يصر جم غفير من المحللين و الباحثين على صعوبة التكهن بنتائج الانتخابات ليوم 7 اكتوبر 2016، اما لتعقيدات و ضبابية المشهد السياسي او لغياب رؤية واضحة لنوايا التصويت في ظل اجواء العزوف و المقاطعة و اللامبالاة السائدة في المجتمع. هكذا تجد جل التحليلات تتصف بالتعميم و التعويم و طرح كل الخيارات الممكنة اما خوفا من السقوط في فخ التنبؤ الخاطئ او اتقاء لشر المفاجآت الانتخابية. غير ان تتبع تسلسل وقائع المشهد السياسي و محاولة فهم اسباب حدوثها يتيح امكانية بناء منظومة التحليل المنطقي للأحداث و استشراف مآلاتها وبالتالي صياغة قراءة مستقبلية محتملة لنتائج الاقتراع التشريعي. ولصياغة هذا التحليل سننطلق من طرح المحددات الرئيسية التي تحكم المشهد السياسي الذي يسبق الانتخابات لصياغة ما يمكن ان يترتب عنه من نتائج و مخرجات. محددات مشهد ما قبل 7 اكتوبر يمكن اجمالا تقديم المحددات و الخصائص الأساسية للمشهد المغربي قبل يوم الاقتراع في المحاور الثلاث الآتية: أولا : حكومة تُنتخب و لا تحكم تتسم بنية تسيير الشأن العام في المغرب بتعدد الأوجه و المؤسسات و الهياكل ما ينتج عنه تقلص هامش تحرك الحكومة المنتخبة وانتفاء اثر سياستها المحتملة على الواقع و انحصار مهامها على التدبير اليومي لمشكلات الادارة و التأشير على ركام هائل من الاوراق التافهة. فالوزارات الحساسة و السيادية تسند الى شخصيات غير منتخبة، و المؤسسات العمومية الكبرى يستحوذ عليها خدام الدولة، و لكل قطاع حيوي يتم تشكيل أجهزة موازية من مجالس و هيئات عليا يتم تعيين اعضائها بصفة مباشرة و انتقائية لتباشر وضع الرؤى و تسهر على توجيهه بعيدا عن الحكومة. زد على ذلك تمتع وزارة الداخلية بحق "الفيتو" الذي يخول لها وقف كل تعيين او نشاط لا يروقها. فالنتيجة اذن أنّ من يُنتخب لا يحكم و من يحكم لا يُنتخب. فماذا يمكن أن يفعل مثلا السيد عمارة، وزير الطاقة و المعادن، امام الاخطبوط المكون من السيد الباكوري (الأمين العام السابق لحزب البام) الذي يسيطر على تسيير الطاقات البديلة، والسيدة بنخضرا (الوزيرة السابقة المنتمية لحزب الأحرار) التي تشرف على المكتب المستحوذ على قطاع المحروقات، والسيد علي الفهري الذي يسير مكتب الكهرباء و الماء، و السيد التراب الذي يسير معدن الفوسفاط، غير شراء اريكة (ناموسية) لمكتبه و الخلود للنوم. ثانيا : خريطة انتخابية متحكم فيها تعرف الخريطة الانتخابية المغربية ضبطا قبليا عن طريق نمط الاقتراع الذي لا يمكّن من فرز ناجحين كبار و بالتالي فالكل (ناجحين و خاسرين) مدعو للحكومة وقد يكون الحزب الذي حصل على نتائج ضعيفة صاحب كلمة الفصل في تشكيلها. وما الاجراءات المتخذة غداة الاقتراع من خفض للعتبة و توجيه ضربات تحت الحزام لبعض الفاعلين إلا تجسيد للرغبة في مزيد من التحكم القبلي في النتائج. قد لا يكون من المبالغة، القول ان المخزن لا يضيره من فاز بالانتخابات، مادام قد ضمن عدم اكتساح اي طرف للمشهد و بالتالي منافسته الزعامة. فلكل مقام مقال وهو قادر، بأساليبه و آلياته، على تطويع الفائز اياً كان و جعله في خدمته. وقد تبدو المسألة اتجاه الاحزاب مجرد تفضيل عمرو على زيد لا غير. ثالثا : احزاب أحلاها مر عرف المشهد الحزبي المغربي تحولات جذرية خلال العقود الأخيرة، ادت الى ترهل جزء كبير من مكوناته و خاصة تلك التي كانت تتمتع بالمرجعية الوطنية و الزخم التاريخي. فقد خَلَف في هذه الاحزاب خلْف انشغلوا بالمصالح الشخصية و الصراعات الضيقة و الاستقواء بالمخزن. وكانت النتيجة انطفاء وهجها و بروز تيارين رئيسين متمثلين في من يحمل اماني الشعب و يبحث عن ترسيخ قدمه في دار المخزن و من يحمل اماني المخزن و يبحث عن ترسيخ قدمه لدى الشعب. الأول قدم شروط المخزن على مطالب الشعب فاصبح مصيره بين المنزلتين : منزلة التصويت العقابي للمقهورين و المتضررين وما اكثرهم رغم ان جلهم لا يصوتون اصلا و منزلة وفاء المتعاطفين الذي يعول عليهم ما لم يتسرب الملل و الضجر الى نفوسهم. اما الثاني فلا يعدو ان يكون تجمعا مصلحيا بين الاعيان و اصحاب المصالح و الباحثين عن منصة وثيرة للتعبير عن