«إصلاحات» أمير المؤمنين إنها «ثورة إصلاحية» من فوق تبقي على الملك، وفق الدستور المغربي الجديد، «أمير المؤمنين» و«رئيس الدولة» وشخصاً «لا تنتهك حرمته» يتولى «ضمان ممارسة الشعائر الدينية» كما يتولى «رئاسة مجلس الأمن الأعلى» ويختص ب«تدبير القضايا الأمنية الاستراتيجية الداخلية والخارجية، الهيكلية والطارئة». الملكية البرلمانية، وإنهاء نفوذ المقربين، وعزل الحكومة، ومحاكمة المسؤولين ورجال الأعمال المتورطين في الفساد، لا تدخل إذاً في نطاق المشروع الإصلاحي ومسودة الدستور الجديد، كيف يمكن قراءة المبادرة الملكية؟ يرى البعض في الوعود الملكية وقاية للحكم الملكي من أن تصيبه الحناجر الغاضبة، ذلك أن حزمة الإصلاحات الجديدة ليست الا محاولة لتلمس نبض الشارع، قبل أن تصل «نزعة» المطالبة بإسقاط الملك الى الميادين المغربية، سيما وأن الاحتقان الشديد بلغ أشده في هذا البلد الذي يشهد نمو متزايدا في اعداد المحتجين والمتذمرين. لكن الشارع المغربي كان ينتظر حزمة إصلاحات من نوع آخر تحد من صلاحيات الملك السياسية والدينية، على أن يتم طرح ذلك التعديل للاستفتاء العام خلال شهر تموز (يوليو) المقبل. لكن الملك اكتفى بتعزيز صلاحيات الوزير الأول الذي سيصير اسمه في الدستور الجديد «رئيس الحكومة»، كما وسع صلاحيات البرلمان. وبحسب الدستور الحالي فإن صلاحيات تعيين الموظفين المدنيين الكبار في الدولة هي من اختصاص الملك، فيما يعمل الدستور المرتقب على توسيع نطاق صلاحيات البرلمان، بحيث تضاف إلى هذه الصلاحيات سلطة إصدار العفو العام، وهو اختصاص كان منوطًا بالملك بموجب الدستور، على أن يبقى الملك القائد الأعلى للقوات المسلَّحة، وتبقى لديه سلطة تعيين السفراء والدبلوماسيين. وقد نصت إحدى مواد مشروع الدستور المعدل على ضرورة استقلالية القضاء عن السلطتين التنفيذية والاشتراعية. كما منح صلاحيات إلى رئيس الوزراء المنتظر لتعيين الموظفين في الوظائف والإدارات العامة وفي المناصب العليا والهيئات، كذلك في الشركات العامة. لكن الملك حصر في الوقت بنفسه صلاحيات سياسيَة واسعة إضافة إلى صفته الأولى كأمير للمؤمنين، وهي عمليا تكرسه السلطة الدينية الوحيدة في البلاد. وهنا برزت مخاوف من أن تصير مثل هذه التعديلات مجرد إصلاحات شكليّة لا مناص فيها لاحقا عن تدخل الملك في مختلف الأمور، ليكون الإصلاح الجديد غطاء للملك كي يعزز سلطاته خلف ستار أن الشعب هو الذي أقر بالتعديلات الدستورية الجديدة، وعليه يحقق الملك لنفسه ضمانة مجتمعية ودولية على الأقل في حال إطلاق حناجر الثوار المغاربة من عقالها. وفيما لقي مشروع العاهل المغربي ترحيبا من بعض القوى السياسية التقليدية ، فإن البعض الآخر أبدى ملاحظات عليه، مثل حركة «20 فبراير»، التي تقود حركة الاحتجاجات الشعبية المغربية منذ انطلاقتها تزامنًا مع انطلاقة ثورة محمد البوعزيزي في تونس. وقالت الحركة، التي تنظم تظاهرات احتجاجية منذ أشهر، إن الإصلاحات التي أعلنها الملك غير كافية ودعت الى التظاهر السلمي مجددا ولبى عشرات الآلاف دعوتها. وبينما تطالب هذه الحركة ب «دستور يؤسس لملكية برلمانية في المغرب تسود ولا تحكم على الطراز الاسباني أو البريطاني»، فإن السلطة ترى أنه لا بد من