توطئة إن الداعي إلى طرح موضوع الديمقراطية هو وجود هذا النظام في دول الجنوب لمدة تزيد في بعض الدول على ستين سنة دون فائدة تطورية تذكر, بل ساهم في خلق فضاء تبعي للغرب، كما ساهم في توسيع التخلف السياسي في كثير من الدول الجنوبية، وهذا ليس راجع إلى الديمقراطية كنظام سياسي وقيمة حضارية وفعل حضاري ناجح في الغرب، بل السبب هو البنية الذهنية والاجتماعية لهذه الشعوب وبعدها على مستوى التاريخ والجغرافية ونظام التفكير عن مكان وزمان ميلاد ذلك النظام السياسي:(=الديمقراطية) مما جعل هذا الأخير لا يساعد دول الجنوب على التطور الصحيح بقدر ما جعلها ترتبط بدول ميلاد الديمقراطية ارتباطيا تبعيا ليس إلا. وهذا يحتم على دول الجنوب : 1 أن تعيش هذه الشعوب ديمقراطية حقيقية سليمة مثل ماهي عند الدول الغربية، وهذا مستحيل بسبب أن الدول الغربية لا تسمح بذلك، لأنها تعتقد أن تمتع الجنوبيين بهذا النظام السياسي قد يساهم في تنمية وتطور حقيقي عام يجعل هذه الشعوب قادرة على صناعة مصيرها، ومن ثم انفكاكها من التبعية للغرب، والانفكاك ممنوع، ومنه تأتي استحالة السماح بتطبيق الديمقراطية اعتقادا منهم إمكانية صلاحيتها لهم , أضف إلى هذا، وجود نخبة من المفكرين الغربيين يجتهدون في البحث عن بديل للوضع الحالي الغربي، وربما فكر سياسي جديد قد تفرزه حيثيات ما بعد الحداثة، ربما يكون فيه بديل عن الديمقراطية الحالية، وهذا يجعل دول الجنوب تتبعها لكونها لا تستطيع الفكاك من نسيجها العام المسمى : العولمة. 2 ان تبحث هذه الشعوب، وتعصر مخها، وتبحث عن نظام سياسي بديل لها عن هذا الخلط بين نظام سياسي مستورد، ونظام اجتماعي محلي، ونظام ديني متنوع داخل منظومة دينية واحدة، ونظم دينية أخرى، وذلك من أجل أن تنفك من الديمومة التبعية للغرب ومن الأنظمة المهترئة التي تعتقد في الغرب منقذا لها، من أية محاولة شعبية للتخلص منها. وهذا الموضوع يتكون من قسمين: القسم الأول منه خاص بطرح المسألة وملخصها: ضعف إمكانية نجاح الديمقراطية في مجتمعات الجنوب، وذلك لأسباب متنوعة تذكر في محلها، والقسم الثاني يبحث البديل لها. والموضوع مكون من عدة حلقات. مقدمة عامة : مفاهيم لابد منها تعتبر الأنشطة الفكرية والاستبطانات القيمية والغائية، في مجتمع من المجتمعات، هي آليات إنتاج السيرورة التاريخية التي تشكل الأساس الحضاري لها، أي لهذه المجتمعات، وبالتالي تعتبر القيم العامة المكتسبة عن طريق الجهد الفكري والسلوك والأخلاق والإبداع في مختلف المجالات ,هي التي تزين الانتاج الحضاري والقيمي، وتطوره نحو الأفضل، وعند غياب الأنشطة المبنية على التجربة الانسانية، وضمور القيم والأخلاق العامة الموروثة والمكتسبة لدى أي مجتمع من المجتمعات، تطفو على الواقع مناطق ظلال تخبئ وراءها مجموعة من السلوكيات المرضية قد تغدو قاتلة , ودون أن ينتبه إليها الناس . والقيم الإنسانية تلك تحضر في المجتمعات إما على أساس المكسب