على ضوء نتائج انتخابات السابع من أكتوبر لعامنا الجاري، والتي أفرزت ما اصطلح على تسميته بين مختلف المتابعين والمحللين "ثنائية قطبية" بين حزب العدالة والتنمية الذي يصنّف ضمناليمين، وبين حزب الأصالة والمعاصرة الذي يصنف أيضا ضمن "اليسار". وبغض النظر أولا عمّا إذا كان هذا "اليمين" يمينا حقّا مثلما هو اليمين في البلدان الديمقراطية، وبغض النظر ثانيا عمّا إذا كان هذا "اليسار" يسارا حقّا مثلما هو اليسار في البدان الديمقراطية،وبغض النظر ثالثا عمّا إذا كانت هذه الثنائية القطبية التي يتحدثون عنها مفتعلة من جهات عليا "متحكمة"، أو عفوية تمثل اختيارا شعبيا بالأساس...فإننا لن نتعرض لكلّ ذلك، بل سنستلهم مفهوما واحدا من كل هذا، وهو مفهوم "الثنائية القطبية" لنبني عليه منظورا آخر. لابأس إذاً أن نرجع قليلا إلى الوراء لنلقي إطلالة على تاريخ الحكومات بالمغرب، أو بدرجة أولى – ارتباطا مع أطروحة المال- الرجوع إلى تاريخ رؤساء الحكومات بالضبط، هؤلاء الذين كانوايسمّون قبل دستور 2011 ب "الوزراء الأوّلون". السؤال الأساسي الذي نرمي طرحه هنا هو : من كان يعرف هؤلاء؟ و هل كان الشعب يعرفهم؟ وعندما نعبّر ب مصطلح "الشعب"، فإننا نقصدبه الجميع دون استثناء وليس فئات معينة بذاتها. ولتقريب المعنى أكثر فإن هذا الشعب الذي نتحدث عنه هو (الذي يعرف "الملك"). إن شخص "الملك" معروف من قبل كلّ أطياف الشعب في المدن والقرى والجبال، عند الصغار والكبار، عند من يهتمون بالسياسة وعند من لا يفقه فيها قليل القليل، عند من يبالون وعند من لايبالون بشيء...وهنا بالذات نعود إلى عقد مقارنة بسيطة بين رئيس الحكومة أو الوزير الأول في الحكومات المتعاقبة على تاريخ مغرب ما بعد الاستقلال من جهة أولى وبين شخص الملك من جهة ثانية، لننتقل من جهة ثالثة إلى مقارنة شخص "الملك" مع رئيس الحكومة الحالي السيد "بنكيران". يمكننا القول بخصوص المقارنة الأولى أن الملك وحده من كان معروفا لدى عموم الشعب في مرحلة ما قبل "بنكيران" كلّها، فكانت صورته تحجب الجميع، إذ ما كان المغاربة يعرفونوزراءهم الأولون، و حتى في مراحل حرجة من التاريخ السياسي للمغرب (حكومة التناوب) فإن معرفة شخص قائد الحكومة اقتصرت على النخب وليس على عموم الشعب. فما الفارق في حكومة بنكيران؟ لمعرفة الجواب عن هذا السؤال، يمكننا أن نسأل أي مغربي في البادية أو المدينة أو الجبل كذلك: من تعرف من رجالات الدولة بعد الملك؟ سيجيب حتما بأنه يعرف بنكيران، حتى وإن لم يعرف منصبه ومسؤولياته فإنه سيعرفه كشخص لا محالة. هنا بالذات يتجلى الفرق، وليست أبدا مسألة ثانوية أو تافهة مثلما سيبدو للبعض، بل هي مسألة أساسية ورئيسية لم ينتبه إليها "المحللون" أوانصرفوا عنها لغاية في نفس يعقوب. لقد استطاع السيد "بنكيران" النفاذ إلى عمق الطبقات الشعبية حتى صار الشخصية الثانية بعد الملك في المغرب، وأكيد أنه استفاد من الظروف الإقليمية وما سمي ب"الربيع العربي" حيث ابتدأالإهتمام بالسياسة يعم مختلف طبقات المجتمع، ولكن العامل الأكبر في شهرة بنكيران هو شخصيته التي لم