مرسوم فصل التكوين عن التوظيف، وكانت من بنوده الاتفاق على نجاح الفوج كاملا في مباراة للتخرج اعتبرت شكلية، إلا أن ذلك لم يحصل، ووقع التنصل من الاتفاق، رغم أنه أبرم تحت رقابة المبادرة المدنية انتقاما منهم، للي ذراعهم وإفراغ مفهوم النضال المبدئي من أساسه، وخلق تنافر وتطاحن بين الناجحين والمرسبين. واستمرارا في المنطق العدائي نفسه للقانون، تنكرت الحكومة أيضا لاتفاقية تشغيل 10 آلاف إطار في القطاع الخاص، فوجد المكونون أنفسهم يحوزون شهادة لا تغني ولا تسمن من جوع، وتحول فصل التوظيف عن التكوين الى التكوين من أجل التكوين في حلقة مستمرة من الاحتيال والنصب الإداري، لأن الإدماج في سوق الشغل أصبح إدماجا في البطالة، ما راكم من الأزمات النفسية والاجتماعية التي لحقت بهم جراء تنصل الدولة من مسؤولياتها وتخليها عنهم، بعدما أكملوا تكوينهم بالمدارس العليا للأساتذة. وبعيدا عن الاتفاقيات التي تنكرت لها الإدارة، والتي أهدرت من خلالها مفهوم المساواة أمام القانون وإعطاء المثل والقدوة في احترامه، شنت هجوما تشريعيا غير مسبوق بإصلاح قانوني يؤسس للتوظيف بالعقدة بدون تكوين، فتحول الموظف إلى أجير يوجد في وضعية تعاقدية مع الإدارة، تتحكم في حياته الوظيفية بحي تملك وحدها تمديد العقدة أو وضع حد لها قبل أوانها وبدون تعويض، في نظام أقل ما يوصف أنه أشبه بنظام السخرة. لكن الإصلاح التخريبي لحكومة بنكيران لنظام التقاعد شكل أخطر عملية للإجهاز على حقوق الموظفين المدنيين دون العسكريين، من خلال الرفع من الخدمة الدنيا للاستفادة من المعاش قبل بلوغ حد سن الإحالة على التقاعد، بثلاث سنوات لتصل إلى 24 سنة بالنسبة للذكور وإلى 18 سنة بالنسبة للإناث، وإلغاء شرط العدد الأقصى للأقساط السنوية القابلة للتصفية، والمحدد حاليا في 40 قسطا، ومراجعة النسبة السنوية المعتمدة لاحتساب المعاش، في ما يخص الحقوق التي ستكتسب ابتداء من فاتح يناير 2017 من 2.5 في المائة إلى 2 في المائة، وتخفيض هذه النسبة في ما يتعلق بهذه الحقوق، في حالة الإحالة على التقاعد بناء على طلب، من 2 في المائة المعمول بها حاليا إلى 1.5 في المائة، مع عدم تطبيق التخفيض الأخير في حالة التوفر على 41 سنة من الانخراط في النظام. كما تم تحديد الأجر المرجعي لاحتساب المعاش في متوسط عناصر الأجرة برسم 96 شهرا الأخيرة من الخدمة الفعلية، والرفع من نسبة الاقتطاع تدريجيا، كما أن الموظف أو المستخدم المحذوف من الأسلاك نتيجة استقالة مقبولة بصفة قانونية أو العزل من غير توقيف حق التقاعد أو الإحالة على التقاعد لعدم الكفاءة المهنية لا يستفيد من التقاعد المستحق إلى حين بلوغ السن القانونية للإحالة على التقاعد. هذه الهجمة الشرسة على حقوق الموظفين والشغيلة كان من تداعياتها تدهور السلم الاجتماعي، لاسيما أانه في مقابل هذا النكوص التشريعي المبرر بالأزمة المالية للصناديق لوحظ استهتار في حماية المال العام والافلات من العقاب بعدم التعاطي الجدي مع مطالب المواطنين بإلغاء معاشات الوزراء والبرلمانيين وفرض ضريبة على الثروة. نستنتج من ذلك أن غياب روح احترام القانون لدى الإدارة وانتهاكه المستمر وبشكل له امتداد جماعي واجتماعي ترتب عنه شعور صادم لدى شريحة كبيرة من المواطنين من أن الإدارة عدوة المواطن، وتستلذ بتعذيبه المعنوي والمادي في لقمة عيشة وفي حقه في الشغل والصحة والعدل، والأهم من ذلك الحق في الكرامة والعيش الكريم، ما رفع من منسوب عدم الثقة وزكى أسلوب الاحتجاج على الأوضاع إلى غاية وضع القطار في السكة. ومن هنا تبدت أزمة حراك الريف باعتبارها المدخل لرفع المظلوميات بمختلف مظاهرها القانونية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. حينما تصبح الإدارة تحترم القانون وتعطي المثل للمواطنين في احترامه، آنذاك يمكن الحديث عن انتقال ديمقراطي وسيادة القانون ودولة الحق والقانون، أما واستمرارها في الانتهاك المنهجي والمستمر للقانون، فيعني انحلال الدولة وسيطرة قانون الغاب بميلها للعدالة الخاصة والعنف التشريعي والإداري؛ لأن من يملك السلطة يجب أن يملك ناصية الحكمة والعدالة في تدبيرها بمنطق الدستور والقانون والمحاسبة والمسؤولية، وليس بمنطق القوة والحلول الأمنية التي لن تسبب إلا الاحتقان؛ فالجرأة تقتضى الشجاعة في اتخاذ القرارات والاستجابة للمطالب الحقوقية لحراك الريف بشكل يعيد للسلم الاجتماعي والعدالة الاجتماعية حيويتهما واعتبارهما، والمدخل الإفراج الشامل عن المعتقلين واجراء مصالحة شاملة مع أهلنا في الريف. إن من يستحق العقاب عن جريمة زعزعة ولاء المواطنين للدولة المغربية ولمؤسسات الشعب المغربي هي الإدارة والحكومة غير المواطنة التي تخرق القانون صباح مساء، وليس المواطن الذي يحتج على خروقاتها ومظالمها، فالزعزعة تكون بتثبيت الظلم والفساد وليس بمواجهتهما.