بيّنّا في مقالات سابقة أن الإصلاح في المغرب الحالي، وفي أي مجال، لن ينجح إذا لم يوضع في سياق ثورة حقيقية، أي في سياق حركة مجتمعية تحدث قطيعة مع الماضي و تفسح السبيل لبداية عهد جديد0 و بيّنّا كذلك أن الثورة البيضاء ممكنة إذا توفّرت النية الصادقة و الخالصة لدى الجميع، وخاصة لدى من بيدهم زمام المبادرة0 و أوّل ما يمكن أن تظهر به هذه النية هو دسترة توصيات هيأة الإنصاف و المصالحة و إطلاق سراح كل المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرّأي الجدد ( أي الذين اعتُقِلوا بعد المصالحة ) و إعطاء ضمانات لكي لا يُعتقل مواطن مغربي مستقبلاً من أجل أفكاره أو نشاطه السياسي0 وللثورة البيضاء في المغرب شروط أخرى حصرناها في تفكيك المخزن و وضع آليات تنظيمية و تشريعية جديدة و فتح ورش كبير للتعبئة و التوعية و التربية هدفه غرس قِيم الديمقراطية في السلوك الفردي و الجماعي، و توظيف الإعلام العمومي لخدمة هذه القضية الوطنية الكبرى و دمقرطته لكي يصبح حقيقة في خدمة المجتمع المغربي بتعدّديته الثقافية و السياسية و الاجتماعية0 نتعرّض في هذا المقال إلى الآليات التشريعية و التنظيمية الضرورية لإنجاح الثورة البيضاء. 1. هيأة وطنية مستقلّة أولى هذه الآليات إحداث هيأة وطنية مستقلّة تشرف على تنظيم جميع الاستشارات الشعبية المقبلة0 و تتكوّن هذه الهيأة ، إلى جانب القضاة، من ممثلين عن المجتمع المدني و السياسي0 ويكون لها في كل الجهات والأقاليم فروع تسهر على نزاهة الاستشارات ولها صفة تقريرية في البث في النزاعات و الطعون 0و توضع رهن إشارة هذه الهيأة الإمكانات اللُجستيكية لوزارة الداخلية0 قد يقول معترض لماذا لا تتكلّف هذه الوزارة بتنظيم الاستشارات الشعبية كما هو الشأن في كل الدول الديمقراطية0 للجواب على هذا السؤال شقّان: الشق الأوّل سياسي: لسنا في دولة ديمقراطية وزير داخليتها عضو عادي في حكومة منبثقة عن التمثيلية الشعبية و رئيسها هو الرئيس الفعلي للسلطة التنفيذية 0 هذا ما نأمل حصوله على المدى القريب0 حينئذ، ستتعاون السلطة التنفيذية، ممثلة في وزارة الداخلية و تحت سلطة رئيس الحكومة، مع السلطة القضائية و تحت مراقبتها، للسهر على نجاح الاستشارات الشعبية0 الشق الثاني نفسي: لاسترجاع ثقة المواطن، لا بدّ أن يشعر هذا الأخير بالتغيير حتى على مستوى مسؤولية الإشراف و التنظيم والحدّ من الخروقات. 2. الدستور الجديد سيكون الدستور المنتظر أهم آلية تشريعية تُحدِث الثورة المنشودة إذا جاء فعلاً بتغيير عميق و حمل ابتكارات جرّيئة0 يُنتظر منه أن يكرِّس مفهوم الشعب مصدر السيادة و توسيع الحريات الفردية و العامّة و مبدأ فصل السلط و وحدتها0 يُنتظر منه كذلك أن يعلن سموّ القانون الدّولي و مساواة الرّجل و المرأة في الحقوق المدنية و السياسية و الاقتصادية0 الميثاق الجديد يمكن أن تكون هذه المبادئ العامة من ضمن الأفكار التي سيتضمّنها الميثاق الجديد و الذي سيكرِّس الخيار الديمقراطي بمفهومه الكوني كخيار نهائي و ثابت للشعب المغربي و لدولته بجميع مؤسساتها0و إذا تصدَّر هذا الميثاق الدستور الجديد فسيكون بمثابة تعاقدٍ سامٍ يُلزِم الجميع0 و قد قلنا في أوّل مقالات هذا الموضوع إن هذا الميثاق سيكون أهمّ ما في الدستور الجديد إذا جاء في التصدير لأنّه يحمل في طيّاته سِمات