الثقافي والحضاري /القيمي الحاضر، أو تظهر على أنقاض موروث قديم يعتقد أنه قد تم اختراقه لعدم صلاحيته، أو هما معا، وهذا ما يعطي لهذه القيم صبغة الأصلية، جغرافيا وتاريخيا يتعذر معها سهولة نقلها، كما أنها مثقلة بتراكمات روحية ووجدانية تتميز بالخصوصية إلى حد ما. وبناء على ذلك فإن معرفة شيء ما عن بعض جوانب أية قيمة حضارية عن طريق الاطلاع، لا يجعل منها كنماذج قيم إنسانية سلعة يمكن نقلها وتصريفها في أي مجتمع آخر لا يمت إليها بخلفيات ثقافية أو تراكمات تاريخية /قيمية من نفس النوع أو يقاربه فيها إي في تلك الخلفيات , اللهم ما كان منها روحيا كالقيم الدينية , لكون البشر يشتركون كلهم في القيم الوجدانية . فالديمقراطية كقيمة حضارية وفعل حضاري منشِؤها الجغرافي هو أوروبا، هي أيضا يصعب خلق مكان لها في جميع مجتمعات العالم, و التاريخ قد علمنا , أن كل محاولة لاستيراد هذه القيمة لتطبيقها في مجتمعات ذات حمولة فكرية وتاريخية لا تزال مدغدغة بقليل أو بكثير من الفكر الأسطوري في بعد شبه تام عن الحقيقة الروحية للعقائد السماوية ومع تقديس الخرافات , كل محاولة من هذا النوع لم يكتب لها النجاح ,ومما يزيد المسألة خطورة هو انسلاخ هذه المجتمعات كليا أو جزئيا في الإمعية الآلية ولاستنساخيه للغرب , والتنكر لتراثها وتاريخها . إن كل محاولة لمثل هذه المجتمعات، من أجل ممارسة الديمقراطية، باءت بالفشل. لأننا عندما نطلع على هذه القيم عن طريق البحث الثقافي ونعرف بعضا من أسراها فهذا لا يعني أننا قادرون على خلق مكان لها خارج موطنها الأصلي، كما هي حال المحاولات المتداولة اليوم و التي كلها باءت وتبوء بالفشل الذريع. والتساؤل الذي يفرض نفسه هنا هو : كيف يمكن الارتباط بقيمة حضارية أو فعل حضاري أساسه القطيعة مع الماضي (= مثل الخرافية , واستغلال الدين لصالح الأقلية كأقلية "الإكليروس " ) من طرف أمم لا تزال في بحبوحة القديم ترفض أية قيمة إنسانية ترنو نحو التغيير والتقدم نحو الأفضل ؟ إن هذا شبيه بمن يستعين بحجاج لغوي من أجل أن يثبت قاعدة تجريبية تحكمها النتائج العلمية. ثم إذا كان لمنظومة الديموقراطية كقيمة حضارية وفعل حضاري لمتتالية من التراكمات التاريخية، فهل يمكن فصلها وعزلها عن هذه التراكمات لتوظف بعيدا عن أساسها الحضاري ؟ وهل يمكن لها أن تفلح في مجتمع متخلف يحكمه القهر وعدم السيطرة على المصير؟ وهل يملك الجنوبيون الآليات التي تجعل من الديمقراطية أساسا للتنمية؟ ثم هل يمكن تغيير أجرأة الديمقراطية كليا أو جزئيا , كما يحدث عند الشعوب المستوردة للديمقراطية؟ ارتباطا بالتساؤلات السابقة سوف أحاول التدرج معها بتحويلها إلى مواضيع فرعية.. 