التشخيص الهندسي البيداغوجي: تشير أغلب اللقاءات التشاورية والتكوينية والتخطيطية إلى مشاكل الهندسة البيداغوجية، المتجسدة في كثرة المقاربات البيداغوجية وتنوعها واستيراد النماذج من الخارج والبحث عن التغيير السريع في المناهج التعليمية، مما يخلق ارتباكا في الرؤية، ثم سيادة المقاربة التقليدية في التدريس، وعدم وضوح المضامين العلمية والتربوية. وترى هذه التشخيصات ضرورة استحضار الواقع المغربي وعدم استيراد المقاربات المتجاوزة نظريا وعمليا، وتوحيد وتطوير المقاربة البيداغوجية من أجل تجاوز سكونية البرامج والمناهج، والانطلاق من دراسات ميدانية وإشراك خبراء وفاعلين تربويين ومدرسين مغاربة في أفق بلورة نموذج تربوي مغربي أصيل. ويرى المهندسون البيداغوجيون ضرورة تحسيس الآباء والأمهات بجميع مستجدات المناهج التدريسية والكتب المدرسية وترك المجال للأساتذة، في إطار المرونة البيداغوجية، لاعتماد المقاربة المناسبة التي تلائم طبيعة كل مادة وكل درس على حدة. ويعتبر مشروع "تطوير المقاربة البيداغوجية" من مشاريع البرنامج الاستراتيجي، الذي يؤكد على تحسين "جودة التعلمات"، والتحكم في محددات "النموذج البيداغوجي"، ووضع آليات لتحيين الكتب المدرسية، وتقوية تعلم اللغات والعلوم والتقنيات الرياضية، وتطوير آليات الإبداع والبحث البيداغوجي. وفي إطار ما يسمى بمشروع "الفعل البيداغوجي" يهدف البرنامج الاستراتيجي إلى تطوير آليات تقويم المكتسبات، وبنيات ونظام التوجيه والإعلام، ووضع سياسة وطنية في مادة تقويم التعلمات. ويهدف مشروع "تطوير التسيير البيداغوجي" إلى: - تطوير "الانجاز البيداغوجي" والإداري للمدرسة وتقوية استقلاليتها بدعمها وملازمتها في البلورة والتتبع لمشروعها وتقوية كفاءات المدراء والمسيرين للمؤسسات، ووضع آليات وإجراءات الاختيار والتقويم، ووضع رهن إشارة المؤسسات موارد القرب والدعم المنهجي والمادي. - إن التقارير تشخص الإشكالات وتحدد الأهداف وتغير البرامج وتقوم بالتداريب والتكوين، ولكن العجلة لا تدور، فأين المشكل؟ - إن المشكل في طريقة التفكير و"البنية البيداغوجية"، ومعرفة "الاحتياجات التربوية"، وتشخيص الإشكالات البيداغوجية ثم إرادة "الفعل البيداغوجي". الإشكال البيداغوجي: إن حديثنا عن البيداغوجية وهندستها يجعلنا أمام إشكالات إبستمولوجية وصعوبات ومعيقات منها: صعوبة المزاوجة بين البيداغوجية ومستوى الوعي المعرفي والاجتماعي؛ أي كيف يمكن أن نساير التطور المعرفي في واقع هش البنيات، وصعوبة الربط بين البيداغوجية النظرية والبيداغوجية الواقعية، وصعوبة تطويرها من خلال نتائج التلاميذ والطلبة التي تبدو محبطة وتتطلب "مشروع إنقاذ لا "مشروع مسايرة". ومن الإشكالات أن هندستنا البيداغوجية هي إملاء خارجي (دول وأبناك ومؤسسات كبرى...)؛ حيث لا تراعى الخصوصيات ولا " الزمن التعليمي" الذي يختلف في الدول النامية عن "الزمن الاقتصادي" و"الزمن السياسي"، فثماره بعيدة ولا يمكن "رهنه" ولا يمكن تطبيق أي نموذج غير مبيئ أو غير مقاسي، ونأخذ نموذج نظام الوحدات الجامعي "الفرنسي" عندنا، فقد اختصر الإصلاح في "معلبات" وحدات وبغلاف زمني قياسي يصعب الإلمام بمجالاتها، وأغلب الوحدات مداخل وتحديدات جزئية أو "كوكتيل تعريفي" لا تتعمق في المقاربات ولا تحليلاتها ولا تنمي مهارة التفكير ولا الاستقصاء ولا ترفق ب"حصص للنقاش". فهل الإصلاح البيداغوجي هو التخلي عن النظام القديم بمشاكله والبحث عن بديل كيفما كان دون تقييسه أو تبييئه؟ إن الطرق البيداغوجية المستعملة في تعليمنا تحتاج إلى بنية تحتية وأنظمة معرفية ومعلوماتية لتطبيقها، فنظام الوحدات التي اشتغلنا به يعرف مشاكل في الدول التي أنشأته، فلم يعالج الهدر الجامعي والغيابات، ووحدات لا تجد بنيتها اللوجستيكية، والطلبة يرسبون في وحدة ويعيدونها في وقت لاحق غير محدد ولا يستطيعون ولوج وحدات مقابلة لها في الفصول المقبلة، أو قد يلتحقون بوحدة تقوم في معارفها على الوحدة التي رسبوا فيها. هذا "تكرار مع وقف التنفيذ" أو "انفصام في معرفة الوحدات" أو "الكريدي المعرفي"، فيصبح الشتات المعرفي وهم استيفاء الوحدات، والطالب معلق في منزلة بين المنزلتين لا هو بالناجح ولا بالراسب، وقد يشطب عليه من لائحة الطلبة في بداية الموسم، كما وقع في إحدى الكليات التي عرفت احتجاجا لهذا السبب، وتصبح المداولات بورصة لفواصل النقط للإنقاذ من الضياع، والاعتماد على "المعاوضة" الذي يجعل الطالب يحصل على الدبلوم بالوحدات التكميلية أو التطبيقية على حساب الرئيسة مادامت نقطة غير موجبة للرسوب (أقل من 06)، وهو حل إنقاذي غير بيداغوجي، ف"المعاوضة" آفة التحصيل الجامعي، لا تتوفر فيها الشروط المعرفية. إضافة إلى مشاكل إنجاز المحاضرات والدروس في غلاف زمني ماراثوني لا يتم فيه الاستيعاب ولا يمكن تفويج الطلبة لكثرتهم ولغياب البنية اللوجستيكية من جهة، ولأن نظام الوحدات لا يسمح بذلك من جهة ثانية، فاختزال الغلاف الزمني للإجازة في ثلاث سنوات لا يسعف الاستيعاب المعرفي للطلبة؛ إذ أصبحت الوحدات "تقديمات تعريفية" لا تمكن من التعمق أو التطبيقات اللازمة. من أجل متخيل بيداغوجي: غالبا ما تمكننا النماذج الذهنية من بناء النظريات، فهي أداة للتفكير، تلخص المكونات والعلاقات، تشرح ما يحدث، وترشد إلى استراتيجيات وسياسات تربوية، توحد الرؤى حول الاختيارات، تضبط المفاهيم والمصطلحات المتداولة، تقدم المحددات النظرية والعلمية كأنها "دلائل خاصة"، قد تمكننا من خطاطات عملية لنقل ديداكتيكي للنظريات البيداغوجية. المتخيل البيداغوجي الذي نطرح قد يقترب أو يبتعد عن الواقع، فهو يرمي إلى توجيه صياغة للفرضيات، وليس استعراضا أو عرضا للواقع، بل يمد هذا العرض بأدوات تعبير قد نتوافق بشأنها، نحصل عليه من خلال وجهات نظر ومجموعة من الظواهر الواقعية لتشكيل لوحة نظرية متجانسة، أو يمكن أن تكون بداية لنظرية ما، تراعي الخصوصيات وتكون على بنية مقاسية لواقعنا التعليمي. متخيلنا يقوم على تطوير النموذج البيداغوجي بشكل دائم مراعيا التطورات المعرفية والتقنية والواقعية، يخلق ثقافة الدليل البيداغوجي، ويبلور مفاهيم "الهندسة البيداغوجية" كالفاعل البيداغوجي" و"البيداغوجي المصاحب" و"الأستاذ البيداغوجي" و"الدليل البيداغوجي" و"الأب والأم البيداغوجيين"... كما يمكن لهذا المتخيل أن يحل الإشكال بين البيداغوجي والسياسي، فمنطق العالم البيداغوجي يروم المعرفة، والسياسي يسعى إلى التأثير في الواقع وتغييره، وحين نروم التأثير في الواقع وتغيير وجهته نخرج من دائرة العلم إلى دائرة السياسة، حسب ماكس فيبير، فيمكن للمتخيل أن يكون البرزخ بين العلم والسياسة. المتخيل حوار بيداغوجي، نقاشات بين الفاعلين، رجوع إلى أرشيف الشعب البيداغوجية والأيام الدراسية والتكوينات والتقارير، رغم شكليتها ففيها مادة خام للدراسة. المتخيل هو التفكير في نوع الإنسان الذي نريد، وبأية مرجعية وأي أفق، وما المعارف التي سنعلمها له، والتفكير في طرقها الديداكتيكية، فالمدرس لا يعلم فقط، بل يفكر في مضامين التعليم وطرق التدريس. إن البيداغوجية لا توجد في المجتمعات "الشمولية"، التي لا تتم فيها الإجابة الديمقراطية عن الإنسان الذي نريد، كما يطرح فيليب ميريو، بل قد لا يطرح السؤال أصلا. المتخيل يحاول أن يخلق مرونة و"حيادية نسبية بيداغوجية"، لأن البيداغوجية لا يمكن أن تكون موضوعية، لأنها رؤية للعالم، وعلاقات بشرية وأخلاقية، فالمتخيل البيداغوجي هو تفكير في المعرفة والمجتمع. المتخيل البيداغوجي ارتباط بشروط تطور النظم الاقتصادية والاجتماعية ومتطلبات سوق الشغل وتوظيف مصادر المعرفة التي توفرها وسائل الاتصال وتأثيرها في حياة الناس وعلاقاتهم، وارتباط بالنظريات والنماذج والمفاهيم الجديدة المحققة لجودة التعليم.