وجود انتقال تدريجي للوصول إلى هذه المرحلة. والملك المغربي اقترح تغييرات كثيرة على دستور والده، لكنه لم يصل إلى مستوى تغييرات ترسي ملكية برلمانية تسود ولا تحكم». فالقصر يعتبر أن الطبقة السياسية «غير مؤهلة لتسلم كل سلطات الملك، خصوصا في مجال الدفاع وفي الحقلين الديني، والأمني». وهو لا يجد نفسه مضطرا الى تنازلات من هذا القبيل وبهذا المستوى مادامت الأحزاب السياسية الكبيرة وحتى التي في المعارضة منها مثل حزب العدالة والتنمية، لا تطالب بأن تُعطى للحكومة المقبلة صلاحيات في هذه المجالات الحساسة، الجيش والدين والأمن. ورغم ان مشروع الدستور الحالي يعطي صلاحيات أكبر للحكومة في إدارة شؤون البلاد، فإن جزءا من هذه الصلاحيات بقيت مع الملك. فبموجب هذا التعديل يتعين على رئيس الحكومة ان يكون على توافق تام مع الملك إذا أراد أن يستمر في منصبه. والنص الجديد لا يزال يحتفظ للملك بسلطات اشتراعية تنفيذية وقضائية، إضافة إلى ترؤسه المجلس الوزاري الذي يحدّد مجموعة من الصلاحيات. واستنادا الى «حركة 20 فبراير» التي ولدت من رحم التحركات الشعبية وقادت التظاهرات الشعبية الأخيرة، فان أحد نواقص الدستور الجديد يكمن في أن «رئيس الوزراء لا يُعيِّن مسؤولين، بل يقدم اقتراحاً بتعيينهم (...) لذلك فإن تسمية رئيس الحكومة غير دقيقة لأنها حكومة برئيسين، والحديث عن فصل السلطة غير مضمون، لأننا سنكون في صدد سلطة تنفيذية ناعمة». ويبقى الملك رئيساً لمجلس الوزراء والمجلس الأعلى للسلطة القضائية، ويظل قائداً للجيش ويرأس «المجلس الأعلى للأمن»، الذي أنشئ حديثاً، لكن بات يتعين عليه من الآن فصاعداً أن يختار رئيس الحكومة المقبل من داخل الحزب الذي يحتل صدارة الانتخابات، فيما كان في إمكان الملك حتى الآن اختيار من يشاء لرئاسة الحكومة. أما رئيس الوزراء، فسيحظى من جهته بصلاحية حل مجلس النواب، التي كانت منوطة بالملك وحده في الدستور الحالي. ومع ان الإصلاحات شملت توسيع صلاحيات القضاء وتوفير بعض الضمانات لاستقلاله إضافة الى اصلاحات في مجال حقوق الإنسان وتجريم التعذيب، بيد أن «المشرعين، الذين وضعوا مشروع الدستور هذا حاولوا إلى حد ما أن يستجيبوا إلى مطالب الشارع، لكن ابقوا للملك على دور استراتيجي، يروه هم ويراه هو ضروريا لاستقرار البلاد»، فاحتفاظ الملك برئاسة المجلس الأعلى للقضاء تعتبره «20 فبراير» «تعدياً» على مبدأ فصل السلطات. وتأخذ الحركة الاحتجاجية الشبابية ايضا على المشروع أنه لم يمس صلاحيات الملك الدينية، فالملك لا يزال «أمير المؤمنين» وتاليًا فإن المشروع يكرسه كسلطة دينية وحيدة في المملكة. ويجزم الخبراء بأن إلغاء وضع الملك كرمز مقدس «هو أمر مهم جداً»، ففي هذه الحالة يمكن ان «تتناقش معه وتطرح ملاحظات على خطابه وقراراته. في الماضي كان هناك مسحة دينية على شخصه، ولم يتمكن أي صحافي أو مفكر أو كاتب الاقتراب من آراء الملك أو قراراته». وبالنسبة الى المؤرخ بيار فيرميرين صاحب كتاب «مغرب محمد السادس: العملية الانتقالية غير المكتملة» فإن المشروع «يحتوي بالتأكيد على تقدم لكن الملك لايزال مهيمنا على الساحة السياسية بقوته». وتأتي هذه الجملة من الإصلاحات المنتظرة بعد موجة من أكبر الاحتجاجات المناهضة