1 الديمقراطية في الغرب والأساس التاريخي لا يختلف اثنان في أن النظام العام للمجتمعات الغربية هو تناج تراكمات تاريخية قد لا يمكن إرجاعها في أقدميتها إلى حدود ظهور ما يطلق عليه عصر الحداثة، خصوصا وأن نظام الاختيار السياسي كانت بوادره في أوروبا حتى قبل ظهور المسيحية (الحضارة الإغريقية والرومانية وغيرها .......). والديمقراطية بذلك هي نظام وليد متتالية تاريخية يصعب تحديدها بدقة , بل يمكن القول أنها ,أي تلك التراكمات , تأتي ضمن آليات انطلاق ميلاد الحداثة في الغرب الأوروبي حيث وفرت بؤرة التفكير في حرية الاختيار , ولا حداثة دون حرية الاختيار , والحداثة طورت منطق فعل الديمقراطية بعد ما كان منطق فكرها متوفرا . وذلك باعتماد فلسفات واضحة المعالم تم من خلالها بلورة مفاهيم صحيحة مواكبة للعلوم الرياضية والفزيائية والطبيعية بصفة عامة , بعيدا عن الطوباويات فنمت (من النمو) القدرة على تقييم الانجاز والاستفادة من الأخطاء في كل من النظام السياسي، والنظام الاجتماعي، والنظام الاقتصادي, والنظام التربوي, وغير ذلك.. وبناء على ذلك فإن ما نسميه الديمقراطية تعتبر ماركة مسجلة كما سيأتي توضيح ذلك في معرض حديثي عن إمكانية نقل الديمقراطية . 2 هل يمكن نقل الديمقراطية من أساسها الحضاري إلى مجتمع آخر ؟ تأتي مشروعية هذا التساؤل من الجعجعان الذي تصدره مطاحن الديمقراطية في دول الجنوب , كثرة الحديث عن الديمقراطية , ومسألة الديمقراطية , والنظام الديمقراطي , والحكامة الديمقراطية , والديمقراطية ضد الإرهاب . أصوات إعلامية كثيرة ومتنوعة وانتخابات وصناديق وبرلمانات وحكومات (( ديمقراطية)) وأحزاب سياسية , وخطط تنموية ........ووووو, ولا قيمة لهذه الديمقراطية ولا غاية لها إلا ما ينتج عنه فض هذه الصناديق . والسبسب الرئيس في هذه المفارقة هو : أ اختلاف النسق الحضاري وغياب ثورة حضارية صحيحة ذات فلسفة مستقلة في التفكير والتدبير. ب عدم وجود بؤرة حرية الاختيار في دول الجنوب لسيطرة الفكر الديني المشوه الذي تم استغلاله تعسفا للقول بخضوع الانسان لقوى مصيرية خارجة عن إرادته , حيث كل شيء مكتوب , وحتى حرية الاستيراد من الغرب شيء مقدر , ومن قال بغير هذا فقد كفر بمشروعية الا نفتاح على الآخر . ج انسلاخ مجتمعات الجنوب وخاصة المسلمة منها عن المفاهيم الصحيحة للعقيدة الإسلامية , حيث تم الركون إلى مرجعيات رجال الدين المرتبطين بالحكام , والذين يرون في كل حرية اختيار حرمة وارتداد . د إن الأنساق الحضارية المعتمدة حاليا في دول الجنوب , لاتلتقي في أية نقطة مرحلية في السيرورة التاريخية مع الأنساق الحضارية المعتمدة في دول الشمال , إلا ما كان تبعية وتقليدا وبدون فائدة , بل وحسب رغبة الغرب في قبول ذلك أو رفضه . أسس الديمقراطية الغربية إن قيمة الديمقراطية لم تأت من الفراغ بل أتت من أرضية تاريخية تشكل لها أساسا منطقيا وعمليا لظهورها وتطورها , فللديمقراطية أسس بنيت عليها : 1 أساس تاريخي يتمثل في بؤرة حرية الاختيار التي ظهرت في الغرب قديما (= الحضارة الإغريقية والحضارة الرومانية ) فهم الذين أطلقوا هذا الإسم على نوع ما من السلوك السياسي/الاجتماعي( فكلمة ديمقراطية مشتقة من كلمتين