نعم، جعجعة انتخابية ولا طحين ديمقراطيا، ليس استهانة بما نحن بصدده من انتخابات وإنما جملة ملاحظات حولها، فالضجيج الكثير قد يحجب أحيانا الحقائق البسيطة ومن ذلك مثلا: تضخم الحديث الإعلامي حول تشابه البرامج الحزبية الانتخابية، وهو أمر صحيح في عمومه، غير أنه ليس ليس عيبا في حد ذاته، إن المنهج (أو العقل) الواصف وحده يقف عند هذا، ولا يتقدم نحو العقل العلمي (لماذا؟) ولو فعل لاكتشف أن سر ذلك يكمن الشروط الموضوعي (الوطنية والعالمة) ل "الصراع" والتي تفرض أن المشترك الوطني أهم في خطاب الجمهور من المختلف عليه اجتماعيا أو طبقيا. إن قضايا وحدة التراب والشعب والانتقال الديمقراطي والإصلاحات (الإدارة ، القضاء، التعليم...) والتشغيل الذي يعني التصنيع... هي جدول الأعمال الموضوعي للشعب ولإدارة الدولة، فكيف لا ينعكس ذلك على برامج "أحزابها" في التشابه وأحيانا التطابق. ثم إن الدستور من جهة والنظام الانتخابي من جهة ثانية لا يسمحان لبرنامج حزبي أن يحتكر الحكم، والأهم أن برامج الإدارة الانتخابية الموضوعة سلفا وخفية، هي ما ينفذ في جميع الأحوال، وهي في عمومها تنزيل مغربي لاستراتيجيات خارجية. وأدواتها لذلك لا تخضع أصلا لرئاسة الحكومة (المدراء والقطاع العام). إن الذين يهتمون بقضايا البرنامج وهم النخبة لا يشاركون في الانتخابات، أما عموم الشعب المشارك فهو لذلك يهتم بالأهم "الرفيق قبل الطريق" يحاكمون الممارسات الفعلية للأحزاب، وأيضا للأشخاص المرشحين، أو في الأقل يساومون كجماعة (بئر- طريق – مسجد...) أو ينتهزون الفرصة كأفراد. المضحك المبكي حقا أمران: أ – الدعاية ببرامج محلية، ما يؤكد أن المرشح لا يفرق بين مهام المستشار والنائب، المجلس المحلي ومجلس النواب؟ ! ب- بعضهم، اعتبر أن حجب برنامجه مزية؟ ! بل ووثق ملكيته له في "إيداع قانوني" في "المكتبة الوطنية"، فيا أمة ضحكت: 2- إن طربوش البرنامج الدستوري، هو أوسع من رأس السياسة الوطنية، وبالتالي الأحزاب، الوطنية، هما إذن غير متطابقين، بل ولا حتى متقاربين، وذلك لأن الدستور لم يكن منتوج ميزان قوى داخلي، بل خارجي بالأساس، وسنحتاج زمنا طويلا قبل أن تلتحق توازنات الصراع السياسي بما يسمح به الدستور من حقوق وتوازنات (؟ !). إن القضايا الكبرى القيمية والإستراتيجية بل وحتى المصيرية، تكاد لا تجد لها مكانا في أي برنامج، وذلك سواء الداخلية منها أو خاصة الخارجية، بما في ذلك إصلاح الدستور نفسه، الجميع عمليا يسلم بالاحتكارية الراهنة للحياة السياسية ويتصارع على الهوامش المحددة سلفا لصراع الهامشيين أو المهمشين... لا توجد لتلك القضايا من يمثلها مؤسساتيا (عدا الملك) ألم يكن جديرا بالأحزاب جميعا أن يتوافقوا ويجتمعوا على رموز وطنية عالمة وحكيمة، ويتركوا لتمثيلها ولخطابها دوائر محددة في مجلس النواب، ولو في حد أدنى (5 مثلا) وتكون لذلك دلالات ونتائج لا حصر لفوائدها الرمزية والعملية - ثم إنه ليس ثمة تعدد حزبي، إذن برنامجي حقيقي، الأغلبية الساحقة من الأحزاب هي أسماء لمسمى واحد هو الإدارة، وتعددها يعكس فقط تعدد الأجهزة بها، لا تعددا اجتماعيا- ايدولوجيا ومآلات الوطني منها (وبعض اليسار أيضا) هو حجة على ما تستطيع آليات "الديمقراطية" ، إن تحدثه من ردة، إذا هي وظفت رجعيا، سواء في إدارات الدول أو قيادات الأحزاب وعموم جمعيات المجتمع المدني، وهكذا انتهينا إلى استقطاب للصراع بين من يريد المحافظة على التبعية من خلال الوسيط الأوروبي (فرنسا - اسبانيا) ومن يراهن على التبعية المباشرة لأمريكا، وكل همه أن يستبدل نخبة بنخبة وخدما بخدم وبنوكا بنوك ولائكية بأخرى ولغة بلغة... فقط (؟ !) أما اليسار فلقد اخترق سرطانيا وتكبل داخليا وانتزعت منه روحه، شعارالاستقلال الوطني والعدالة الاشتراكية. - هذا التهافت على الأعيان وعلى رجال الأعمال، مؤسف ومضر، ليس فقط لأنه يفسد الانتخابات بالعطاء والهدايا ومسخ المواطنين إلى رعايا وإفسادهم... بل إنه أيضا يحرم عالم الأعمال من تفرغ أصحابه لمعضلاته. وذلك دون أن يقدم قيمة إضافية لنقاشات وقرارات البرلمان، وهو على كل نفس ما انتهينا اليه بمقتضى لائحتي التشبيب والتأنيث الفاضحتين، إذ لو كان المقصود منهما، التأطير والتكوين، لتحقق ذلك بوسائط شتى وأكثر فاعلية ومردودية (؟ !). - ولعل من المفارقات المضحكة للسابع من أكتوبر، أن تخفيض العتبة المثير والغريب، لا يتضرر منه الحزب المستهدف به أساسا، مقارنة إلى غيره ممن كان يتصور أنه المستفيد، إن هؤلاء جميعا اشتغلوا، إدارة وأحزابا، في اتجاه تقليل المشاركين في التسجيل والتصويت، فيا لها من "ديمقراطية" لا تراهن على مصدرها الوحيد والرئيسي، ألا وهو الشعب (؟) بل هي تخاف من مشاركته؟ ! - - أفترض لو أن المغاربة استفتوا حول هذه "المرقعة" الديمقراطية، لاختاروا الاستغاء عنها، لا للتخفيف فقط من عبئها المالي وبهتانها، وإنما أيضا وأساسا لأنها تخفي حقيقة من يحكم، ومن تم فهي تحرفها وتعطل الانتقال اليها. - إن البشرية المعاصرة تمر تدريجيا، من العناية بأزمات "الاقتصاد السياسي" إلى حلولها الكامنة في اقتصاديات أخرى أهمها الاقتصاد القيمي (أو المجتمعي أو الأخلاقي)، ولا برنامج حزبي التفت إلى هذا، عدا الذين يركزون تقليديا عل مسألتي: الدين والبيئة فضلا عن التعليم، وإنما بمرجعيات سياسية لا ثقافية ؟ ! - ما زلت أعتقد، أننا لم نقطع النهر بعد، والحاجة إلى التوافقات ما زالت مستمرة، ويفترض في التنافس، وحتى الصراع، أن يخدما التوافقات فلا أن يهمشاها وأحرى أن يفجراها، وإذا كان ما يوحد متوفرا، فلم التركيز عل ما يفرق، وهذا دور ودلالة المواثيق الوطنية، وأهمها الدستور، والقوانين والمؤسسات والآليات الإجرائية في الديمقراطية، ومنها الانتخابات، هي في آخر المطاف، محض أدوات ووسائط لضبط الاختلاف وتنظيمه حتى لا يتحول إلى فتنة وفوضى، إنها إذن "آخر الدواء" أما أوله، فهو أن نشتغل متوحدين من أجل الوحدة الوطنية المغاربية والعربية من أجل الاستقلال الوطني واستكمال التحرر والتحرير، وتحقيق التنمية والتشغيل والعدالة وغير ذلك عبث ومضيعة للوقت، والمثال التونسي الراهن (وقبله الفلسطيني والتركي والمصري) بالغ الدلالة في هذا الصدد، لقد أنجزوا في تونس جميع متطلبات البنيات "الديمقراطية" من قوانين ومؤسسات ونزاهة في الانتخابات وفصل للدين عن الإدارة... فهل استجابوا بجميع ذلك للحاجيات الموضوعية التاريخية والاجتماعية لتونس والتونسيين؟ لقد خرجوا في أولوياتهم بعد خمس سنوات من "الثورة" إلى أنها أولا محاربة الإرهاب. وهل كانت أولوية نظام الحكم قبلهم غير ذلك؟ !. الحاجة في تونس كما في غيرها، هي الى "ثورة" في الوعي إلى ثورة ثقافية، يفهمون معها أن الإرهاب (فضلا عن التوحش) ليسا هما اليوم، سوى بعض من أهم أدوات الاستعمار، قناع واستعارة له. والذي لا يمكن مقاومته والتحرر منه سوى بما سمح بالاستقلال الأول عن الاستعمار القديم. ألا وهو تأسيس كتلة وطنية ديمقراطية معبئة لجميع الطاقات والمقومات الموروثة (الدين واللغة...) والمكتسبة (إدارة الدولة) وهو سر ما نلاحظه اليوم، من تنمية واستقلال للعديد من الشعوب والدول الناهضة والمقاومة للامبريالية. ترى هل ستكتفي النخبة التونسية من الدمية (اللعبة) الديمقراطية باللهو بها؟ أم تراهم سيحولونها إلى صنم من تمر يستمطرونه الغيث. وإذا لم ينفع يأكلونه ؟ ! أما الشعب، فهو لا يعنيه ما يعتبرونه خطأ "لعبة" ديمقراطية. سوى مردودها العملي على معاشه وعلى حياته. إنه لا حل للمسألة الديمقراطية وطنيا وعربيا إلا بالإجماع على وثيقة دستورية، ولا يتم ذلك حقا وصدقا، إلا باعتمادها من قبل مجلس تأسيسي منتخب لإنجاز ذلك، وثيقة تلائمنا وليست منتوجا لتناقضات وصراعات أجنبية استعمارية، وحلا لتوازناتها. - لن يسمح بالمشاركة في الحكم، وأداء دور الوسيط مع الشارع، إلا لمن يقبل تنزيل برنامج إلا الأرض، الدولار وكنيسه (البنك الدولي) فإذا قبل بذلك من يملك شرعية الشارع، فهو أولى، غير أنه يكون بذلك قد انتحر. خلاصة: حزب رئيس ينافس نفسه، وتطارده أحزاب "حياحة" وذلك بهدف إسقاطه في حفرة (البنكين العالميين).