للمؤسسة الحاكمة في المغرب منذ عقود، في الوقت الذي تراقب بعض الأحزاب المشهد السياسي العام في المملكة، فضلا عن ترقب الحقوقيين والسياسيين مدى استجابة المملكة المغربية لإطلاق الحريات العامَّة، باعتبارها من أهم المبادئ التي قامت من أجلها الثورات العربية، بل والتي نادت بها صراحةً، خصوصا في ظل ما تسمح به التعديلات الجديدة من منح العاهل المغربي صلاحياتٍ مطلقةً في المجالات العسكرية والدينية. غير أن محمد السادس في خطابه، بعث برسالة للتأكيد على عدم المساس بالملك، اذ شدد على أهمية «التكريس الدستوري للملكية المواطنة وللملك المواطن، من خلال التنصيص على أن شخص الملك لا تنتهك حرمته، وعلى الاحترام والتوقير الواجب له كملك أمير للمؤمنين ورئيس الدولة». تكرار المكرر هنا تبدو المخاوف الحزبية من عدم صدقية حزمة الإصلاحات المعلن عنها، خصوصا وأن «حركة 20 فبراير» اعتبرت انها لم تستجب لصلب مطالب الحركة وأهمها: تأسيس ملكية برلمانية تسهم في انتقال الدولة من ملكية مطلقة إلى ملكية دستورية، والدعوة الى إنهاء نفوذ المقربين من الملك، وعزل الحكومة، ومحاكمة المسؤولين ورجال الأعمال المتهمين بالفساد، والحد من النفوذ التجاري المتزايد للملك وأفراد اسرته وتدخل مسؤولي البلاط الملكي في السياسة. فللأسرة الملكية في المغرب مثلا حصة تبلغ 60 في المئة في الشركة الوطنية للاستثمار التي مثل صافي أرباحها المجمعة للعام 2010 ما يصل الى 27 في المئة من اجمالي صافي الارباح التي حققتها الشركات المدرجة في بورصة الدارالبيضاء. ويقول رئيس تحرير موقع «لكم»المستقل علي أنزولا انه «مع السوابق التاريخية لوعود الإصلاح التي لم يتم الوفاء بها كان من المفترض أن تدفع الملكية إلى أن تعزز من صدقية مشروع الإصلاح الدستوري بالإعلان عن فصل واضح بين المال والسلطة». وأضاف: «الملك لا يتحكم فقط في السلطات السياسية والعسكرية والدينية بل يتحكم كذلك في سلطات الاقتصاد والأعمال. الدستور الجديد يعزز من بنية الاستبداد السياسي كما هي عليه الآن تحت الدستور الحالي. المسألة مسألة وقت فقط قبل أن يستنتج المغاربة أن الدستور الجديد لن يغير شيئا كثيرا». ومع ارتفاع معدل البطالة ومعدل الفقر ونظام تعليمي غير فعال وما يعتبر درجة عالية من المحاباة والفساد يرى الكثيرون ان المغرب يحتوي على كل العناصر المكونة للثورة. ويحذر المحتجون في الشارع المغربي من ضرورة ان يعمل الملك على محاربة الفساد، وأن يحدَّ من نفوذ النخبة السريَّة بالقصر الملكي، قبل أن تطول الحناجر المغربيَّة البلاط الملكي ذاته مطالبة بخلعه من الأساس، فالمغرب لن يكون بعيدا عن تونس ومصر ولن تفيده المواقف الاستعلائية التي تردد اليوم ما كان يتبجح به النظام المصري السابق قبل سقوطه من أن «مصر ليست كتونس» مما يتطلب من البلاط الملكي في المغرب أن يستوعب الدرس، وألا يقول إن المغرب ليست كمصر وتونس، أو غيرهما. ومن هنا، فإن المؤسسة الملكيّة في المغرب تقف امام تحد كبير، لكنها ايضا امام فرصة تاريخية لإجراء إصلاح حقيقي وجذري، بعدما أعلن العاهل المغربي شرارة مسودة الدستور، شرط أن يتبعها ما من شأنه حرق ملامح الفساد، وقبل كل ذلك إنهاء حالة الاستبداد السياسي. "عن مجلة الكفاح العربي"