يونانيتين "ديموس و كراتوس" اللتان تعنيان حكم الشعب. وكانت كلمة ديمقراطية في اليونان القديمة تفهم ككلمة مناقضة للملكية، حيث يحكم شخص واحد، ولحكومات النخبة، حيث تحكم قلة من الناس. ومع أن الديمقراطية لم تصبح القاعدة في الأيام الغابرة لليونان، فإن أول براعم للديمقراطية الحقيقية ظهرت في مدينة أثينا اليونانية القديمة واستمرت الديمقراطية هناك من العام 508 حتى العام 267 قبل الميلاد، وإلى أن يبلغ عمر الولاياتالمتحدة 241 عاما في العام 2017، ستظل مدينة أثينا القديمة أطول ديمقراطية حية في تاريخ العالم. وحكم في أثينا الشعب أو السكان المؤهلون – أي المواطنون الذكور فوق سن الثامنة عشرة – بصورة مباشرة في الجمعية العامة وناقشوا الأمور السياسية بحرية في الساحة العامة. وقد أشاد رجل الدولة بيريكليس في أثينا في ذروة مجدها في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد، طبقا للمؤرخ ثيوسديديس، بديمقراطية أثينا وبتفوقها على جميع البدائل الأخرى. وعلل بيريكليس تفوقها في خطاب شهير ألقاه في جنازة الجنود اليونانيين الذين قضوا في الحرب البيلوبونيسية قائلا: إنه نجم عن الحرية والمساواة اللتين تمتع بهما مواطنوها. ولكنها كانت حرية لم تتحول إلى فوضى، كما لم تكن مساواة في كل شيء، ولكن أمام القانون. وأعلن بيريكليس أن الأفراد في أثينا كوفئوا على أساس كفاءتهم واستحقاقهم، وأن الحياة الخاصة والمصلحة العامة حظيتا بالاحترام) (1) كما عرف الرومان الديمقراطية بشكل من الأشكال وأقروا بأن الحكومة يجب ان تنطوي دائماً على نوع من قبول الشعب، وتجب الإشارة إلى مفهوم الديمقراطية عند الرومان كان بتأثير من الإغريق. كما عرفت هاتين الحضارتين نوعا من المجالس الحكومية شبيهة بالمجالس البرلمانية حاليا. 2 أساس ثوري يعتمد في جزء منه على اختراق الأنساق القديمة الفاسدة , فلقد عرفت هذه نوعا من العبثية في مجالات الحكم ف«لقد كان النظام القديم يقوم على فف أولا : طاعة الفرد لولي الأمر الطاعة العمياء , بحيث كانت إرادة الأمير وإن كانت صادرة عن الهوى واللعب والاعتباط هي الي تشكل القانون المطلق الذي تدار عليه الأفعال , 'وذلك بتزكية من رحال الدن ومباركتهم . ثانيا : حق الملوك الإلهي الموسوي في الحكم وذلك باعتبارهم ظل الله في أرضه , كان مقابل هذه الفداحة أن قامت الحداثة على أساس من البحث العقلي والمعقولية والواقعية التي كان يجب أن تنهض عليها السلطة السياسية . وهكذا حلت بالتدريج أسماء كروتيوس ,وهوبز, ومونتسكيو , وغيرهم من فلاسفة النهضة الأوروبية محل شاول, وداود ,وسليمان . كما قامت أسماء بحثت في فلسفة الحق والسياسة منها: كوبرنيك (1473 1543) , وكبلر (1571 1630 ) , ونيوتن (1642 1727)في فلسفة الطبيعة » . (2), كما عاش الأوروبيون عصرا ظلاميا مليئا بالتفاهات من قبيل صكوك الغفران , ولكن ذلك لم يصمد أمام الثورة العقلية الجبارة , التي شكل عصر الأنوار منطلقها كما بلور عن الحداثة كأريك يحتضنها . 