إن التحدث عن الحرية وبخاصة الحرية الفردية قديم وجديد، فلقد شغل الفلاسفة والحكماء والعلماء والكتاب والصحفيون المتنورون من عامة الشعوب بهذا الموضوع، لأن الدعوة إلى الحرية شيء جذاب، وتستقطب أنظار العالم على مختلف المستويات والمتحدثون عن الحرية يترددون بين الحماسة في إطلاق الحرية ، وبين التعقل وضبط مفهوم هذه الحرية وتقييدها لاعتبارات عامة تستدعي ضرورة تفعيلها في حدود المعقول وإفساح المجال لها لدى الآخرين حيث أن الحرية تنتهي عند بدء حرية الغير، أو لاعتبارات خاصة تتطلب ضبطها بقواعد النظام العام والآداب المرعية والقيم الدينية ومتطلبات الرسالات الإلهية. وازدادت الحاجة إلى تبيان أفق الحرية في عصرنا الحاضر على الرغم من تطور العقل البشري، واتساع آفاق العلوم، وَوجود الأنظمة المقررة لصالح الأفراد والشعوب أنفسهم في النطاق المحلي لكل دولة على حدة، وبسبب مصادرة الحرية في بعض الدول أو إساءة استعمالها لدى بعض الناس. وتختلف تصورات الفلسفتين الغربية و الإسلامية حول حرية الفرد تصورا وممارسة, لاختلاف المصدر و المنطلقات والمقومات الفكرية والحمولة الثقافية والمعرفية في كلتا المنظومتين, وفي هذا الصدد يأتي هذا البحث المتواضع لطرح هذه القضية معتمدا مقاربة نقدية مقارنة لمدلولات المفهوم و منطلقاته و تمثلاته في المنظومتين الحداثية الغربية , والإسلامية . وقد لا يكون جديدا موضوع هذا البحث حول سؤال الحريات الفردية في مقابل مفاهيم الأخلاق العامة، وإنما الجديد في حدته واتساع نطاق التخندق بين معسكر دعاة المحافظة على القيم والمطالبين بحماية الحريات ,حيث تثير '' الحريات الفردية '' اليوم إشكالات كثيرة حول حدودها وعلاقتها بالقيم المرجعية للمجتمع والأمة, خاصة في ظل تنامي الدعوات التغريبية تحت غطاء حقوق الانسان وحريته وتحريره من قيود المجتمع والدين باعتبارها عوامل تحد من حريته وتجعلها مشروطة بالقيم والأخلاق والهوية . وتطرح هذه الخطابات الجديدة تحديا كبيرا على عاتق الفكر الإسلامي,باعتبار مسؤوليته الحضارية تجاه قيم الأمة وثوابتها وهويتها ,وأمنها الثقافي والفكري, مما يفرض على الخطاب الفكري الإسلامي أن يلج هذه القضايا بطرح جديد ووعي عميق و الفكر الإسلامي المعاصر لديه فرصه ذهبية اليوم للتعاطي مع مفهوم الحرية تعاطياً يسمح بتجاوز المفارقات الأساسية بين المفهوم وممارساته في المجتمع الحداثي وإمكانية التجاوز هذه مرتبطة بقدرة الفكر الإسلامي المعاصر على فهم أثر السياق التاريخي والمنظومة الثقافية على تشكيل الفكرة، ومن ثم تحويلها إلى مؤسسات اجتماعية فاعلة من جهة، وعلى قدرته على تحليل البنية الاجتماعية والسياسية الفعلية، واقتراح بدائل عملية . ولذلك سأحاول في هذا البحث الإجابة عن التساؤلات التالية : ما مفهوم الحرية وكيف تؤسس الفلسفة الغربية لحرية الفرد ؟ وكيف يبني الاسلام تصوره لها؟ وما أسسها ومحدداتها؟ وما أوجه التمايز بين المنظومتين بهذا الخصوص؟ أولا :مفهوم الحرية عند الغرب ومحدداتها : مفهوم الحرية : هناك عدة مفاهيم للحرية: سنختار من بينها مفهوم فون هايك عن الحرية : تبنى فريدريك أوجست فون هايك *Friedrich auguste Von Hayek) (مفكر ليبرالي) مفهوما بسيطا,والحرية تعني عنده ألا يكون الإنسان مكرها لإذعان لإرادة غيره. وفي هذا المجال يعقد هايك مقارنة بين معنى الحرية في تصوره بثلاثة معان أخرى متداولة فالحرية في معنى معين هي مشاركة الإنسان في اختيار حكومته ومشاركته في وضع التشريعات وفي عملية الإرادة (الحرية السياسية) والحرية في معنى اخر هي ذلك المدى الذي يستطيع الانسان أن يصل إليه في القيام بفعل معين مدفوعا بإرادته الخاصة ,لا بدافع طارئ أوظروف وقتية معينة ( الحرية الداخلية) والحرية في معنى ثالث هي مدى قدرة الفرد على إشباع رغباته , أو هي النطاق الذي يمكن أن يمارسه الإنسان في الإختيار بين البدائل المطروحة (الحرية باعتبارها قدرة ) ويرى هايك أن هذه الحريات الثلاث الأخرى ذات أوضاع وشروط لا تتفق مع ما يعنيه بالحرية الفردية وينبغي من ثم أن تظل بمعزل عنها . وأما بالنسبة للحرية باعتبارها نوعا من القدرة الإيجابية فإن هايك يرى فارقا جوهريا مابين عدم التدخل في أفعال الآخرين وما بين القدرة المؤثرة على الفعل فالإنسان قد يكون قادرا على أداء ماهو غير مسموح له بأدائه ,كما أنه قد لا يكون قادرا على أداء أفعال معينة لم يحاول أحد أن يمنعه من ادائها ,بل أن هايك ليمضي اكثر من ذلك حين يبدي بشكوكه في هذا المعنى من معاني الحرية ,ويتساءل عما إذا كان يجوز لنا أصلا أن نتساهل في استخدام الحرية إلى ذلك الحد الذي تصبح مرادفة لمعنى المقدرة رغم التباين الواضح في المفهومين .** ب-محددات الحرية الفرد ية في الغرب: تختلف الأطروحات الفلسفية الغربية في اعتبار الحرية الفردية معلقة أو مقيدة على شرط معين , ففي حين يذهب بعضهم إلى كون حرية الفرد تتحدد بالعقل أي أن ''الحرية تكون أوفر كلما كان الفعل صادرا عن العقل ,وتكون أقل كلما كان صادرا عن الانفعال '' .1 يرى آخرون أن الحرية ليست صفة تضاف إلى الطبيعة الإنسانية، وليست خاصية من خصائصها بل هي نسيج الوجود الإنساني. فالفرد قادر على صنع ماهيته حسب إرادته الحرة، دون أن تكون لظروف خارجية أو لأيّة قوة تأثيرا على حريته. لذلك اعتبر جون بول سارتر القيم الأخلاقية المتوارثة تمثّل عطالة للفكر باعتبارها لا تكتسي صفة اليقين، ودعا الإنسان إلى التّحرّر منها «حتّى يلقي عن كاهله أوزارا ثقيلة تحول بينه وبين فهم ذاته وتجعله عبدا لما هو خارج عن دائرته 2 . وفي سياق آخر يربط جون لوك حرية الأفراد بالاختيار, فهي تعني أن نفعل أولا نفعل بحسب ما نختار أو نريد 3. في حين يعتبر كانط أنها تعكس حقيقة الإرادة الإنسانية المستقلة عن الأسباب والمؤثرات الخارجية ''لأن الكائن العاقل المزود بالإرادة لا يمكن أن يفعل إلا إذا كان حرا إذا كانت الحرية الفردية في المنظور الغربي مفهوما إطلاقيا يرتبط بإرادة الفرد المطلقة في الاختيار والفعل, في الفكر والممارسة من فكيف يرى الإسلام حرية الأفراد في المجتمع؟ وهل هي مطلقة أم مقيدة ؟ وما هي فلسفته في معالجة الإشكالات الكبرى في هذا الصدد : الحرية الجنسية, وحرية الرأي والتعبير.. ؟ ج-الحرية في الغرب بين النظرية الفكرية و الممارسة الفعلية لقد كانت لردة الفعل الاستبدادي الكنسي، واستعباد الإقطاعيين وسلبهم لحقوق الأفراد في المجتمع الأوروبي، مع ما رافق ذلك من ثورة صناعية حدثت إبان عصر النهضة الأوربية، وبداية ظهور المذهب الرأسمالي الذي قام على تشجيع الفرد وإبرازه، حتى جعل من الفرد قديسًا يحرم على المجتمع المساس بحريته، مع إلغاء كل الحواجز والعوائق التي تحول دون ذلك؛ الأثر الواضح في تشكيل الفكر الغربي بتجسده الحالي لمفهوم (الحرية) الذي أضحى النموذج الوحيد الذي يساق في المحافل الدولية، والمؤتمرات العالمية، والمنابر الإعلامية.. أو باستهداف البلدان وتطويعها؛ بدعوى أن الأمم والدول جميعها قد اتفقت وأجمعت على مضمونها! مع غياب حقيقة أن هذا الأمر ما هو إلا صياغة للمحتوى الفكري للدول الأوربية ذات البعد الاستعماري. ونتيجة لذلك تشرب الكثير منا مفهوم الحرية بمعناه (الفلسفي الغربي) الذي يرفض كل القيود التي تلغي حرية الإنسان وإبداعه كيف ما كانت وبأي شكل، وهي ما ينادي به اليوم في المواقع الإعلامية والمنابر المختلفة المتعددة؛ فهي في نظرهم تهدف إلى إنقاذ الإنسان مما أصابه من تسلط المجتمعات بأديانه وثقافاته! التي أفقدته إنسانيته! فبالتالي أرادوا إعادته عن طريق تحريره من تلك الفلسفات والمجتمعات؛ فجاءت الدعوة إلى الحرية، وثم الترويج لها في الصحف والندوات والمنتديات . وإذا كانت الحرية الفردية في المنظور الغربي مفهوما إطلاقيا يرتبط بإرادة الفرد المطلقة في الاختيار والفعل, في الفكر والممارسة ,وإذا كان التأطير الغربي لحرية الفرد بقوانين وضعية لم يسعفه في ترشيد الوعي وبناء الانسان المعتدل فكريا و حضاريا في ممارسته للحرية,لأنه أراد توجيه حرية الفرد نحو احترام وصيانة حق الأخر (قانونيا وقيميا ) لكنه في المقابل أطلق العنان للشهوة والغريزة(الطفرة) فقتل في الانسان(الفطرة) التي فطره الله عليها, فأفلست القيم وأفلس معها الفرد والأسرة والمجتمع..والحضارة ككل . فكيف يرى الإسلام حرية الأفراد في المجتمع؟ وهل هي مطلقة أم مقيدة ؟ وما هي فلسفته في معالجة الإشكالات الكبرى في هذا الصدد . تانيا: نظرة الإسلام إلى مفهوم الحرية والحريات الفردية على الخصوص؟ يتأسس التصور الإسلامي لحرية الفرد على عدة منطلقات ومقومات وقواعد تحكمه وتحدد دلالاته ومميزاته أ- : مفهوم الحرية: -المعنى اللغوي للحرية: جاء في مختار الصحاح: الحر ضد العبد، وحر الوجه: ما بدى من الوجنة، والحرة الكريمة، والحرير: نوع من الثياب، وحر الرجل يحر حرية من حرية الأصل، وتحرير الكتاب وغيره تقويمه، وتحرير الرقبة عتقها، وتحرير الولد: أن تفرده لطاعة الله وخدمة المسجد، أقول ومن هذا المعنى جاء في القرآن الكريم على لسان امرأة عمران أم مريم عليهما السلام: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران: من الآية 35. وفي القاموس إضافة لما سبق من معان: "حرية: خيار كل شيء والحرية: الفعل الحسن، حرة السحاب: الكثيرة المطر والأرض اللينة الرملية، ومن العرب أشرافهم" ونستخلص من هذه المعاني أن الحرية في أصل اللغة تعني: الانطلاق، والشرف، والكرامة، والاستقامة، وفعل الخير، والعطاء الكثير، والمرونة، والخدمة النبيلة 4. ب-الحرية في الاسلام : الحرية في الإسلام هي مبدأ معتبر وهي حق من حقوق الإنسان وهي سند لتكليف الإنسان، فما كان الإنسان مكلفا إلا لأنه حر ولأن بامكانه أن يختار بين الخير والشر وعلى أساس حريته تلك يقع التكليف، وحينما تزول الحرية ويقع الإكراه فإن التكليف