اسنا أهلا للفتوى في مغرب العلماء والفقهاء وورثة علم المقاصد، وليس في نيتنا النيل من أفاضل علماءنا، من ورثة النبوة، في توجيههم لما يقولون، ومتى يحجمون عن القول، فهم هداة مهتدون، ينيرون لنا الطريق المستقيم إلى رب العالمين بغض النظر عن الضغوط المسلطة عليهم من كل جانب. لكن موضوع مقالتنا جزء من سابق إلحاحنا على ضرورة إصلاح الحقل الديني، "هل يحتاج الإصلاح الديني إلى إصلاح"، ودافعنا لتخصيص موضوع ما يطلق عليه اجتماعيا بالرهن أو "رهن البيوت والدور" بالمدن الكبرى بالتخصيص، هو ما وجدته من تناقض في الرؤى والاجتهادات، فهناك من يجيز هذه "التخريجة" لتخفيف وطأة الكراء الفاحش بدواعي اجتماعية واقتصادية، وهناك من يسعى جاهدا لتحريمه بكونه لا يمثل "رهنا" بالمفهوم الشرعي وإنما هو "ربا يجلب نفعا". مقدمات تمهيدية لقد سبق أن اشتغلت مرات عديدة حول موضوع"رهن المنازل" بجريدة التجديد، وحاولت جاهدا بمعية زملاء مجتهدين في الشأن الديني(حسن اشرف، خليل بن الشهبة، عبد الغني بوضرة..) التوصل لما يمكن أن يرفع هذا اللبس والحرج عن فقراء ومساكين المدن، ممن اضطرهم غلاء الكراء للارتماء في ما يطلق عليه اجتماعيا ب"الرهن". والرهن في صورته الشرعية، كما يقول سادتنا العلماء، معروفة ومثالها أن الرسول الأكرم مات وذرعه مرهونة عند يهودي..وآية الرهن في سورة البقرة وتفسيرها يلخص هذا المفهوم الشرعي، الذي لا يجادل في تقبله والعمل به مسلم، يريد أن يلقى ربه غير متلبس بربا البنوك التقليدية أو الربوية بالمفهوم الواضح. غير أن مفاد صورته الاجتماعية هي وضع قيمة من المال(قرض) مقابل اتفاق بين "الكاري" والمكتري على أن يسدد ثمن الكراء بقيمة أقل مما يتعارف عليه السماسرة يبدو أن تخفيض قيمة الكراء، التي نجهل إلى حدود كتابة هاته المقالة معايير هاته القيمة الكرائية، ومن يحددها ومن يستفيد من السكوت عليها-. وبهاته "التخريجة" الاجتماعية والاقتصادية استطاعت الطبقة الفقيرة والمتوسطة ممن يقصدون المدن الكبرى، لأن المدن الصغرى والقرى خالية من التعامل بهاته الظاهرة، أن يضبطوا مستوى دخلهم الشهري والتزاماتهم العائلية مع وتيرة الكراء وجشع بعض المرتزقين من فاتورة الكراء المقضة للمضاجع. وفي بحثنا في الموضوع، توقفت عند ثلاثة قامات علمية، أو أربع، حاولت أن تراعي البعد المقاصدي في القضية، مثل الدكتور أحمد الريسوني والدكتور أحمد الخمليشي والدكتور محمد الروكي، فيما شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي رحمه الله حام حول موضوع الربا في معارك علمية وإعلامية مشهودة ، جدير بكل عالم متبصر الرجوع إليها في مظانها. في ما ذهب إلى تحريمه علماء أجلاء بناء على قاعدة "كل قرض جر نفعا فهو ربا"، وهي جزء من حديث نبوي شريف، ومن بين هؤلاء الشيخ فريد الأنصاري رحمه الله وغيره كثير، ولكن مثلت به لما له من قبول مجتمعي. والقضية ببعدها الاجتماعي والاقتصادي والشرعي في نظري الخاص أولى من مراجعة فتوى قتل المرتد، التي بين دواعيها السياسية، منذ أكثر من ست سنوات، الدكتور أحمد الريسوني لما سئل عنها نشر الرأي في جريدة أخبار اليوم في سياق جدال منظمات حقوق الإنسان حول تجريم عقوبة