لفهم خلفيات وأبعاد قرار وزارة التربية الوطنية في استبدال اسم "التربية الإسلامية" ب"التربية الدينية"، لابد من وضع هذا القرار في سياقه العام. والذي لا يمكن فهم أبعاده ومراميه البعيدة المدى إلا من خلال معرفة المناخ الجيوسياسي العالمي وما يفرزه من إملاءات سادة القرار إقليميا ومحليا. المغرب جزء حيوي في المنطقة العربية: المغرب جزء حيوي في المنطقة العربية، نظرا لموقعه الجغرافي في شمال إفريقيا ودوره الفعال في مجموعة من القضايا الحساسة التي تهم الدبلوماسية الدولية عموما والعربية خصوصا. فالمغرب إذن يشكل قطبا محوريا واستراتيجيا في مشروع الشرق الأوسط الكبير وشمال إفريقيا. المنطقة العربية تفرخ الإرهاب: يعزي الغرب فشل المجتمعات العربية لإرساء الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى" فساد التعليم الذي يرتكز على التعليم الديني، الذي يغذي الإرهاب ويكرس ثقافة الكراهية... فحصة الدين مثلا تستغرق 10% في مصر و33% في السعودية من وقت المتعلم" 1. مركزية التعليم الديني في المنظومة التعليمية العربية: إن مركزية التعليم الديني في الدول العربية التي تعرف وضعا سياسيا هشا، تثير غضب الغرب الذي حدد لها وصفات بلسان عربي فصيح. تلك الدول العربية امتثلت لإملاء الغرب بضرورة إعادة النظر في مسألة التعليم، خاصة التعليم الديني، ذلك التعليم الذي يقوم على مؤسسات علمية دينية، تبدأ من أول السلم إلى نهايته كتعليم الأزهر في مصر، والزيتونة في تونس، والقرويين في المغرب، وديوباند في الهند، والجامعات السعودية الدينية، أم القرى، وجامعة الإمام محمد بن سعود، والجامعة الإسلامية بالمدينة، والجامعة الإسلامية العالمية في إسلام آباد ومثلها في كوالالمبور2. أصبح التعليم الديني ضمن المطالب الأميركية من الأمة العربية والإسلامية. الولاياتالمتحدةالأمريكية اكتشفت فجأة أن التعليم الديني الإسلامي تحديداً هو الذي يفرِّخ الإرهاب، والحجة التي تُساق للتدليل على ذلك أن حركة طالبان3 في المحصلة النهائية هي نتيجة طبيعية لهذا النوع من التعليم. على رأس قائمة الدول التي تحتضن التعليم الديني: باكستان والمملكة العربية السعودية التي يضغط عليهما بالدرجة الأساس لتغيير مناهج التعليم. يؤكد على ذلك توجيه إيلينور عبد الله دوماتو الباحثة في جامعة براون الأميركية نقداً لاذعاً إلى برنامج التعليم الديني في المملكة العربية السعودية4 الذي وصفته بأنه تعليم ينشر ثقافة "الكراهية نحو الآخرين". المنطلق: باعتبار التعليم من أهم القضايا في الوقت الراهن المعوقة للتنمية الاقتصادية والبشرية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فهو ورشة مفصلية حقيقية لتطبيق الأفكار الإصلاحية بالمنطقة العربية في المرحلة القادمة. وكان المنطلق ترسيخ أسئلة صريحة ومحددة: مم يتكون التعليم الإسلامي التقليدي على وجه التحديد؟ كيف أثرت تركة الاستعمار الأوروبي على هذه البرامج التقليدية؟ ما هو دور الإصلاح التعليمي في إحداث التنمية ؟ ما هو حال التعليم في العالم العربي في الوقت الحاضر؟ ما نتائج محاولات إصلاح برامج التعليم العربي والإسلامي حتى الآن؟ أسئلة مشروعة لكل باحث، لكنها مدسوسة تَنم عن سوء نية وإرادة في التشكيك في مسلمات كان دورها ترسيخ المبدأ والغاية والسلوك. منذ مطلع الألفية الثالثة، بدأت تفرز مع هذا الاستفهام توجيهات عامة وأخرى خاصة للدول العربية والإسلامية حسب المعطى الجيوستراتيجي، ورصدت لها ميزانيات كبيرة وقروض ضخمة وهبات وعطاءات متواصلة يسيل لها لعاب من تستهويه سياسة التبعية والولاء اللامشروط. المغرب مختبر التجارب الدولية: لعل ما أقدمت عليه وزارة التربية الوطنية في المغرب في إحداث طفرة في استبدال إسم الإسلام باسم الدين يحمل دلالات كثيرة لها بعد سياسي أكثر من تربوي، أهمها: ترتيب المغرب في أسفل سلم التقارير الدولية للتعليم. ففي أحدت تقرير للبنك الدولي، يكشف عن تأخر المغرب عن أقرب جيرانه من حيث، مستوى العيش وفي التربية والتعليم والتكوين المهني.وكشف البنك الدولي على أن المغرب يوجد في مرتبة خمسين سنة من التأخر ليس في مستوى المعيشة مقارنة بأقرب جيرانه في الشمال الأفريقي فحسب، وإنما في إمكانيات خلق فرص شغل جديدة وفي تحسين مستوى التعليم والتكوين المؤدي الى هذا الشغل. إظهار قابلية الاستجابة السريعة لإملاءات البنك الدولي ومهندسي القرارات الجيوسياسية، ومن أهمها مراجعة منظومة القيم المعتمدة في التدريس. تبني المغرب في منظومته التعليمية "الثقافة الدينية" بدل "الثقافة الإسلامية" برهان آخر على أن السياسة التعليمية تسير قدما نحو خيار تسامح الأديان و تعايش الثقافات ونبذ ثقافة الكراهية. وهذا من شأنه أن يدر على صناديق الإصلاح مزيدا من ملايين الدولارات ! سيادة القرار السياسي على التربوي، رغم استغراب واستياء الجمعية المغربية لأساتذة التربية الإسلامية، التي تضم مفتشي المادة وأساتذتها بالتعليم الثانوي الإعدادي والتأهيلي، والتي تضم ما يربو عن أربعين فرعا في مختلف مناطق المغرب، وذلك بعد اطلاعهم على نتائج أعمال اللجنة المكلفة بالمراجعة والإصلاح. واعتبرت الجمعية أن هذا القرار مخالف للدستور وخرق قانوني ومسطري، إذ "كيف يمكن لمذكرة صادرة عن أي مديرية وغير صادرة في الجريدة الرسمية أن تلغي أو تنسخ ما يخالف الدستور أو المراسيم والقرارات الوزارية"5. 2030، تاريخ يتوافق مع الرؤية الاستراتيجية لإصلاح التعليم للمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي بالمغرب وانتظارات المنتظم الدولي لمشروع الشرق الأوسط الكبير وشمال إفريقيا. وبعد، بعد تسليط الضوء على خلفيات مثل هذه القرارات الاستعجالية ذات البعد السياسي، وقبل أي نقاش تربوي لمثل هذه القرار التي سوف تتناسل اتباعا في ظرفية تعرف فيه الأسرة التعليمية تشرذما وتدمرا لما آل إليه التعليم في وطننا الحبيب، بل أصبحنا نلحظ هجرة كبيرة من الأسرة التعليمية يفرح المغادر ويتمنى المتبقي متى يصل وقت الفرج للتخلص من الجسم التعليمي المريض... يتعين على المواطن العربي أن يمتلك الوعي الاستراتيجي في قراءته لكل ما يصيب الجسم التعليمي، وعدم الانزلاق في ردود الأفعال المتشنجة التي تكون غالبا فقعات تتلاشى لضعف الفاعل التربوي، وتتقادم ثم تختفي لغياب البعد الاستراتيجي في إحداث إصلاح حقيقي. *باحث في قضايا التربية والتعليم مؤلف كتاب:" أزمة التعليم وسؤال الإصلاح"