الانتقال النوعي إلى عهد جديد0 حماية الدستور يجب أن يُحدث الدستور الجديد وسائل حمايته من القوانين التي قد تتعارض مع روحه و لفظه و تضمن له الاحترام و التفعيل0 في موضوع توسيع الحرِّيات الفردية والعامّة مثلاً، وعدم تقليصها والحدِّ منها بقوانين هدفها المُعْلَن هو تنظيمها، يجب أن يُوضّح الدستور أكثر دور الأحزاب السياسية و منظمات المجتمع المدني و النِّقابات0 لهذا، فإن استقلالية الغرفة الدستورية و تقوية سلطتها سيفعِّل مراقبة دستورية القوانين و يحمي الدستور من تجاوزات السلطة التنفيذية0 و لنفس الهدف، يجب على الدستور الجديد أن يعطي حقّ اللجوء إلى هذه الغرفة لأي مواطن يضبط في نصٍّ قانوني ما يخالف الدستور0 معايير دعم الدولة للأحزاب يجب كذلك أن يُبرز الدستور أنَّ سياسة دعم الدولة لمختلف التنظيمات التي تشتغل في المجتمع السياسي أو المدني ، و خاصّة الأحزاب، مبنية على تقييم موضوعي ودقيق لنشاطها وإشعاعها وقدرتها الإبداعية و الابتكارية في تحاليلها و قوّة اقتراحاتها و برامجها0 ذلك لأن الوضع الحالي الذي يقدِّر دعم الدولة للأحزاب بناءً على عدد الأصوات و المقاعد يسعى إلى تقوية الأحزاب التاريخية و الأحزاب الإدارية و دفع الأحزاب الأخرى إلى الانقراض0 و قد ظهر أن هذا الاختيار الذي يسعى إلى تجّنب "بلقنة المشهد السياسي" لم يُعطِ أغلبية واضحة السياسة و البرامج بل أفرز جموداً على مستوى كل الأحزاب و حكومة لا تمثِّل إلّا نفسها، فيها خليط من التقنقراط، وأعضاء في أحزاب تاريخية و إدارية، منهم من هو من "الأغلبية" و"منهم من هو محسوب على ‘المعارضة' 0 الوضع القانوني للمعارضة تقنين وضع المعارضة من المستجدّات التي يمكن للدستور أن يتضمّنها ويساهم بها في الثورة البيضاء التي نتحدّث عنها0 يعني الوضع القانوني للمعارضة الإقرار بدورها البنّاء في التشريع و المراقبة و التدبير الديمقراطي للمؤسسات0 كما أنه يكرِّس اعتراف الدولة بها كمعارضة و يخوِّل لها الوسائل المادِّية و التنظيمية للاشتغال في أحسن الظروف0 يعني هذا كذلك أنّ للمعارضة رئيس يُنتخب أو يُتّفق عليه من ضِمن قيادييها و يقوم بدور التنسيق و التنظيم و التمثيل الرّسمي0 الحصانة البرلمانية أصبحت الحصانة البرلمانية التي تبنّتها كل الدساتير المغربية منذ 1962 تطرح مشكلاً خطيراً في المؤسسة التشريعية وفي الفعل السياسي بالمغرب0 ذلك لأنها أصبحت امتيازاً يُشترى بملايين الدراهم. وإلّا كيف يُعقل أن يصرف بعض المرشّحين ما يفوق بكثير راتب البرلماني لمجموع سنوات ولايته. أظن أن الجواب على هذا التساؤل لا يتطلّب جهداً كبيرا: إمّا أن المرشح يركد وراء حصانة تقيه من كل مكروه قد يصيبه في " أعماله " أو أنّه يسعى إلى ولوج موقع يفتح له باب "الأخبار المفيدة" و استغلال النفوذ. وفي كلتا الحالتين، تتسبّب الحصانة في إفساد العملية الانتخابية قبل الانتخابات و في إفساد العمل البرلماني بعدها. لهذا فإن حذف الحصانة، في شكلها الحالي، و تعويضها‘ بحصانة حرِّية الرّأي المطلقة ‘ ستكون إحدى الإجراءات المهمة لمحاربة الفساد السياسي و الحدِّ من المتاجرة بالأصوات و المقاعد ، لأنّها ستحمي النائب البرلماني في عمله دون أن " تحصِّنه" من العدالة في حالة ارتكاب جنحة أو جناية0 بصفة عامّة، يُنتظر من الدستور الجديد تكريس الديمقراطية بمفهومها الكوني