يعرف التاريخ السياسي للمغرب مثيلا لها، إنه يتوجه بخطابه إلى فئة عريضة كانتمقصية لزمن طويل في خطاب رئيس الحكومة، هذه الفئة العريضة من البسطاء (من حيث المستوى التعليمي والاجتماعي والاقتصادي...) لم تكن تهتم للخطابات السياسية لأنها ليست بلغتها، فلاتفقه فيها إلا القليل، وبالتالي لا تعتبر نفسها معنية بهذه الخطابات من الأساس فتهجرها. ما فعله "بنكيران" هو مصالحة الإنسان البسيط، العادي، الهامشي...مع السياسة، فصار يستمع للخطب "البنكيرانية" في البرلمان عبر التلفاز و المذياع ويشاهد الأشرطة على هاتفه...لأنه صاريفهم "الخطاب السياسي" مع "بنكيران". هذه الخاصية الكاريزمية التي يتميّز بها "بنكيران" هي مركز قوته، وهي ما جعلته محبوبا عند فئة واسعة من "البسطاء" وهؤلاء من صوّتوا له فيالانتخابات الفارطة ليتصدّر الانتخابات رغم كل القرارات القاسية التي اتخذها طيلة الخمس سنوات من عمر الحكومة السابقة، والتي مسّت المواطن البسيط في قوت يومه...إلا أنه صوّت ل"بنكيران" رغم كل ذلك، لأن رئيس الحكومة استطاع النفاذ إلى قلب هذا المواطن البسيط وأقنعه بكونه طيّبا، خلوقا، فقيرا، طاهرا...وكان ذلك كافيا لحشد عواطفه، لأن هذه الفئة من المواطنين لا تفهم لغة البرامج السياسية، ولا تستوعب المفاهيم الكبرى الرنانة التي تلازم معظم السياسيين في خطبهم...هذه الفئة تفهم لغة "بنكيران" بالضبط. إن السيد "بنكران" لا يهتم لرأي المثقفين فيه، ويعلم أنهم لا ينفكون يهاجمون طريقته في الحديث في البرلمان والمنابر الإعلامية وغيرها، ويعتبرونها تحقيرا لمكانة رئيس الحكومة، ولكنه لا يهتملهم لأنه لا يراهن عليهم بكل بساطة، هو يراهن على فئة أوسع، هم هؤلاء الذين تحدثنا عنهم فيما سلف من تحليل...يريد أن يصنع "مريدين" له يحبّونه ويجلّونه كشخص، وليس نقّادا يحاسبونه منموقعه كرئيس حكومة، وبين الصفتين بون شاسع. كخاتمة لكل ما سبق يمكن القول إن "شعبية" الزعيم السياسي هي أخطر ما يراهن عليه رجال السياسة عموما في كل البلدان الجمهورية، فغالبا ما تجد قطبية ثنائية بين شخصيتين لرئاسة دولة معينة من بين شخصيات أخرى مترشحة، أما في النظام الملكي فالأمر يختلف وبشكل خاص في المغرب، فعموم الشعب لم يعرف منذ زمن الاستقلال غير "الملك" أما الآن فصار المغاربة يعرفون شخصين "الملك" و"بنكيران"، وهذا يطرح عديدا من علامات الاستفهام التي ينبغي للمحللين السياسيين من مختلف التخصصات - وخصوصا "علم الاجتماع السياسي"- أن يطرحوهاأولا ويسعوا للإجابة عنها ثانيا، وبناء توقعات مستقبلية على ضوئها ثالثا...ومن جملة ما نتوقعه في هذا الإطار أن يستفيد الملك من هذه "الاستراتيجية البنكيرانية" فينزل بخطابه إلى مختلفطبقات الشعب تدريجيا...وهو ما بدت تظهر ملامحه من خطابه الأخير بالبرلمان حين تحدث عن علاقته المباشرة بالمواطنين واعتزازه بها وتحميله الإدارة مسؤولية التجاء المواطنين إليهمباشرة...وهو بالضبط الخطاب العاطفي الذي يبدع فيه السيد "بنكيران" بلغته الخاصة و بدون منازع. [email protected] https://www.facebook.com/rachid.sociologie.7