خلال الأسابيع الماضية، تطرقت العديد من المنابر الإعلامية المغربية لموضوع الغضبة الملكية على رئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، وبعيدا عن الدخول في حيثيات الخبر، في صحته من عدمه، وكذلك في دلالاته، سياقه وأبعاده في المشهد والعرف السياسي المغربي، فإن موضوع طبيعة علاقة الملك برئيس الحكومة ذو أهمية جوهرية بما كان، لاعتبارات عديدة، سنلخصها في تجربة الانتقال الديمقراطي في إسبانيا، التي كان بطلاها الرئيسان هما الملك الإسباني "خوان كارلوس" ورئيس الحكومة "أدلفو سواريش". خارطة الانتقال الديمقراطي يتحدث العديد من المؤرخين الإسبان عن أن خارطة وخطة الانتقال الديمقراطي كانت جاهزة ومعدة قبل 1975، سنة وفاة "فرانكو" وتولي الملك "خوان كارلوس" سدة الحكم؛ ويعزى ذلك إلى أن الملك في فترة ولاية العهد، ومنذ أول زيارة قام بها إلى إقليم "سيغوفيا"، كانت تجمعه علاقة صداقة قوية بحاكمها المدني حينها "أدلفو شواريز"، وطلب منه حينها إمداده بخطة الانتقال من الفرانكوية إلى الديمقراطية. وفي غياب أي وثيقة رسمية تثبت وجود خارطة الطريق تلك من عدمها، إلا أن هناك إجماعا على أن علاقة الصداقة والتوافق في الرؤى التي جمعت بين الرجلين أواخر ستينيات القرن الماضي كانت أحد العوامل الأساسية ونقاط القوة في مشروع الانتقال الديمقراطي الإسباني. 20 نونبر 1975 توفي "فرانكو" في نونبر 1975، وترك وراءه أتباعا وملكا معينا من لدنه، أقسموا على الوفاء لنهجه واتباع مساره، غير أن إسبانيا ستختار منحى آخر، منحى دخول نادي الدول الديمقراطية؛ ويعود الفضل في ذلك إلى مجموعة من العوامل والظروف المساعدة داخليا وخارجيا، لعل من بينها نخبة سياسية في مستوى الأمانة واللحظة التاريخية، وعلى رأسهم "الملك خوان كارلوس"، الذي فضل أن يخون عهده للفرانكوية ويستبدله بعهد وشرعية جديدة مستنبطة من الشعب ومن الدستور؛ وكذلك "ادلفو شواريز"، رئيس الحكومة، الذي تدرج إبان حكم فرانكو في مناصب عديدة، لعل من أهمها الحاكم المدني لإقليم "سيغوفيا" 1968، ومدير الإذاعة والتلفزة الإسبانية سنة 1969، ونائب الأمين العام للحزب الحاكم "الحركة الوطنية" أو "الموفيميانتو" في أبريل 1975. تحديات ومخاطر بالجملة صحيح أن إسبانيا إبان وفاة فرانكو كانت تتوفر على أرضية وعوامل مساعدة على الانتقال الديمقراطي (من بينها الأزمة الإيديولوجية والتنظيمية للفرنكوية، والخوف من العودة إلى الحرب الأهلية، والاستفادة من أخطاء الانتقال الديمقراطي الأول إبان فترة الجمهورية الثانية، والدور الإيجابي للكنيسة الكاثوليكية، ووجود مؤشرات تنمية اقتصادية واجتماعية مهمة خلال السنوات العشر الأخيرة من حكم فرانكو، وأكثر من 7 في المائة في معدل النمو منذ الستينيات، واتساع شريحة الطبقة المتوسطة......)، إلا أنها في المقابل كانت محاطة بالعديد من العوائق والمخاطر (البونكر، الجيش، اليسار المتطرف، الإرهاب، المخاطر الاجتماعية والاقتصادية، المطالب الانفصالية...)