يرفع، ولذلك فالمكره ترفع عنه كل المسؤولية ولا يحاسب بما فعل وهو في هذا الوضع. وتأصيل الحرية في الإسلام يبتدئ بالإقرار بوحدانية الله تعالى، فعندما كان الإنسان موزعا على آلهة متعددة فإنه لم يكن حرا بل كان يعيش في حالة خوف من مظاهر الطبيعة ومما صنعه من معبودات ويخاف من الأوهام، إلا أنه تحرر لأول مرة بتوحيد الله تعالى حين علم أنه لا فاعل في الكون إلا الله تعالى. من جهة أخرى، فإن الإسلام يضبط كل المعاني التي يؤسسها ضبطا شرعيا، بحيث لا تؤدي هذه الحرية إلى نقيضها وإلى الإضرار بالآخر، وكذلك الشأن بالنسبة لكل القيم والمباديء الأخرى التي متى تحولت إلى الإساءة للآخرين تفقد مشروعيتها وتصبح في حاجة إلى تقييم وضبط. فلذلك نتحدث دائما عن الحرية داخل نطاق المجتمع، لأن الإنسان يعيش ضمن مجتمع ولابد له أن يراعي حقوقه عليه وأن يأخذ بعين الاعتبار مكانته وحرمته، وهكذا أصبح من الواجب الحديث عن الحرية بمفهومها الجماعي، أما الحرية بمفهومها الفردي فهي كل حرية لا تناقض حقوق الآخرين ولا وجودهم ولا تحرجهم ولا تسيء إليهم، لأنها حينما تكون كذلك فإن الإسلام لا يمكن أن يدعو إليها أو أن يشيعها. الحرية في الإسلام أصل عام يمتد إلى كل مجالات الحياة الإنسانية ، وهي ليست مطلقة وإنما تتسم بالنسبية ، بحيث لا تتصادم مع حريات الآخرين ولا تؤدي إلى الضرر . من أجل ذلك كان لها أركان وقواعد ، وهذه الأركان هي : الحرية والعدالة ، والمساواة ، والشورى ، والتكافل الاجتماعي ، والمعارضة الهادفة ، والنقد الذاتي ؛ وذلك لأن الإسلام دين ودولة، والدولة نظام حكم ينبثق من المبادئ والقواعد والأحكام العامة في القرآن والسنة . وقد اهتم الإسلام بتحرير الذات الإنسانية ، وبدأ بتحريرها حرية مطلقة من عبادة غير الله – عز وجل - ، كما اهتم الإسلام بتحرير الإنسان من الصراع بين النفس والعقل ودعا في آياته إلى التمسك بالعقل واجتناب الهوى قاصداً تحرير الذات الإنسانية من أي خضوع لغير الله، ورفع الإنسان عن أن يكون مطية الهوى . وقد ترك الإسلام للإنسان حرية أن يعتقد ما يشاء ، ويؤمن بما أراد دون جبر أو قهر ، فكان أساس الدعوة استقلال الفكر وحرية الفرد بلا تمييز بسبب اللغة ، أو اللون ، أو الجنس . ونادى الإسلام بمبادئ الحرية الفردية وكفل المساواة .، ولقد سار الإسلام في تحقيق المقاصد الشرعية ، وأقام مبدأ أساسيا يرتكن إليه الإسلام في تقريره لحماية الحريات ، فلا يعتدي أحد على حرية أحد أو حقوقه وهذا المبدأ هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " لا ضرر ولا ضرار " ، وهو مبدأ يحدد ميزان الحرية في الإسلام . ج -دعائم الحرية في الإسلام : الأولى : تأمين الإنسان من الخوف ، قال تعالى : { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } [ الأنعام :82 ] ، وبذلك يثبت الله الأمن لمن آمن واهتدى . الثانية : تأمين الإنسان من الجوع ، فلم يكتف الإسلام بأن يقيم صرح الحرية على دعامة التأمين من الخوف كما فعلت الديمقراطية الغربية، بل جعل دعامته الثانية لإقامة ذلك الصرح تأمينه من الجوع ، وهو ما استباحت الماركسية في سبيله كل شيء حتى لو كان ذلك المستباح هو الحرية ذاتها .