الإعدام وعلاقتها بالحق في الحياة، ولكن الكبر يمنع بعض علمائنا أن يكون عالم من غير المؤسسة العلمية سباقا لاجتهاد يشهد له. اجتهادات ممهدة إن اجتهادات إعادة النظر في موضوع "رهن المنازل" بهذا المفهوم الشائع اجتماعيا، كان من ثمرتها الفتوى الشهيرة، لما يسمى ب "ليزينغ" للدكتور محمد الروكي، التي جعلت عالم المقاصد أحمد الريسوني، يتبناها وينشرها على موقعه الشخصي. وذهب الدكتور أحمد الخمليشي، مدير دار الحديث الحسنية، في حوار معه لموقع إسلام أونلاين وقتها، إلى ضرورة إزالة الغبار على موضوع "الربا" ومقاربته مقاربة تجديدية تراعي أحوال الناس ورفع الحرج عنهم شرعيا، وإن كان تهيب طرح كل أفكاره في الموضوع، واكتفى بتقريب الموضوع بمثال توضيحي مفاده: مثال شراء ثلاجة قرضا، فإن أراد المشترى شراءها في الحين دفع أربعة آلاف درهم، وإن أرادها قرضا بتقسيط لمدة اشهر رضي بشرائها بزيادة خمسمائة درهم، بتراضي بين البائع والمشتري، وهي صورة مقابلة لموضوعنا، وهي علاقة الزيادة أو النقصان بالقرض تبعا لمقولة رفع الحرج والتيسير بين المتعاملين. ثالث الاجتهادات، هي للعالم المقاصدي أحمد الريسوني، ومفادها، من خلال دردشة شخصية أن القضية جديدة ومعاصرة ولم تكن في عهد الرسول الأكرم والصحابة الكرام، وعلى العالم المجتهد ألا يذهب إلى الفقه القديم بالتمسك بالأحوط ليبذل قصارى جهده العقلي ليبحث لها عن قالب شرعي جديد يصوغ فيه ما يراه تحريما أو تحليلا، وأن يعمل نظره الاجتهادي لوضع قالب شرعي يراعي ملابساتها ليرفع العنت على المسلمين أو المستفتين. وقد اكتفيت بثلاث رؤى تدعو للاجتهاد في موضوعّ "رهن المنازل"، فيما رأي شيخ الأزهر محمد سيد طنطاويرحمه الله يخص أهل الكنانة، وبالمقابل لم يتيسر لي الاطلاع على رأي مجلسنا العلمي الأعلى، خاصة بعد هجومه القوي على فتوى الشيخ يوسف القرضاوي، في شأن الاقتراض من البنوك الربوية لعدم وجود مصارف إسلامية بالمغرب ترفع العنت على المغاربة. دواعي ملحة للاجتهاد قد يعتبر البعض النبش في هذا الموضوع من قبيل إشعال"الفتنة نائمة"، ولكن مع طلب الغفران من المولى عز وجل، هو محاولة لدفع علمائنا للقرب من هموم المغاربة وتحرير فتوى فاصلة في الموضوع، فقضية قتل المرتد، على أهميتها، ذات طابع سياسي وحقوقي، وعلماؤنا الأجلاء، كما أراد لهم الشيخ أحمد التوفيق هم "خدام السياسة" الكبرى بالمغرب، ولا حق لهم في الدخول في شأن السياسة الصغرى للأحزاب. لذا يجب أن نستحضر الدواعي الاقتصادية والاجتماعية في مقاربة الموضوع، فندرس الموضوع قانونيا بفصل عقدي الرهن الاجتماعي بين عقدين: عقد دين، والثاني عقد كراء بثمن، ولا يمكن أن نعتبرهما سببا لتخفيض قيمة الكراء، لأن الكراء بالنسبة لأجير أو عامل بالمدن الكبرى يتقاضى ألفي درهم يجب أن يراعي حاله والتزاماته الأسرية، وإلا إذا قارب وضعه بين الاقتراض الربوي، الذي يؤدي عنه ألف درهم شهريا ويمتلك شقة لفضل الثاني على أن يبقى رهينة وعبدا لكاري طماع، جعل الكراء تقاعدا مريحا أكثر من الوزير وبدون تصريح ضريبي. وهنا لا أحلل قضية الاقتراض الربوي، ولكن ‘يراده من قبيل تفصيل جزئيات في موضوع الحديث، ولكل امرئ ما