؛ فالحرس القديم من رجالات فرانكو هم من يسير البلاد، والملك "خوان كارلوس"، الذي يعتبر من حيث الشكل وريثا لصلاحيات وسلط "فرانكو" ليس كذلك؛ لأنه لا يملك تاريخ فرانكو الذي صنع السلطة على مقاسه ووفق رؤيته واختياراته. نقطة بداية مسلسل الانتقال أو "ثلاثي الانتقال" عندما تقلد الملك خوان كارلوس الحكم سنة 1975 ورث رئيس حكومة فرانكو "ارياس نفارو"، فما كان منه إلا أن يتعايش معه، لأنه لا يقاسمه نفس الإرادة والطموح، إلى أن قدم الأخير استقالته مكرها سنة 1976، فكانت الفرصة مواتية للملك لينزل بثقله من أجل اختيار رئيس حكومة على منواله.. هذا الاختيار لم يكن مفروشا بالورود، لكون الملك لم تكن له صلاحية مطلقة لاختيار من يريد، إذ كان هناك "مجلس الحكم"، الذي من صلاحياته ترشيح ثلاث شخصيات لرئاسة الحكومة، يختار من بينهم الملك رئيس الحكومة، فكان أن طلب الملك خوان من رئيس "مجلس الحكم" "تركوتو فرناندز ميراندا" إسداء خدمة له، وأن يفعل كل ما يمكن حتى يكون "ادلفو سواريش" من بين المرشحين. هذا الطلب سيستجيب له "رئيس مجلس الحكم"، الذي كان أحد أساتذة الملك إبان ولاية العهد، فحاول إقناع أعضاء المجلس بإدراج اسم "ادلفو شواريز"، الذي حل ثالثا في ترتيب مرشحي الرئاسة ب12 صوتا مقابل 15 صوتا للمرشح الأول "فيدريكو سيلفا مونيوز"، ليختاره الملك رغم ترتيبه المتأخر رئيسا للحكومة الإسبانية في يوليو 1976، وليبدأ معه العد العكسي والفعلي لتنزيل مشروع الانتقال الديمقراطي. وشكل هذا التعيين مفاجأة كبيرة للسياسيين والإعلاميين والرأي العام في إسبانيا، وتم الاستهزاء ب"حكومة الهواة أو الشباب" التي قادها "ادلفو شواريز"، والذي كان حينها يبلغ 43 سنة. هكذا بدأ مسلسل نجاح الانتقال الديمقراطي في إسبانيا، إذ أصاب الملك في اختيار رئيس الحكومة، ونجحت علاقة الصداقة والثقة والتفاهم التي جمعت بينهما في إنجاح انتقال ديمقراطي توفرت فيه شروط النجاح والفشل معا، إذ كان "ادلفو شواريز" رجلا إصلاحيا من رحم سلطة "فرانكو"، وهو ما أهله بدعم مباشر من الملك لتفكيك بنية النظام "الفرانكوي" والتأسيس لبناء ديمقراطي. صحيح أن العلاقة بين الرجلين ستسوء قبيل استقالة "ادلفو شواريز" 1981 وقبيل نهاية الانتقال الديمقراطي 1982، إلا أنها سرعان ما عادت إلى عهدها في ما بعد، لأن الملك كان سعيدا برئيس حكومته الذي تقاسم معه مشروع التواطؤ والتآمر على "الفرنكوية"، والذي شاركه ملحمة الانتقال إلى الديمقراطية وكتابة اسميهما كرائدي الموجة الثالثة من الانتقال إلى الديمقراطية في العالم، ورائدي إسبانيا الحديثة التي أضحت قوة سياسية واقتصادية ونموذجا للجنوب والغرب معا. مات "ادلفو شواريز" في مارس 2014، ونعتته جل الصحف الإسبانية والعالمية بكونه "رئيس الحكومة ومهندس الانتقال الديمقراطي الإسباني".