3 أساس عقلاني يتمثل في التعامل مع الطبيعة بالعقل والنقد والتجريب والاختيار , وهو ما أدمج ضمن مبادئ الحداثة« فأول مبادئ الحداثة مبدأ العاقلية ».(3) و«ثمت ضربين من العقلانية : عقلانية طبيعية , وعقلانية اجتماعية .........فصار الاثنان بخطى موحدة , 'وصُودف أن تواجد الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون (رمز العقلانية في الطبيعة ) إلى جانب المحامي والمنظر الحقوقي والسياسي الهولندي : هوجر كروتيوس (1560 1626) ( رمز العقلانية في النظر إلى الحق) ».(4) وعلى هذه الأسس بنت الحضارة الغربية قيمها الانسانية والعملية والاجتماعية والسياسية ومن تضاريس هذه السيرورة تشكلت جغرافيا قيمة الديمقراطية كفعل حضاري. وبالمقابل فإن مراحل تاريخ شعوب الجنوب تختلف تماما عن سابقتها , شعوب الشمال , فالأساس التاريخي المتمثل عند الغربيين في توفر بؤرة حرية الاختيار غير موجودة تماما في دول شعوب الجنوب , وخاصة الإفريقية وغرب آسيوية منها , فمجالس الحكم لم تكن يوما متعددة, حتى ولوكان ذلك صوريا ,كما عرفت روما القديمة أيام كاريكولا ونيرون , بل الحكم فيها كان لحاكم واحد هو إله أو نصف إله , كما عند المصريين القدماء , وبلاد الرافدين , وحضارة تدمر, وحضارة اليمن وغيرهم ...., واستمر هذا لأزمان , مرة فيها كان الحاكم ينسب الألوهية لنفسه , ومرة , أخرى كانت الأحكام تنسب للإله السماء , ومع وجود النبوات في هذا الجزء الوحيد من العالم , عرفت الأحكام الشرعية نوعا من التقنين والعدل , وإحقاق الحق أحيانا ,' وكانت هناك إصلاحات عظيمة في بعض من تاريخ المسلمين , حيث تم تحريم الباطل وتحليل المستباح , والجائز وذلك وفق الشرع الإلهي , ولكن هذا بدوره لم يساهم في بلورة حرية الاختيار , وفي زمن ضحى الإسلام ظهرت فرقة تقول ببطلان فكرة "الجبر" , واستبدال ذلك بفكرة " الإختيار" , وهي فرقة المعتزلة التي حوصرت من طرف أهل السنة , حيث ساعدهم في ذلك اعتماد المعتزلة على مبدإ العاقلية والمنطق الصوري , الذي يصعب فهمه من طرف عامة الناس , كما أن بعض ممثلي الديانات من أهل الحكم والحل والعقد كانوا يقولون بوجود حجاب بين البشر وبين الحقيقة , ولا يخترق هذا الحجاب إلا الزاهدون, ولعل هذا ما ساهم في ظهور فرقة المتصوفة التي ترى أن أهل التصوف يتصلون بالله مباشرة وعبر عملية (الحضرة الإلهية) حيث يحل اللاهوت في الناسوت , وبتالي الاستغناء عن كل ما من شأنه أن يمثل وصيا ربانيا عليهم . وهذ ما يمكن أن نلمسه في نقد فكرة "الجبر "عند المعتزلة , وأفكارهم هذه ما هي إلا كليشيهات سياسية تم غسلها ونقعها , في الواقع المفروض سياسيا بوجهه الديني . وهكذا انكمشت الحرية وانكمش معها التطور، ولم التطور والدنيا "لا تساوي عند الله جناح بعوضة" كما جاء في الحديث القدسي، وحاشا أن يكون الله تعالى وهو العليم الحكيم قد قصد تسفيه الحياة الدنيا ' بل أرى