ما تبقى من يساريتهم، اقتضت الظروف في مرحلة ما ان يُبلور على شكل حزب و اقتضت ظروف اخرى النفخ فيه و تزويده بمختلف الفيتامينات ليقف في وجه التيار الأول و خصوصا بعد سقوط باقي التوجهات الحزبية. ورغم فشله المتكرر في تعبئة الشارع فانه ما زال يبحث عن العمق الجماهيري. هكذا فمن يقرأ اليوم برامج الاحزاب و يستمع لخطبها، يخرج بخلاصة واحدة وهو هزالة مشروعها و مبالغة واضعيه في التنظير والوعود الى الحد الذي يظهر عدم اقتناعهم انفسهم بمحتواه و كون مشروعهم الحقيقي للحكم سيقتصر على تطبيق و تنفيذ التعليمات. مخرجات و مآلات ما بعد 7 اكتوبر انطلاقا من هذه المعطيات و المحددات يمكن استشراف مخرجات الاقتراع في النقط الاربع الآتية: أولا: الدولة تزداد عمقا (المخزن) ما يهم الجهات الحاكمة فعليا هو ضمان الاستقرار و الحفاظ على مختلف الامتيازات و المكاسب وان تخلل ذلك بعض مظاهر الاصلاح الشكلية. من اجل هذا فالأساليب والهيئات و الاشخاص تستعمل حسب الحاجة ووفق خطة مدروسة. فعلى سبيل المثال فإن المخزن استفاد كثيرا من إشراك الاسلاميين في السلطة مما اتاح له تجنب رجات حراك الربيع العربي و مكنه من تطبيق اكثر السياسات الليبرالية توحشا دون ان ينتج عن ذلك ردة فعل للشارع و ساهم كذلك في ادخال عدد من الرموز الى بيت الطاعة. فالهدف الأساس هو تثبيت منظومة الحكم الفعلية بغض النظر عن الوسيلة و ايديولوجيتها. ثانيا : الحكومة للفائزين (العدالة و التنمية و من معه) ان التنبؤ باحتلال حزب العدالة و التنمية الرتبة الاولى، خلال الانتخابات المقبلة يبقى السيناريو الراجح، ليس فقط لانضباط صفه وقاعدته التصويتية وإنما اساسا لغياب بديل حقيقي و ضعف منافسيه مما يدفع البعض و خصوصا من فئات الطبقة المتوسطة لاعتباره أهون الشر و أخف الضرر. من جهة اخرى فان تعامل هذا الحزب بمنطق الخنوع و الانقياد للمخزن و منطق الاستقواء على الشعب يبقي خياره ذا جدوى لضمان استمرار نمط الحكومات الهجينة و لتمرير مزيد من القرارات الليبرالية و اللاشعبية بغرض ضبط توازنات المالية العمومية. ثالثا : المؤسسات الموازية و الأعطيات للخاسرين (الاصالة والمعاصرة ومن معه) هناك احزاب لم تخلق للمعارضة و انما لتشارك في كعكة الحكم و التحكم. لذلك فان الخاسرين في الانتخابات من هؤلاء سيتم جبر خواطرهم اما بالتعيين في المؤسسات التي تملي على الحكومة ما يجب ان تفعل او سيتم اغداق الاعطيات عليها تعويضا لها لمشاركتها الشكلية في العملية. رابعا : الخسارة الكبرى للشعب جحر يمثل الشعب في الانتخابات المغربية دور الكمبارس الذي يظهر في المشهد بعدده الهائل دون ان يرى له أثر في الفيلم. فتارة يتم تصويره فقط لتأثيث خلفية المشهد و تارة اخرى يصور كالسيل العارم الذي يقتصر دوره على تلبية اشارة البطل. فحين يصوت الشعب على حكومة ما، فان المنتظر من هذه الاخيرة ان تخدمه (بالمفهوم اللغوي للخدمة لا بمفهومه العامي) و ان تسهر على تلبية مطالبه لا أن تنقلب عليه لتشعل النار في الاسعار و تقتطع من اجرته و تحرم ابويه من تمريض كريم و ابناءه من تعليم لائق. فعندما تغيب الارادة و الرؤية و الكفاءة تتشابه البرامج و النيات الحزبية ويصبح هدفها الأوحد القرب من الأعتاب و تحقيق المصالح الشخصية. اذاك سيذهب المنتخبين بأعطياتهم و مكاسبهم و سيعود الناخبين ادراجهم خاوي الوفاض يتساءلون لماذا يلدغون من نفس الجحر مرات عديدة. ختاما قد يكون من محض الصدفة أنّ تبنّي جل الاحزاب في حملتها لشعارات تتحدث عن التغيير، اما صراحة او ايحاءا، يأتي في وقت تعمل فيه الجهات الحاكمة فعليا على ألا يتغير شيء. فالقوانين الرياضية تؤكد ان عدم تغير المدخلات لا يمكن إلا ان ينتج نفس المخرجات. لذلك فإن الرهان الحقيقي ليس في هذه الانتخابات في حد ذاتها و انما في ما سيقع ابان ولاية الحكومة التي ستنتج عنها. فتردي الأحوال المعيشية وغليان مجموعة من القطاعات و تفاقم مظاهر الهشاشة و الاجرام و تفشي مختلف انواع المخدرات و استفحال حالات الانتحار و تفسخ قيم المجتمع و الهوية ينذر بحجم التحديات و الصعاب الواجب مجابهتها لضمان استقرار المجتمع. * أستاذ جامعي