وقد ذكّر الله – عز وجل –كفار مكه بواجبهم بعد تفضله عليهم بتوفير الطعام والأمن ، فقال : { فليعبدوا رب هذا البيت * الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف } [ قريش : 3-4 ] . وإذن فهناك ثلاثة أنواع يشملها مفهوم الحرية في الإسلام : النوع الأول : الحرية الشخصية ، وتشمل : حق الأمن ،حرمة المسكن ، حرية التنقل ، سرية المراسلات ،احترام السلامة الذهنية للإنسان . النوع الثاني : الحرية السياسية ، وتشمل : حرية الرأي والعقيدة ، مزاولة الشعائر الدينية ، حرية المشاركة السياسية في ظل مبدأ الشورى . النوع الثالث : الحقوق والحريات الاقتصادية والاجتماعية ، فالأولى تشمل : حق الملكية ، والثانية تتضمن : حق العمل ، والرعاية الصحية ،والتكافل الاجتماعي المتمثل في فريضة الزكاة وغيرها من الصدقات 5. وفي الجملة: الحرية ليست مطلقة، من حيث الزمان والمكان، وإنما هي مقيدة بمقتضيات الحياة السوية والموزعة حقوقها على الجميع، وهذه المقتضيات في المفهوم الإسلامي خمسة: المساواة، والفضيلة، والعدل، والحق، والخير والإيثار، والابتعاد عن الضرر والإضرار. ثالثا :الفرق بين الحرية الفردية بين الاسلام والغرب. تبدو ملامح الاختلاف بين الفلسفتين الغربية و الإسلامية حول حرية الفرد تصورا وممارسة, ضمن عدة جوانب وزوايا جلية تتعلق بكنهها ومصدرها و منطلقاتها ومقوماتها الفكرية وحمولتها الثقافية والمعرفية في كلتا المنظومتين, وفي هذا الصدد تنبني حرية الفرد في المرجعية الغربية على عدة منطلقات, وتتحدد وفق مقومات تختلف حسب التوجهات والمدارس الفكرية, لكن قراءة عامة في التاريخ والفلسفة قديما وحديثا تمكننا من الوصول للمضامين التالية: أولاً: الحريّة في الغرب مفهوم يتعالى عن النصّ الديني، فهو يرى أنّ قرار كلّ إنسان بيده، وأنّه ما من شيء يُلزم الإنسان إلا قناعاته الذاتية أو قناعاته المجتمعيّة في حدود حريّة الآخرين وحقوقهم، فللإنسان الحقّ في اختيار أيّ سلوك أو دين أو عقيدة، شرط أن لا يتنافى مع حريّة الآخرين وحقوقهم وفقاً لعقدٍ اجتماعي عام. أمّا في الإسلام، فليس من حقّ الإنسان أن ينحرف عن الدين الصحيح، هذا ليس حقّاً له، بل من الواجب عليه أن ينضوي تحت لواء الدين الصحيح ويعمل بما تمليه عليه إرادة السماء وليس إرادته الشخصيّة ورغباته وقناعاته الخاصّة، فلا تنفتح حريّته على التعالي عن النصّ الديني، بل هو متعبّد بهذا النصّ خاضع له كخضوع الغربيّ للقانون الآتي من العقد الاجتماعي، فليست لي الحرية في الكذب على الله ورسوله، ولا في الزنا، ولا في شرب الخمر، ولا في ترك الصلاة، بل أنا ملزم بتطبيق ما أمرني الله به، ولا أستطيع أن أقول لله بأنّني أختلف معك في وجهة النظر، فلا أريد أن أقوم بما تريده منّي؛ لأنّ لي الحريّة في ذلك 6. الحريّة في المفهوم الغربي هي التي تصنع القوانين والتشريعات والدساتير والأعراف والثقافة، أمّا الحريّة في المفهوم الإسلامي فيصنعها الشرع والقانون وتخضع لهما. هذا التمايز في الحريات يرجع إلى علاقة الإنسان بذاته وعلاقته بربّه، لكنّ هذا كلّه شيء، ومسألة هل يمكن لأحد من الناس أن يفرض عليّ الالتزام بالدين الذي لا أؤمن به أو أنّني أؤمن به لكن لا أريد تطبيقه.. شيء آخر، ففي الحالة السابقة كان خلافنا مع الغرب حيث الإنسان هو المحور في كلّ شيء، وحيث