مقدمات جرت سنة الله تعالى أنه كلما تحللت الروابط بين تجمع بشري ما إلا وبرز من بين الجموع "أولو ابقية" عقلاء يسعون لإعادة جمع الشتات، وصياغة مشروع جديد يوحد الوجهة والمصير، فتتضافر الجهود لتحقيقه على أرض الواقع. ومنذ الحلم الآدمي الأول والذي تم إجهاضه على يد إبليس إلى يومنا هذا، لا تكاد ترى في تاريخ البشرية إلا أحلاما مجهضة، بحيث نستطيع أن نقول: إن تاريخ البشرية هو تاريخ هؤلاء القراصنة بامتياز، وليس من قبيل الصدفة أن الحديث عن تاريخ البشرية هو حديث عن تاريخ حروبها، وانتصاراتها وهزائمها! وليست الأمة الإسلامية استثناء من هذه السنة، فإن الله تعالى يبعث من يقوم بهذه المهمة التاريخية كما جاء في الحديث: "إن الله يبعث لهذه الأمة من يجدد لها دينها"، وقد كانت محاولة الإمام جعفر الصادق عليه السلام محاولة فريدة في هذا السياق، استمرارا لتجربة أبيه الباقر لولا أن أجهضتها تلك الجيوش من الموالي الساعين لتحسين وضعيتهم الاجتماعية بالعلم، الذين كانوا يغرفون غرفة بيمينهم من بحر هؤلاء الأئمة فيهرولون بها إلى منابر العوام، أو إلى أعتاب السلاطين -وقد طالما أفضت تلك المنابر إلى الأعتاب، والعكس-يتصدون لسد فراغات في دولة العض أحدثها افتراق السلطان عن القرآن، واختفاء أهل الإحسان فرارا من بطش السلطان، أو مزايلة للأزلام ،ذكر قصة أبي حازم... علماء بني إسرائيل... "وينحدر التاريخ إلى الملك، ويزداد التوسع، ويتأمَّرُ أصحابُ السيف، وتتكون طبقة العلماء وأصناف الدعاة والفقهاء والمفتين فيجدون مكاناً لهم في الدولة لضرورة وظائفهم. وينالون من احترام الدولة للحرمة التي تُكنُّها لهم الأمة. لكنَّ اليد الطولى كانت للسيف". ولحيوية وظيفة هذه "الطبقة" خالسها السلطان حامل السيف بالترغيب والترهيب تثبيتا لأركانه الفاقدة للشرعية، في علاقة مشبوهة كان لها الأثر الحاسم في تحويل هوية الأمة الحديثة النشأة والتكوين إلى ما نحن عليه اليوم من التمزق الشعوبي والقبلي. أهمية الحلم/ المشروع في تحريك الجموع ما من مشروع حركة اجتماعية قام في واقع الناس إلا وتقدمه موعود/برنامج مشروع يشرح الأهداف والغايات، والمبادئ والوسائل، فيرسم "حلما" يسعى الناس إلى تحقيقه في جانبه المادي، والتحقق به في الجانب المعنوي الأخلاقي! وكان ولا يزال من سنة الله في كل التجمعات البشرية وجود صنف من الناس مصاب بإعاقة نفسية خُلُقية تمنعه من التطلع والتعلق بأي "مثال"، مهما كان الطرح متماسكا ومنطقيا، ومتوافقا مع الإمكان، سنسميهم لاحقا "الخط المَصالحي"، الذي يقدم مصالحه الضيقة –شخصية كانت أم فئوية -على أية مبادئ أو صالح عام. ويعبرعن هذا الخط بوضوح البيان الأول لمؤسس دولة العض، والذي سنسوقه لاحقا إن شاء الله، لأنه يشرح بوضوح خصائص الخط "المصالحي"، ووسائله لنقض مسار "الخط المبادئي"، والذي سنسميه لاحقا ب" الخط الرسالي"، وهما خطان متناقضان! فبينما يستند الخط الرسالي إلى مبادئ يبسطها علنا قبل التصدي للفعل السياسي وولوج ميدان الشأن العام، ليكون المحيط على اطلاع تام على المبادئ والوسائل والغايات، على مقتضى الوضوح، نرى الخط المصالحي ينطلق من شعارات عُمِّية لا تكشف غالبا عن النوايا الحقيقية لرافعيها، ليسفر السلوك عن خلاف الشعارات المعلنة.