نوى. ثانيا، كيف نسمح بالتضييق على هاته الفئة الاجتماعية اقتصاديا، التي أبدعت هذه المعاملة الاجتماعية والاقتصادية للنجاة من فاتورة الكراء المرهقة، ونخفف على أصحاب العقارات والمنعشين العقاريين، الذين يستفيدون من تخفيضات خالية، ويبتزون دماء الراغبين في شققهم بدون حس وطني أو إنساني بله شرعي.. ثالث المتعلقات بالموضوع، هو التساؤل عمن يملك السلطة على بعض المكترين الجشعين، الذين يخيرون مستغلي منازلهم الفائضة عن حاجتهم الاجتماعية بين: الإفراغ وبين الزيادة في سومة الكراء، ونماذج هذا التسلط تحتاج إلى بحث ميداني يقارب الموضوع وفق آليات علم الاجتماع. ولا ننكر، بالمقابل، وجود بعض المكترين أيضا، ممن لا يملكون حسا شرعيا في التماطل على أصحاب هاته المنازل، ليرتمي الجميع في دهاليز "قضاء" لا يفك طلاسم القضية إلا بأسلوب "من كان حجته أو كذبته شادة أو لديه من يرشي فهو المنتصر في آخر مراحل التقاضي".. وهنا الغابة التي تخفي الشجرة وليس العكس. رابع الدواعي، وهو موجه لعلمائنا الأجلاء، وهو ضرورة الانكباب العاجل على مثل هاته المواضيع التي يثيرها الإعلام، قبل أن تستفحل وتفادي سياسة " يا ما حاجات قضيناها بتركه". وثقتي الشخصي بعلمائنا داخل المؤسسات وخارجها كبيرة. فالعقل الاجتهادي، الذي توصل إلى تحريم تناول الكحول أثناء السياقة، هو العقل الذي باستطاعته أن يفتي في أن بيع الكحول في المتاجر الكبرى للمسلمين محرم شرعا، ولكل فؤد من المجتمع الحق في أن يأخذ الفتوى أو يتركها، لأنهم هم أصحاب البيان.. والعقل الاجتهادي، الذي يتراجع عن فتوى قتل المرتد هو الذي بإمكانه أن يقول إن ما يجري في الملاهي والمهرجانات والمواسم من موبقات تخل بتدين المسلم وتوحيده، فممن هم مستأمنون عليه بما يسمى بالأمن الروحي.. والعقل الاجتهادي، الذي لام الشيخ القرضاوي على تحليل الاستفادة من الاقتراض الربوي عند عدم وجود مصارف إسلامية، هو القادر على تبني الدفاع عن هاته المصارف الاسلامية بالمغرب وتسميتها إسلامية بدون تلاعب في التسمية للنأي بها عن الارتزاق الاديولوجي والسياسي.. والعقل الاجتهادي، الذي ربما يضطر للنظر في الإرث والشذوذ و... لضغوط إديولوجية ودولية في المستقبل، هو المخول لبحثها استباقا وبيان حكم الله الشرعي بدون وجل إلا من المولى عز وجل، ومن أراد الأخذ بما ذهب له علماؤنا فله الحرية، ومن رفض الرأي فله حقه الشخصي دون أن يفسد على الجماعة أو الأمة ضوابطها الاجتماعية والدينية.. ومقاربة الموضوع وفق قاعدة الضرورات والمحذورات هو الكفيل بخوض غمار مثل هاته القضايا، مع الارتكاز على سابق الفتوى المؤسسة للمصلحة، التي تعد إبداعا مغربيا لا نظير له. وهنا مسؤولية القائمين على الشأن الديني الرسمي بتدارك ما ينظرون إليه بإقصاء من يحاول الاجتهاد المواكب لقضايا المجتمع من العلماء والانخراط في قضايا المجتمع، وأن يعي هؤلاء الماسكين بافواه العلماء أن هاته السياسة بقدر ما "تهني" دماغهم من فتاوى تزعجهم بقدر ما وفرت سلامة شرعية لهؤلاء المقصين من المؤسسات العلمية الرسمية، حتى لا يكونوا شهداء زور على تمريغ الفتوى والشؤون الدينية في دنس السياسة، والله المستعان. *كاتب وصحافي