و تجلِّياتها المختلفة على المستوى السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي0 3. مراجعة مدوّنة الانتخابات تهدف مراجعة مدوّنة الانتخابات إلى : • ملاءمتها مع ما سيأتي به الدستور الجديد من مقتضيات تهم الجهوية المتقدِّمة و فصل السلط و دور القضاء في ضمان استشارات و انتخابات نزيهة و أحكام سريعة لردع المفسدين وزجرهم حين ارتكاب الخروقات. • تقنين تجريم كل صِيغ التزييف و التلاعب بأصوات الناخبين و استعمال المال و المتاجرة السياسية • إلغاء اللوائح الانتخابية الحالية و تعبئة جميع الناخبين للتسجيل من جديد في لوائح تشرف عليها الهيأة المستقلّة و فروعها0 • مراجعة التقطيع الانتخابي بشكل يعزِّز التمثيلية و يحدّ من التباين الحاصل حالياً بين عدد الأصوات و عدد المقاعد • تعميم نمط الاقتراع باللائحة و محاربة زبونية الأعيان و تجّار الانتخابات مراجعة قانون الأحزاب تهدف مراجعة قانون الأحزاب إلى تأكيد دورها في تأطير العمل السياسي و في المساهمة في توعية المواطن و غرس قيم الديمقراطية في المجتمع المغربي0 كما تسعى إلى توسيع مجال عملها و حرِّيته و حثِّها على إنتاج فكر سياسي حديث و متجدِّد يقوم على البحث و الخلق و الإبداع و على الممارسة اليومية و الاحتكاك بالواقع0 و من ضمن هذه المواضيع مثلاً : • تقديم برنامج مستمر لنشاط الحزب ( سنوي أو نصف سنوي) يبيِّن فيه عمله على مستوى التأطير الجماهيري و البحث ومتابعة عمل الحكومة داخل البرلمان و خارجه و المقترحات التي تقدّم بها، إلخ0 • إعطاء الأحزاب الإمكانية القانونية والمادِّية لنشر هذه الأعمال و الإخبار عنها ا طيلة السنة و بدون قيد، عبر وسائل الإعلام و خارجها لإنشاء أو تطوير صِيَغ التواصل مع المواطنين • تخفيض العتبة إلى %2 لإعطاء الفرصة لأحزاب حديثة، لم تستفِد لا من التاريخ و لا من " كرم " الدولة، للمساهمة في الفعل السياسي و تجديده0 مراجعة القانون الداخلي للبرلمان تهمّ مراجعة القانون للبرلمان موضوعان أساسيين: غياب البرلمانيين غياب البرلمانيين هو الموضوع الأوّل لتعديل القانون الداخلي للبرلمان0 فقد لوحظ في السنين الأخيرة تفاقم هذا المشكل ومسِّه الخطير لمصداقية هذه المؤسسة0 فهي ضعيفة التمثيلية و ضعيفة المردودية لأنّ البرلماني لا يحاَسب ولا يراقَب لا من قِبل فريقه ولا من قِبل حزبه0 لا بدّ إذن من مسطرة لتقييم عمل النائب و متابعته لأشغال المجلس و مساهمته و مراقبة حضوره و تحديد إجراءات زجرية في حقه إذا تمادى في الغياب و عدم المشاركة0 مدّة المداخلات إذا قبِلنا فكرة منح المعارضة وضع قانوني يحدِّده الدستور، فلابدّ من تمكينها من القيام بدورها الكامل في المراقبة واقتراح القوانين و الدِّفاع عنها و عن التعديلات التي تأتي بها0 لهذا وجب، في اعتقادي أن تحظى في مداخلاتها و مناقشاتها للحكومة بوقت أطول من وقت الأغلبية0 خلاصة هذه مجموعة من الآليات التشريعية و التنظيمية، يمكن أن تضاف إليها آليات أخرى، ستخلق عند إحداثها و تفعيلها جوّاً سياسياً جديداً يعيد الثقة إلى المواطن وستساهم في هذه الثورة الثقافية التي نريد منها تغيير العقليات في المغرب في اتجاه الحداثة و المواطنة الحقّة0 بَقِيَ أن نتحدّث عن دور التعبئة والإعلام في هذا الورش الكبير، ورش الديمقراطية في بلادنا0 وهذا موضوع المقال المقبل0