أنه يقصد أنها لا ترقى إلى مرتبة تستحق أن يأكل فيها القوي حق الضعيف , ولكن المغرضون فعلوا ما فعلوا , واجتهدوا حتى في اختراع صكوك كالتي عرفت عند المسيحيين قبل النهضة الأوروبية , وهي عند الجنوبيين , المسلمين منهم خاصة، الولاء والبراء . وأد أن أشير في هذا المقام وأشيد بالدكتور عمر أمرير, صاحب كتاب : جذور الديموقراطية في المغرب : ديموقراطية قبيلة أيت عبد الله نموذجا 1914 1934, الذي يشير فيها إلى أن المغرب عرف نوعا من الديمقراطية قديما , ويرى أن ما يطلق عليه "أغادير" بالأمازيغية هو ما يمثل مخزنا عاما للمنتوجات الفلاحية , واللوح التشريعي الذي يشارك في بلورته كل أفراد القبيلة في مجمع عام يحضره الرجال والنساء والأطفال , والكل يدلي بدلوه في صياغة محتوى هذا اللوح /الدستور (5) . , يقول الدكتور أمرير : "وكانت إمْرَة أهل أغمات دُوَلا بينهم يتولى الرجل منهم سنة ثم يبدِّلونه بآخر منهم عن تراض واتفاق"، هكذا وصف البكري في القرن الخامس نظام التناوب في الحكم لدى قبائل أغمات. نظام سياسي أطلق عليه ابن خلدون اسم «دولة إمغارن» أثناء حديثه عن أغمات قبل المرابطين. فماذا عن هذا النظام؟ وهل صحيح أن المغاربة توارثوا عبره ممارسة ديمقراطية عريقة؟" (6) وفي تقديري أن ما يسميه الدكتور أمرير ديمقرطية ، ولو أنه يشير بوضوح إلى وجود حرية الاختيار , فإنه يدل على نظام قبلي فريد أكثر مما يدل على وجود حرية الاختيار، وإلا فهو اختيار للحاكمية وليس اختيار للحاكم، بل الحاكم موجود، وهو الذي يأتي بالفقيه والجماعة (أهل القبيلة القريبين ) لإقرار النص التشريعي , وليس اختيار الحاكم أو التأثير في عملية اختياره، لأن "أمغار " عند الأمازيغ يحدده نسبه أو ماله أو قوته وهذا نوع من السلطة المفروضة . وهذا، في تقديري، لا يشكل بؤرة لحرية الاختيار. ونفس الشيء فيما يتعلق بالأساس الثوري , واختراق الأنساق القديمة ,لأن انتشار مفاهيم وجود الحقيقة المطلقة في يد البعض , ووجود فكرة الخوف من عقاب في الآخرة التي يهلول لها رجال الدين المغرضين ,وأحيانا الجاهلين, قتلت كل رغبة في تحريك العقل نحو مفاهيم التغيير والتطور , إذ أن هذا نفسه , وحسب رأي رجال الدين أولئك ,لا تحركه إلا أيدي الإله، فكيف بالبشر أن يفعل ما لا يقدر عليه إلا الله , ولا يعوز هؤلاء , وخاصة المسلمين، نصوص يسوقونها لتبرير مقولاتهم، وذلك مثل قوله تعالى ((وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى )) ((يد الله فوق أيديهم )) وجاء في الحديث القدسي (( عبدي أنت تريد وأنا أريد , ولا يكون إلا ما أريد )) , في الحقيقة أن هذه النصوص وأمثالها في القرآن الكريم والحديث القدسي الشريف , القصد منها هو أن الرعاية الإلهية تقف مع الانسان في حياته لتمده باليقظة ليحسن الاختيار , وليس لتسفيه وجوده وهو عاقل فاعل , ولو كان ذلك حقا لما أصبح المخلوق مسؤولا عن سلوكه الحسن أو القبيح , ونتائج عمله , إذ يقول الله