القرار بيده في كلّ الأمور، في مقابل الله الذي لا يعدو أن يكون مجرّد فكرة أو وجهة نظر، على خلاف الحال في الإسلام حيث المحور هو الله، والإنسان هو الكوكب الذي يدور في فلك الله تعالى، وقيمة الإنسان في عبوديّته لله ودورانه حول فلكه، لا في دوران الأفلاك حول الإنسان نفسه، بل إنّني قلت في أكثر من مناسبة بأنّ الثقافة الغربيّة هي نوع من تأليه الإنسان، وهي جعل الذات الفرديّة والجماعية إلهاً يُعبد من دون الله، فما تقوله أو تريده هذه الذات فهو المسموع، وهي التي نوجّه كلّ الاهتمام إليها لتظلّ مرتاحة تعيش اللذة والسرور، أمّا الله فهو تفصيل.. هو فكرة قد تنفع وقد تضرّ، ونحن نقترب منها أو نبتعد عنها تبعاً لمدى فائدتها لنا أو ضررها بمصالحنا ورغباتنا القائمة على الحريّة.7. خلاصات ونتائج : لقد أساء بعض الأفراد فهم الحرية، وسلكوا مسالك وعرة، وحينما توهموا أن الحرية ولاسيما الحرية الفكرية تقتضي العمل المتحرك أو التفكير من غير ضوابط ولا قيود، فصدموا المشاعر الإنسانية، وهزوا معايير القيم العليا، وعاثوا في الأرض فسادًا زاعمين أنهم مصلحون أو مجددون، وهم مخطئون، ويشملهم النص القرآني الكريم: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا الكهف: 103-104 أمام هذا الجدل القديم والحديث وأمام ظاهرة الشذوذ الفكري في فهم الحرية، ومنها بالذات الحرية الفردية, لا بد من تصحيح مسار الفكر الإنساني المتورط في الخطأ الفكري أو السلوك العملي حول تصور مفهوم الحرية، ولعل هذا البحث ينير الطريق في مخيلة أنصار الحرية والاستظلال في مظلتها، من غير ترو، ولا حكمة ولا تعقل ولا وعي لمخاطر الزيغ عن حقيقة مفهوم الحرية أو الإخلال بحقوق الإنسان، ومن أهمها حق الحرية المراجع: *فريدريك هايك :8ماي 1899 في فيينا-23 مارس 1992 في فرايبورخ ,كا ن اقتصادي ومنظر سياسي استرالي بريطاني ,عرف لدفاعه عن الليبرالية الكلاسيكية والرأسمالية القائمة على أساس السوق الحر ونقده للفكر الاشتراكي والجماعي (collectivist).يعد هايك أحد أهم اقتصادييي القرن الماضي,ويعد أحد أهم الشخصيات وراء التحولات الكينيزية والتدخلية التي كانت منتشرة في مطلع القرن(20)نحو سياسات تعتبر السوق الحر هو المرجع وتنبذ فكرة تدخل الدولة فيه (سياسات نيوليبرالية). **انظر كتب فون هايك ,الطريق إلى العبودية 1944,دستور الحرية1960 ,القانون والتشريع والحرية 1973. [1] - ,د بدوي عبد الرحمن1996, موقف الفيلسوف ليبنتز Leibinz موسوعة الفلسفة الطبعة 1,المؤسسة العربية للدراسات والنشرج1 ص 460. [2] انظر J, pSatre: Les chemins de la liberté; Galluion Paris 1945-1949 ; Volume n° 1 . [3]د عبد الرحمن بدوي , 1996 ,موسوعة الفلسفة , الطبعة1 المؤسسة العربية للدراسات والنشر ج1 ص 460 4-الفيروز آبادي، القاموس المحيط، مطبعة موسى محمد, القاهرة ، 2/14. 5- 5- أبو زهرة محمد، 2008 ,المجتمع الإنساني في ظل الإسلام ,الطبعة 2,الدار السعودية للنشر والتوزيع ,جدة.ص37. 6- الصعيدي عبد المتعال، 2009حرية الفكر في الإسلام، القاهرة ,مطبعة دار الفكر العربي ص 43-44 7- الصعيدي عبد المتعال، 2009حرية الفكر في الإسلام، القاهرة ,مطبعة دار الفكر العربي ص 49 *باحثة في الفكر الإسلامي وحوار الأديان