يعتبر مولاي أحمد الوكيلي، عميد الموسيقى الأندلسية المغربية (طرب الآلة)، الذي أغنى رصيده الوثائقي مؤسسة (أرشيف المغرب)، بحق، إرثا فنيا وطنيا قمينا بالعناية والمحافظة على كل مكوناته. ولعل مبادرة عائلة الفنان الراحل، في بحر الأسبوع الماضي، المتمثلة في ائتمانها مؤسسة (أرشيف المغرب) على رصيد وثائقي مهم يضم أرشيفا متنوعا خاصا بهذا الفنان المغربي، تندرج في إطار نظام الوقف والهبة الذي يعتبر من أهم الركائز المعتمدة لنشر قيم التضامن والتآزر والفضيلة في المجتمع. وتجدر الإشارة إلى أن مؤسسة "أرشيف المغرب"، التي أحدثت بموجب قانون 99/69 الصادر في 30 نونبر 2007، مؤسسة عمومية مكلفة أساسا بصيانة تراث الأرشيف الوطني وحفظه وتنظيمه وتيسير الاطلاع عليه لأغراض إدارية أو علمية أو اجتماعية أو ثقافية. وتأتي مبادرة تسليم رصيد مولاي أحمد الوكيلي لتنضاف إلى مبادرات أخرى ذات أهمية، حيث إن مؤسسة (أرشيف المغرب) كانت قد تسلمت رصيدا وثائقيا مهما يضم أرشيفا متنوعا خاصا من طرف عائلة الكاتب والدبلوماسي والإعلامي الراحل محمد العربي المساري، كما ائتمنت عائلة الراحل شمعون ليفي المؤسسة على أرشيف وثائقي مهم ومتنوع خاص بالباحث شمعون ليفي، وتسلمت المؤسسة كذلك رصيدا وثائقيا يضم أرشيفا خاصا بالكاتب المسرحي المغربي الراحل عبد الصمد الكنفاوي. كما تسلمت رصيدا غنيا من عائلة الراحل محمد جسوس، المفكر والباحث في علم الاجتماع. ويتزامن تقديم هذا الرصيد الموسيقي والوثائقي، الذي يأتي، حسب بلاغ لمؤسسة (أرشيف المغرب)، "كثمرة لوعي عائلة الوكيلي بفائدة الأرشيف الخاص كمكون للذاكرة الجماعية الوطنية، وتعبيرا منها عن رغبتها في تخليد إسم وذاكرة أحد فناني المغرب المعاصر"، مع قرب حلول الذكرى ال28 لرحيل مولاي أحمد الوكيلي الذي أطرب، بصوته الشجي وأدائه الرصين، الأسماع في العديد من الأصقاع. إن ذكرى رحيل هذا الهرم الفني (توفي يوم 25 نونبر 1988)، وتسليم رصيده الفني لمؤسسة أرشيف المغرب (13 أكتوبر 2016)، لأفضل مناسبة لتثمين ما قدمه مولاي أحمد الوكيلي، الذي ما زالت تجربته ومدرسته الفنية لم تستوعب بما فيه الكفاية من طرف الأجيال الحالية من الممارسين والمهتمين على حد سواء. ولعل هذه المبادرة المواطنة النبيلة، التي يؤمل أن تقتدي بها أسر موسيقية عريقة، ومؤسسات تحمل أسماء أساطين هذا الفن العريق، من قبيل الحاج عبد الكريم الرايس ومحمد العربي التمسماني ومولاي عبد الله الوزاني اليملاحي وعبد اللطيف بنمنصور وغيرهم كثير، تعبر عن غيرة ووعي بضرورة دعم المؤسسات الثقافية، ومن بينها مؤسسة (أرشيف المغرب) والمكتبة الوطنية للمملكة كمرفقين عموميين مسؤولين عن جمع ومعالجة التراث الوثائقي الفكري الوطني والإنساني وإتاحته للجمهور، ونقله للأجيال الحالية والمقبلة. لقد أسهمت عملية وقف الكتب والخزانات الشخصية وما تحفل به