تعالى(( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون )). إن المقولة القائلة بالجبرية جعلت إنسانها يفشل في التعامل مع الطبيعة حيث يجب إعمال العقل والنقد وحرية اختيار المسار, يقول الغزالي " كل من استعمل شيئا في جهة غير الجهة التي خلقها الله لها فقد كفر بنعمة الله " (7), وتحديد الجهة ليس من اختصاص الجميع ' ويعتبر المتصوفة المسلمين أمثال الغزالي , وأبا يزيد البسطامي , والحلاج , ومحمد أبن العربي , هم المشهورون بفك ألغاز وأسرار تلك الجهة, فأنى لقول الغزالي من قول أرسطو(. إن أفعال الناس ومصالحهم لا يمكن إخضاعها لأي قاعدة ثابتة ودقيقة) (8) بهذا المعنى ليس لدى شعوب الجنوب أي تشابه تاريخي يؤسس للحرية والديمقراطية . قلت سابقا , في معرض حديثي عن الفكر الديمقراطي , أن الغرب اعتمد فلسفات المصالح العلمية / العملية , فضلا عن اعتماد المقاربة الحقوقية مما أفرز ديمقراطية حداثية بلورت وأفرزت كل شيء : من ذلك القدرة على صناعة المصير والقرار , فقضت على الديكتاتورية , كما أفرزت التنمية فقضت على التخلف , وساهمت في الحرية فقضت على الخضوع السلبي للدولة والحاكم , وأفرزت الإرادة الشعبية , فقضت على التفكير السلبي , ثم أفرزت الاستقرار العام , فانطلق عنان التطور السريع والهادف . هذا فيما يتعلق بجوانب رهان نقل الديمقراطية , كقيمة حضارية , وفعل حضاري , أما فيما يتعلق بنقلها كقيمة سياسية , فإن الأمر يصطدم بعائقين : أولهما يتعلق بالمجتمع المصدر وهو المجتمع الغربي حاضن الديمقراطية. إن الديمقراطية كقيمة حضارية في المجتمعات الغربية , تعتبر ماركة مسجلة (9) ترتبط ارتباطا وثيقا بالمبادئ الثلاث :الحرية، والعقلانية، والفردانية، كما ترتبط ارتباطا وثيقا بصانعيها الأصليين , ولا يسمح بتصديرها كقيمة وفعل حضاريين من الدرجة الأولى أو حتى من الدرجة الثانية , بل إنه لا يسمح بتصدريها إلا بصورة ممسوخة . فلو ألقيت نظرة فاحصة على تاريخ تطور الديمقراطية في العالم فلن تجد دولة واحدة من دول الجنوب تنعم بالديمقراطية كالمجتمعات الغربية , ما عدا دولتان اثنتان تحسبان على الشمال أكثر مما تحسبان عبى الجنوب, هما جنوب إفريقيا , وتركيا , ولو أن هذه الأخيرة تعيش إكراهات في ديمقراطيتها بحكم ارتباطها التاريخي بدول الجنوب من آسيا (المجتمعات العربية) . فالغرب يدرك تماما أن الديمقراطية السليمة قد تؤدي بمجتمع ما إلى التطور والتنمية أو على الأقل تسبب في تغيير الحكام , وهذا غير مسموح به لكونه يساعد الشعوب على التمتع بالاستقرار والقدرة على صناعة المصير , وما يتبع ذلك من القدرة على التصنيع المدني والعسكري , وهذا بالضبط ما ترى الدول الغربية أنه إنقاص من هيبتها , كما هو إنقاص من قدرتها على السيطرة المصيرية على الشعوب , ومنه إخضاع مجلس الأمن لإصلاحات قسرية تفرض على دول الغرب , وهذا خط أحمر عند الغربيين ( لقد دك العراق دكا وتم تمزيقه شر تمزيق , فقط لأنه