أتذكر: في بداية التسعينات من القرن الماضي استقرت بي عصا الترحال العلمي بمدينة مراكش، فكانت بيني وبين بعض أقارب الشيخ محمد بن عبد الرحمان المغراوي وأتباعه مودة علمية، فعقدوا لي مشكورين لقاءات مع الشيخ تذاكرنا ساعتها في موضوعات متنوعة أبرزها حدته في كتاباته التي أعلن فيها الحرب على العدل والاحسان، بما سطره من سلسلة الرسائل والكتب في الهجوم عليهم. وتكلمت عن منهجه وما اختاره، مع أني على طرف نقيض لأفكار العدل والاحسان. واجتهدت أن أبين له عدم سداد الطريقة التي اختارها الشيخ، مصارحا إياه أن الهمهات تشير إلى أم الوزارات ساعتها ودورها في دفع الشيخ إلى ما قام به بهذه الحدة. وكان الرجل ينفي، وكنت أدفعه إلى عدم التورط من خلال مؤشرات تحيك في النفس ما قررته له. وأكدت أن الحق له في الانتقاد، ولكن بهذا المنهج الذي اختاره، وبمآل كتاباته وفي كيس من تصب، والشكوك التي تحوم من خلال المؤشرات التي يصعب على العقل دفعها أو يلتمس لصاحبها المعاذير، هو مربط الحديث في الاعتراض. من حق الشيخ المغراوي: هل من حق الشيخ المغراوي أن يدعو للتصويت أو حتى إلى المقاطعة؟ وهل من حقه أن يدعو إلى التصويت لحزب من الأحزاب؟ له ذلك موفورا من غير مؤاخذة أو عتاب. ولكن العتب عليه، على الطريق الذي سلكه: 1 التلون: في كل مرة يقول شيئا وينفيه ويكذبه. ثم يأتي من الخبر الذي يؤكد ما كذبه. وإن كل إنسان يستحيي من ظهور شيء علنا، ويخاف من افتضاحه والاطلاع عليه، دليل ساطع على أن مستقر القلب له رأي، ومثقلات الأرض لها رأي معارض لما تخفيه الصدور. وقد قال رَجُلٌ: مَا الإثم يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ فَدَعْهُ. وفي حديث آخر أنه عليه الصلاة والسلام قال:" والإثم مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ"، وفي رواية ثالثة:" وَالإثم مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ النَّاسُ عَلَيْهِ". 2 مرة قال الرجل داعيا الناس بالقول: صوتوا على الأصلح. قلنا: هذه تحسب له، ويستفيد هو منها أن لا يغضب أية جهة من الجهات. غير أن الجهة التي يريد جر الناس وحملهم في الجرار لم تطمئن إلى هذا الجواب من الشيخ، وأفهموه أن الناس سيفهمون من هذه الكلمة أنها لصالح جهة معينة، وسيستفيد منها من يريد للمصباح أن يضيء وطننا الغالي. لم يرتضوا منه هذا اللبس، بل هذه الدعوة العامة المجملة، لأنها في المحصلة دعوة سافرة للمصباح. هكذا يخيل إلي. فقرروا أن يتكلم بالواضح، وألحوا عليه في ذلك. فإذا الحقيقة المرة كما يقول أحد أصحابه الشيخ حماد القباج حفظه الله تعالى: والدنا الشيخ المغراوي يدعم الجرار. وذكر في تدوينته أن بين يديه ما لا يمكن دفعه، صوتيات وفيديو يدعو فيها الشيخ المغراوي بعظمة لسانه التصويت على الجرار، وقال ذلك في بيت أحد رجال حملة البام. وعقد اجتماعا مع بعض الأئمة وأرشدهم إلى إقناع الإخوة بالتصويت على حزب الأصالة والمعاصرة. فانتقل المغراوي من الاحتياط والاختباء بموقفه، إلى الكذب. وهذا هو عتابنا عليه. من الذي أرغمك أيها الشيخ على هذا المسار الحزين؟ من الذي سيفجعك في حقك إن أعلنته منذ أول وهلة فأرحت نفسك وأرضيت ضميرك، وأرحت الناس؟ أما أن تقول بأنك لم تذكر الجرار ولا غير الجرار، وأنت تعلم أنك ذكرته ودعوت الناس له. فما أخيبه من موقف: الكذب. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَرَادٍ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، هَلْ يَزْنِي الْمُؤْمِنُ؟ قَالَ: قَدْ يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ يَسْرِقُ الْمُؤْمِنُ؟ قَالَ: قَدْ يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، هَلْ يَكْذِبُ الْمُؤْمِنُ؟ قَالَ:لا. ثُمَّ أَتْبَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ:﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾". إخوانه لم يرتضوا الكذب: وها هم بعض إخوانه الذين التزموا الصمت وهم يرون هذا الانحراف، ورأوا كذبه، لم يرتح ضميرهم أن يسمعوا الرأي من الشيخ ونقيضه. يقول علنا، ويفعل العكس يلوذ به في السر. فقرروا تسجيله وتصويره. فاللهم سترك الجميل. اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه. أكل الشيخ الثوم بفم أصحابه: سأرفع لك القبعة عاليا على صراحتك ووضوحك، وسنفرح بك وافقتَ أو خالفت. سنقول: هذا صاحب رأي، لا يخشى في الصدع برأيه لومة لائم. أما وأن يتلصص على إخوانه، آمرا إياهم أن يتحملوا هم تبعة ما عجز عن البوح به. وعندما يقول الكلام العام، يطلب منه إخوانه التوضيح هل هذه الجهة أو تلك هي المقصودة عنده؟ فيرد عليهم: وإخوانكم سيخبرونكم على من تصوتوا. ولما ذهب البعض منهم إلى المؤطرين للاستفسار، رد عليه: راه باين، التراكتور. أي خزي هذا؟ أن تأكل الثوم بأفواه إخوانك حتى يبقى فمك سليما من أذى الثوم وكريه رائحته. هل زعيم القوم هو الذي يدفع بإخوانه إلى أن يجعلهم كاسحات ألغام يضحي بهم من أجل مزاجه واختياراته؟ هل نأمر الناس بالصدق فنصدقهم وننصح لهم؟ أم نقوم بالعكس؟ نطالبهم أن يصدقوا معنا، ونأتي بالأدلة كتابا وسنة وآثارا، وكل ذلك حق. ولا نقبل على أنفسنا ما نطالبهم بهم، نريدهم الالتزام به. هذا هو المقت. قال تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ﴾. العقيدة الصحيحة: العقيدة الصحيحة أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، وليس الجرار أو الكون كله. العقيدة الصحيحة أن المعطي هو الله، وأن المانع هو الله، وليس الجرار أو الكون كله. العقيدة الصحيحة أن الخشية من الله، والخوف من الله، وليس الجرار أو الكون كله. العقيدة الصحيحة أن إغلاق دور القرآن هي إرادة الله، وليس الجرار أو الكون كله. العقيدة الصحيحة أن فتح دور القرآن هي إرادة الله، وليس الجرار أو الكون كله. العقيدة الصحيحة أن أمر الله في أرضه هو الغالب، وأن أمر الناس مغلوب أمام أمر الله، وليس الجرار أو الكون كله. أمر الله:﴿ ألا له الخلق والأمر﴾، ﴿ والله غالب على أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾. القصة أعمق من التصويت أو فتح دور القرآن: إن القضية أعمق من فتح دور القرآن، أو التصويت. إنها ظاهرة بعض المشايخ والعلماء والدعاة الذين يستسهلون تصرفاتهم المخالفة لقواطع دينهم. ظاهرة الشيخ سعيد رمضان البوطي، وأحمد كريمة، وفاروق حمادة، وأحمد حسون، وعلي جمعة، وعمرو خالد... يخفون، ثم يتم إحراجهم بالإعلان. لتبدأ مسيرة المحاداة لمجتمعهم. ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾. الدين يدافع عن نفسه: عجيب أمر هذا الدين. ومن عجائبة في الخلق أنه لا يذر أحدا ينتسب إليه يتلاعب بحقائقه إلا وجعل للأيام مدخلا للكشف عن مخبوء صدره، وللكشف عن حقيقته للناس. ولا يكون هذا الكشف إلا بعد سوابق عديدة لم يتب من إمهال الله تعالى له، فيسترسل في غيه، متناسيا توبة الله على التائبين، ومكر الله بالماكرين. هذه السوابق ستكشف مع الأيام واحدة واحدة، مع أنه بذكائه سعى إلى سترها، فأبى العزيز في علاه إلا فضحها على رؤوس الأشهاد. عجيب أمر هذا الدين، لا يمكنه أن يدع مثل هذه النماذج دون أن تكتب في ديوان السيئين. إن الذي يمد يده لا يمد رجله: لماذا لم يستطع هؤلاء الوقوف إلى جانب الحق الذي يعلمونه؟ لماذا لا يستطيعون أن يتمددوا في القول والنصح كما يتمدد الصادقون؟ والجواب أن من تمدد في الدنيا والاستكثار منها بأي سبيل، يكون هذا التمدد على حساب الحق الذي يبدأ في التقلص معه. هذه الحياة الدنيا لا تقبل التمدد في الجهتين في الغالب الأعم عند الناس. لا تقبل التمدد في الدنيا، والتمدد في الدين. لا بد وأن يؤثر أحدهما على الآخر. كان الشيخ عبد الله الشرقاوي من كبار شيوخ الأزهر، وقرر الخديوي إسماعيل زيارة الأزهر الشريف. ولم يستطيعوا إخلاء حلقة الشيخ الشرقاوي لهيبته ومكانته. وعند الزيارة اجتهدوا في إبعاد الملك عن تلك الزاوية فما كان منه بعد أن رأى سوادا إلا أن يقرر التوجه تلقاءه، فوجد الشيخ ممدا رجله وسط طلبته، فسلم عليه فرد السلام. فقال أحد حاشية السلطان: اتصف بالأدب مع السلطان، لماذا تمد رجلك؟ فرد عليه الشيخ: إن الذي يمد يده، لا يمد رجله. فلهذا لا يتمدد بعض المشايخ.