العديد من دور المفكرين والعلماء وكبار الفنانين، خلال تاريخ المغرب، إسهاما بارزا في نشر وترسيخ العديد من القيم الفكرية والمعرفية والتراثية، التي أثرت، بشكل إيجابي، العديد من مناحي الحياة الدينية والعلمية والفنية، وفي تحقيق النهضة العلمية والفكرية الشاملة، وتعزيز التقدم المعرفي، وتهيئة الظروف الملائمة للإبداع الإنساني، ما يدفع إلى التأكيد على ضرورة إحيائها في الوقت الراهن. وقد ثمن جامع بيضا، مدير مؤسسة (أرشيف المغرب)، بمناسبة حفل التوقيع على اتفاقية هذه الهبة، مبادرة عائلة الفنان الراحل بجعل رصيد مولاي أحمد الوكيلي، الذي يتضمن مقتنيات خاصة من لباس وآلات موسيقية كان يتوسل بها الفنان وتسجيلات صوتية فردية أو تسجيلات لجوق الإذاعة والتلفزة المغربية الذي كان يترأسه أو مذكرات وتقييدات وغيرها ... رهن إشارة العموم وخاصة المهتمين بالحقل الموسيقي التراثي المغربي، ليستفيدوا منها في بحوثهم العلمية والأكاديمية أو الممارسين من أجل تكريس أداء الصنعة الأندلسية وفق الطابع الأكاديمي الذي ناضل مولاي أحمد من أجل تعميمه وترسيخه عزفا وغناء. وأكد جامع بيضا، بالمناسبة، أن المؤسسة ستعمل على صيانة هذا الأرشيف وتثمينه ونقله إلى الأجيال القادمة تحت إسم "رصيد مولاي أحمد الوكيلي"، وذلك من منطلق أن الحفاظ على الذاكرة الوطنية، في مختلف تجلياتها هو حفاظ على الهوية المغربية، وأن الأرشيفات الخاصة كنز لكل المغاربة يتعين التحسيس بأهميته رغم كونه في ملكية الخواص. وذكر بلاغ مؤسسة (أرشيف المغرب) بأن الراحل يعتبر عميد موسيقى الآلة بالمغرب، بفضل إسهاماته المهمة في إثراء هذا الفن المغربي، ومن خلال الاعتناء بأنغامه وألحانه ومقاماته وتثمين العديد من القصائد الشعرية (الصنائع) المتوارثة، بالإضافة إلى إحياء صنائع نادرة انفرد بحفظها وإذاعتها لأول مرة. وفي هذا السياق، يمكن تلخيص الدور الذي قام به الوكيلي في الموسيقى الأندلسية في عنصرين أساسيين، يتعلق الأول بالتجديد في الغناء والثاني بالتجديد في العزف، حيث كان جوقه يضم كل الآلات التقليدية المعروفة، مع انفتاحه على آلات أخرى لم تكن الأجواق التقليدية تستعملها، وهكذا فقد أعطى الوكيلي أهمية كبيرة للجانب الموسيقي وعمل على إبراز صنائع جديدة، وأعطى الحيز الزمني حقه عند الأداء وأضفى هيبة خاصة على الجوق. وتبقى دعوات المفكرين والمهتمين والعلماء على حد سواء من أجل ترسيخ فكرة العودة إلى الوقف بشكل عام؛ ووهب الأرصدة والأرشيفات الخاصة، باعتباره سبيلا من أجل بناء حركة علمية وثقافية مزدهرة، ما يتطلب بث الوعي بين الجميع. كما أن الوقت قد حان لتعزيز التواصل مع مالكي الأرشيفات الخاصة وتحسيسهم بأهميتها كإرث للمغاربة ومكون للذاكرة الجماعية الوطنية وأداة للبحث العلمي والتحصيل الأكاديمي، في أفق تحصيل المنفعة العامة عبر نقلها للأجيال القادمة. *و.م.ع