حاول ان يستقل بعلمه ليدخل عالم التصنيع .......). أما مسألة رعاية الديمقراطية والتشدق بها حتى ليبدو وكأن الغرب يريد تصدير الديمقراطية ¸فهذا حلم من لا أحلام له , إن الغرب يصيح ويدافع عن الديمقراطية عندما يريد التدخل في شؤون دولة ما تهدد مصالحة المختلفة (كنموذج روسيا العسكري , ونموذج الصين الاقتصادي والعسكري وحتى غزو الفضاء , أو رفضا للولاء كنموذج فينيزويلا في عهد الرئيس الراحل تشابيز ) . هذه الدول الثلاث هي الوحيدة التي لا توجد فيه قواعد عسكرية أمريكية وإن وجدت فصورية فحسب , وفي غاية السرية. ونظرة أخرى إلى محاولات تطبيق الديموقراطية في دول الجنوب ترى عجبا , فكلما كانت الانتخابات بريئة نوعا ما , ترفض هذه النتائج من طرف الغرب , وإعلان الحرب الكلامية على الحزب الفائز بحجة أو بأخرى¸ وفي تأييد فاضح للأطراف المعارضة لتلك النتائج , وهم على باطل ظاهر ,والعالم يرى ذلك , ولا يكتفون بالإعلام فقط بل حتى بعض من يحسبون على الفكر السياسي في الغرب يعلنون براءتهم من تلك النتائج ، ولا يحتاج المرء إلى نماذج أكثر من : نموذج الجزائر التي سارت فيه نتائج الانتخابات لصالح جبهة الانقاذ، وصودرت لصالح العسكر وفي فلسطينالمحتلة صودرت النتائج التي كانت لصالح حركة المقاومة الفلسطينية (حماس) فصودرت لصالح منظمة فتح، ونتائج الانتخابات المصرية بعد الربيع العربي انتزع الحكم من الحزب المنتخب شرعا لصالح العسكر، وما حدث في مصر سابقة تاريخية خطيرة في التاريخ المصري الحديث. والغرب يؤيد ويساند ويقول إنما هي شؤون داخلية، فلم هذا ؟ الجواب واحد ووحيد، وهو أن الديمقراطية المصدرة من طرف الغرب هي ديمقراطية رعاية مصالح الخاصة التي منها القواعد العسكرية الغربية، ومصالح أتباعها، وهم أيضا القائمون على مصالحهم الخاصة، ومصالح الغربيين المساعدين لهم في تلاعبهم بالخيرات في بلدانهم، فعند الغربيين عموما، والأمريكيين خصوصا تعتبر المصالح أهم من القيم التي منها قيمة الديمقراطية . الهوامش: (1) ( بيتر بير كوبتز جريدة الاتحاد , الصحيفة المركزية للإتحاد الوطني الكرديستاني ) (2) د ,محمد الشيخ /ما معنى أن تكون حداثيا /منشورات الزمن /كتاب رقم 17 /2006/ص 86 (3) د ,محمد الشيخ /ما معنى أن تكون حداثيا /منشورات الزمن /كتاب رقم 17 /2006/ص 68 (4) د ,محمد الشيخ /ما معنى أن تكون حداثيا /منشورات الزمن /كتاب رقم 17 /2006/ص 78 (5) من حوار مع الدكتورعمرأمرير صاحب كتاب : جذور الديمقراطية في المغرب / قناة المغربية / 04 04 2014 (6) نشر في جريدة الاتحاد الاشتراكي ليوم : 25 03 .2014 . وأخذته من الموقع الالكتروني مغرس (7) عبد الله العروي / مفهوم العقل (8) السياسة والمصالح والسلوك / د: محمد الولي /عالم الفكر / عدد 40 أكتوبر 2011 . (9) هذا اصطلاح اقتصادي وقد استعرته هنا للتعبير على أن الغرب لا يسمح بصناعة الديمقراطية خارج أسوارها الأصلية , كما هي الصناعة الثقيلة تماما